ثورة يوليو مناسبة لتجديد مسار الأمة، وبناء مستقبلها

محمد علي صايغ

في هذه الأيام تحل ذكرى مرور 72 عاماً على قيام ثورة يوليو /تموز المجيدة …  ونعود في كل عام لنقف عندها، لا لمجرد استعادة ذكرى ثورة قامت وانتهت، ولا من أجل التغني بأمجاد ثورة وضعت أسساً على طريق النهضة المصرية، بل من أجل استخلاص القيم النظرية والعملية للثورة، والوقوف عند ما أنجزت وما أخفقت، وإجراء المقارنات بين ما اعتمدته وعملت عليه الثورة وبين ما نحن عليه اليوم، والتفكير الهادئ والعميق في كيفية بناء وطننا بعد الثورة السورية الحديثة وما تواكب معها من حروب وانزلاقات ومآسي وخراب ليس في البنية التحتية والاقتصادية وما رافقها من هجرة ونزوح.. وانما في التركيبة النفسية والفكرية للإنسان السوري، وفي هذا التشويه الكبير لمواقفه وخياراته، وفي هذا الاختراق الكبير للنسيج الوطني وهذا التنامي لروح الثأر والانتقام، وفقدان البوصلة الوطنية في بناء التعايش الوطني والسلم الأهلي، وفي حالة الغربة والاغتراب في العلاقات البينية بين أبناء شعبنا، لنكتشف أن الخلاص من الاستبداد لا يأتي ” بكبسة زر “، وأن العقود المديدة للاستبداد وارتهاناته وإفرازاته لازالت تتفاعل فينا وفي سلوكياتنا، وبحاجة لزمن – نتمنى أن لا يكون طويلاً – للشفاء منه.

ونعود للحديث عن ثورة يوليو التي انطلقت رداً على فساد الطبقة الحاكمة في مصر، وعلى التآمر والفساد في حرب فلسطين، وعلى الارتباطات بالقوى الاستعمارية المتحكمة في سياسات مصر ومصيرها، ثم وقبل ذلك على الطبقة الإقطاعية والرأسمالية التي امتلكت الثروة والسلطة معاً على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب المصري الذي كان يئن تحت وطأة الفقر والجهل والمرض، وانعدام فرص التعليم والتوظيف إلا لكبار الملاك وأصحاب السلطة والنفوذ.

وإذا كانت ثورة يوليو بقيادة عبد الناصر لم ترتكز إلى مشروع أيديولوجي جاهز، كما لم تقم على رؤية استراتيجية للتغيير مسبقة الصنع، فإن مبادئ الثورة الستة في بيان إعلانها وإن كانت تخص التغيير وضمن الحيز الجغرافي في مصر، لكن عبد الناصر بنظرته التاريخية الثاقبة مد بصره خارج حدود مصر إلى الأمة العربية والدول الإقليمية والدولية الأخرى ضماناً للأمن القومي المصري..

ولقد مرت تجربة الثورة المصرية بمراحل وأطوار، كانت في كل مرحلة تقوم بعملية تحديث وتطوير لمواقفها ومقولاتها (من فلسفة الثورة إلى الميثاق الوطني إلى بيان ٣٠ مارس…).. وقد أنتجت في ما بعد عام ١٩٦٧ رؤيتها وانضجتها بالممارسة.. وقد أتيحت لتلك التجربة قيادة تاريخية استثنائية (قيادة عبد الناصر) في تعاملها مع الواقع وعدم الاحتكام لحقائق جاهزة ومنزلة، آخذة بالاعتبار أن منطق التاريخ يحكمه صيرورة متكاملة متجددة تتشكل في حركة وعي الإنسان واستيعابه للواقع ومتغيراته.. وقد أشار عبد الناصر في فلسفة الثورة إلى ” أن قصص كفاح الشعوب ليس فيها فجوات يملؤها الهباء، وكذلك ليس فيها فجوات تقفز الى الوجـــــــــود دون مقدمات ” …

ولقد تقدمت ثورة يوليو في معاركها وتوجهاتها داخلياً على مرتكزين أساسيين هما:

١- التحرر الوطني والاستقلال الوطني من كافة القوى الأجنبية ورفضها لأي نفوذ مهما كان، ومحاربتها كافة الأحلاف الغربية بما قد يضعف من سيادة الدولة واستقلالها

٢- التنمية: عملت الثورة بجهد دؤوب في مجال التطوير الاقتصادي الصناعي والزراعي والخدمي وكافة أوجه الإنتاج من أجل النهوض بمصر ورفع مستوى الدخل للمواطن بالتوازي من التضخم السكاني الكبير.. ومن أجل هذا النهوض اتجهت إلى الصناعة الثقيلة كصناعة الصلب وغيرها.. مرتكزة في ذلك النهوض إلى معيار تكافؤ الفرص دون تمييز وإلى العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة الوطنية.

يضاف لكل ذلك أن الثورة اعتبرت جزء من أهدافها واستراتيجيتها أن الأمن القومي المصري جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي، وناصرت ودعمت حركات وثورات التحرر العربية من الاستعمار وقوى السيطرة الدولية كما دعمت كل ثورات التحرر في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية.. وكانت فلسطين بالنسبة للثورة أولوية، ومصير أمة في وجودها، لم تتنازل عنها بالرغم من كل الضغوط والمغريات التي فرضتها او قدمتها مراكز القرار والهيمنة الدولية ووقفت بحزم بعد نكسة حزيران عام ١٩٦٧ لتعلن في قمة الخرطوم شعار: لا تفاوض ولا تنازل ولا استسلام.

لن استطرد كثيراً بالحديث عن ما أنجزته ثورة يوليو، ذلك لأن الحديث عنها لا يختصر بأسطر.. وقد كتب عنها دراسات وأبحاث، وسيكتب عنها في المستقبل دراسات.. وسيبقى من يعاديها من القوى الدولية الاستعمارية المعادية لأمتنا ومن يدور في فلكهم يشن عليها الحملات ويثير حولها مزيج من الغيرة والحقد والانتقام في محاولة لتشويه صورتها، واقتلاع ذكراها من ذاكرة شعبنا.

ولا شك بأن ثورة يوليو لم تتحرك بخط مستقيم صاعد، وهي ككل ثورة تعرضت لنكسات وأخطاء في التطبيق وعثرات في بعض مراحل عمرها القصير.. فكانت جريمة الانفصال، ونكسة حزيران حدثان أثخنا جسد الثورة بالجراح العميقة رغم وقوف جماهير الأمة بعد الانفصال، وفي ٩ و١٠ حزيران   لمنع سقوط الثورة وانهيارها، معلنة بعزم وحزم التمسك بعبد الناصر قائداً للثورة ورفض قرار اعتزاله..

كما أن عدم نضج التجربة الديمقراطية وإنضاجها وفقدان الحوامل القادرة على بنائها، كانت الثغرة الكبرى التي نفذت من خلالها قوى الردة والرجعة بقيادة أنور السادات وبدعم من مراكز القرار الدولي الاستعماري إلى الانقضاض على الثورة ومكتسباتها، وإلى خط طريق معادٍ لها.

وبعد مرور كل هذه العقود على إجهاض الثورة بعد وفاة عبد الناصر، أو محاولة ضرب مرتكزاتها، وهذا الضياع والتشتت والانهيارات المتلاحقة مرحلة بعد أخرى لدولنا وشعوبنا، فإن الخطوط العريضة لثورة يوليو لا زالت حاضرة، ولازالت تشكل مقدمات أساسية للمشروع العربي النهضوي …

وفي هذا الصدد وفي سبيل تجاوز الثغرات والمطبات التي وقعت فيها الثورة وتجاوز الأسباب المؤدية إلى العثرات التي وقعت بها، لا بد من التأكيد على المنطلقات التالية:

١- إن الزعامة التاريخية لوحدها لا تشكل ضماناً لاستمرار مسيرة أي تجربة أو ثورة، وأن الحاكم أو الزعيم مهما بلغت إمكاناته وقدراته فإنه يبقى معرضاً للخطأ أو الارتداد أو الموت. ولا بد من الارتكاز في الحكم على قيادة منتخبة لا يختطفها أو يتحكم بها فرد مهما علا شأنه أو موقعه ويعمل وفق قواعد الدستور والقانون، قيادة لا تخلف فجوات حال انقطاعها أو غيابها أو انتهاء مدة حكمها، من أجل بناء مؤسسات الدولة القادرة على إنجاز مهام التغيير الثوري واستمراره.

٢- إن الانجازات التاريخية مهما بلغت أهميتها تبقى معرضة للانتكاس والضياع في غياب مؤسسات حاضنة لهذه الانجازات تتشكل قيادتها استناداً لأصوات الناخبين وتتجدد بالتداول وضمن مدد زمنية لا تقبل التمديد والتجديد.

٣- إن الكيانات القطرية القائمة على الاستبداد السياسي، والمتصادمة مع النهج الديمقراطي ببعده القومي، قد فشلت في درء المخاطر التي تجتاحها، بل إن الواقع أثبت أن تلك الكيانات القطرية أصبحت مهددة حتى في سيادتها الوطنية.

٤- إن القوى الامبريالية الامريكية والغربية لا يمكن أن تكون عونا ودعما وصديقا للأمة العربية، وهي بارتباطها العضوي بالصهيونية ومن أجل الاستمرار في استنزاف مقدراتنا عملت وما زالت على ضرب كل محاولات النهوض العربي، وقد دفعت تلك القوى المعادية لأمتنا في فعلها ومؤامراتها الى إضعاف الأمة وتهديم بنيانها، وتحويلها الى دول مسخ متصادمة مع بعضها، والعمل على إذلالها وتحويلها إلى رهينة تحت رحمة الكيان الصهيوني.

٥- إن بناء نظام ديمقراطي يقوم على المشاركة السياسية الفاعلة في بناء مؤسسات الدولة والحكم ، وإطلاق فعاليات الشعب ومنظماته وأحزابه ، وإشراكها في عملية صنع القرار السياسي ، وتعزيز الحوار والتفاعل بين كافة المكونات السياسية في المجتمع ، وإدارة التباينات والخلافات باعتبارها مصدرا للتنوع والقوة، نظام يرتكز على العدالة الاجتماعية ويهدف إلى الانعتاق من الدكتاتورية ، ويحمي الحريات ويصون الحقوق ، ويتمتع فيه جميع المواطنين بالحماية القانونية في ظل نظام قضائي مستقل وعادل ، وفي إطار نظام اقتصادي يراعي العدالة الاجتماعية ، وتكافؤ الفرص ، والتوزيع العادل للثروة الوطنية ، هو المدخل الحقيقي لنهوض الأمة من عثارها ، اذ لا معنى للديمقراطية في ظل التمييز الاجتماعي والفوارق الطبقية الواسعة ، ولا معنى لأي إنجاز اجتماعي واقتصادي في ظل أنظمة الاستبداد والفساد .

إن هذه المنطلقات أو المرتكزات أساس لنجاح أي ثورة للتغيير على طريق النهوض السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. وبناء الدولة القوية القادرة على مواجهة الأزمات والاضطرابات وقوى النفوذ والسيطرة الخارجية..

ومن أجل أن تكون ثورة وطنية لبناء الدولة لا بد من تجاوز أعباء ومخلفات الماضي ومآسيه، والعمل على بناء الحاضر والمستقبل.. دولة من أجل الكل، كل الشعب بجميع فئاته وطوائفه ومذاهبه ومكوناته.. دولة تقوم على الكفاءات لا على الانتماءات أو الأعراق أو الأجناس، الولاء والانتماء فيها للوطن، دولة تكفل حق المشاركة في الحياة العامة وفي حق التعبير والاعتقاد والدين وممارسة الشعائر الدينية وتضمن الصحة والأمن والمساواة بين المواطنين، وبين الحاكم والمحكوم أمام القانون في ظل مبدأ المواطنة المتساوية لجميع المواطنين وفي إطار نظام ديمقراطي تداولي يقوم على حكم المؤسسات لا على سيطرة أي فرد أو جماعة أو حزب بالقوة والعنف أو الانقلاب من فوق إرادة الشعب وخياراته..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى