رحلة سجين الفصل الثالث عشر: خلدون يبحث عن أجوبة في حالات مشابهة

د. أحمد سامر العُش

خلدون قبل الثورة كان برفقة أحمد يقرأ كثيراً في الثورات على الظلم والاستبداد، وكانا أحياناً يُعرجان على تجارب الشعوب بعد الحروب الأهلية والصراعات الداخلية، لكن على الرغم من تشابه الظلم بل تتطابقه في مختلف الأزمنة والأماكن، فإنه يكاد من المستحيل نسخ الحلول من تجارب مماثلة؛ لأن المتغيرات شديدة والمعطيات كثيرة، فعلى سبيل المثال: مشروع مارشال لنهوض أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، أو إعادة هيكلة النظام السياسي والاجتماعي في اليابان على يد الجنرال دوغلاس ماكارثر، لم يكونا ليتحققا لولا قرار سياسي له معطياته في وقتها. كذلك حدث مع إنهاء التمييز العنصري في جنوب إفريقيا وإنهاء مأساة راوندا بين التوتسي والهوتو. بالتأكيد كان رأي خلدون أن القرار السياسي الخارجي عليه أن يتقاطع مع إرادة داخلية ووعي من الإنسان في تلك البلدان، لكن ما القرار السياسي في سوريا وما مستوى الوعي لدى شعب سُحِقَ بين سندان الاستخبارات الدولية ومطرقة الأسدين؟

كان هناك شخصان ملهمان لخلدون وأحمد في قيادة التغيير المجتمعي رغم صعوبة التحديات الخارجية والداخلية، وهما نلسون مانديلا ومالكوم اكس؛ فقد لعب هذان الشخصان دوراً بارزاً في تحقيق التحول الاجتماعي الذي بدا للمراقب الصامت في وقتها أمراً أقرب للمعجزة، الأول: دفع ثمن هذا الإنجاز سبعة وعشرين عاماً في السجن، والثاني: دفع حياته ثمناً لما يؤمن به.

إعادة قراءة الاثنين في ضوء المعطيات المخيفة التي جمعها خلدون في قراءته للاعبين على مسرح المأساة السورية، جعلتهما يتسللان إلى رؤياه، حيث شاهدهما معاً يناقشان المسألة السورية ودار بينهما الحوار التالي:

نلسون مانديلا:

أيها الأخ مالكوم، في كثير من الأحيان أتأمل في معاناة الشعوب التي غُيّبت عن حقوقها الأساسية. سوريا، اليوم، تتنقل بين طيات الحروب، حيث يتقاتل أبناؤها على خلفية الصراعات الطائفية التي كانت ضبابية في يوم من الأيام. إن الجوع والجهل قد ألقيا بظلالهما على الشعب، لكننا كنا في جنوب إفريقيا نواجه تحديات مشابهة. أعتقد أن الحل يكمن في المصالحة، في أن يمدّ الجميع أيديهم لبعضهم بعضا، للترتيب معاً على بناء وطن جديد.

مالكوم إكس:

أفهم ما تقوله، نلسون. لكنّني أختلف معك بعض الشيء في مقاربتك. لم يكن تغيير النظام الذي كان يضطهدنا في الولايات المتحدة يتطلب مصالحة. ما يتطلبه الأمر هو تحرير الشعب من الظلم والاعتراف بأن أيَّ حل لابد أن يبدأ بالعدالة أولاً. الأحقاد الطائفية في سوريا ليست فقط نتيجة لتاريخ من القهر، بل هي أيضاً نتيجة لغياب العدالة المستمر. الشعب السوري اليوم يصرخ في وجه الظلم ويحتاج إلى ثورة. ليس ثورة على الطريقة التي نعرفها فقط، بل ثورة فكرية وحضارية.

نلسون مانديلا:

أنت محق في أن الظلم هو ما يولّد الاحتقان. لكننا في النهاية لا نعيش في عالم مثالي، مالكوم. في جنوب أفريقيا، كنت أؤمن أن التغيير الحقيقي لا يمكن أن يتحقق من خلال العنف فقط، بل بالتحول الداخلي لكل فرد. إن أول خطوة نحو الشفاء هي أن يعيَ الناسُ أن معاناتهم لا يجب أن تظل تفرّقهم. السوريون بحاجة إلى إشراك الجميع في طاولة الحوار، سواء كان ذلك عبر الانفتاح على الأطراف المتنازعة أو مساعدة الناس على تجاوز الجروح التي لم تلتئم بعد.

مالكوم إكس:

لكن كيف يمكن للجروح أن تلتئم إذا كانت الطبقات الحاكمة والظالمة لا تعترف بما فعله ظلمها؟ أنت تدعو للمصالحة بين من لا يرغبون في تغيير الواقع، بينما يجب أن يكون السؤال الأهم: هل هناك نية حقيقية في تحقيق العدالة؟ كما تعلم، يا نلسون، في كثير من الحالات، لا يكون الوضع إلا نتيجة لسيطرة قوى إقليمية ودولية تدعم النظام الظالم. وإذا لم يتم التخلص من هذه القوى الخارجية، سيبقى الشعب السوري في دوامة لا تنتهي. الحل ليس في الرغبة فقط، بل في الإرادة للقتال من أجل الحرية.

نلسون مانديلا:

أنت تشير إلى نقطة هامة. السيطرة الإقليمية والدولية، والشرخ الطائفي، كلها مؤثرات تعقد الحل. لكن تجربتي علمتني أنه لا يمكننا إنكار وجود هذه القوى، بل يجب أن نبحث عن طرق للتعامل معها بحكمة. في جنوب إفريقيا، كانت القوى الدولية تلعب دوراً مهماً في الضغط من أجل التغيير، لكننا سعينا لبناء ثقافة سلام حقيقية من خلال العمل المحلي. إذا كان لدينا إرادة جماعية لبناء سوريا جديدة، فلا بد أن نقبل بالمصالحة مع الحقائق المرة، مع الأشخاص الذين تسببت أخطاؤهم في جزء من الدمار، ولكن هذا لا يعني أن نعفيهم من المسؤولية. العمل من أجل المستقبل يبدأ من الآن، ويجب أن يكون التغيير في القلب وفي العقل.

مالكوم إكس:

أنا لا أنكر أن الحل يبدأ من داخلنا، ولكن يجب أن ندرك أيضاً أن الحلول لا تأتي فقط بالحديث عن السلام والمصالحة، بل من خلال نضال حقيقي يقودنا إلى بناء عدالة حقيقية. السوريون في وضع لا يحتمل الإبطاء. لا نريد أن نظل أسرى الماضي، ولكننا بحاجة إلى أن نكون أكثر حسماً في استئصال جذور الظلم؛ لأنه لا يمكن للسلام أن يبنى على أساس متصدع.

نلسون مانديلا:

أعتقد أننا نتفق في النهاية على أن العدالة هي الأساس، ولكنها تحتاج إلى الوقت، والإرادة، والتكاتف. السوريون لديهم القدرة على بناء وطن جديد إذا استطاعوا العمل معاً، لا تحت ضغط الطائفية، بل من أجل المصلحة العليا لكل فرد في المجتمع. نحن هنا لندعوهم إلى أن يكونوا أبطالاً في مساعيهم لبناء هذا المستقبل، بل أن يظلوا مؤمنين بحقهم في الحرية والكرامة.

مالكوم إكس:

أنت محق، يا نلسون، في أن العدالة هي الأساس. ولكن هنا يأتي سؤال آخر: هل يمكن أن نحقق العدالة في ظل الهيمنة المستمرة من القوى الدولية التي تتدخل في الشؤون السورية؟ في الحقيقة، هناك دول تسعى لتمزيق سوريا بشكل مدروس، وعلى رأسهم إسرائيل، التي تسعى لتقسيم المنطقة بما يتناسب مع مصالحها الخاصة، وتحقيق مشروع “الشرق الأوسط الجديد”. هذا التدخل السياسي يجعل الأفق مسدوداً أمام أي عملية تغيير حقيقية. كيف يمكن للسوريين أن يبنوا وطناً جديداً إذا كانت القوى الخارجية تسعى لتعميق الفوضى وتقسيم الأرض والشعب؟

نلسون مانديلا:

أنت تشير إلى واقع مرير، مالكوم. التدخلات الدولية هي من أكثر التحديات التي تواجه الشعب السوري اليوم. إن القوى الكبرى تسعى لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفقاً لمصالحها، ولا بد أن نكون واقعيين بشأن ذلك. ومع ذلك، أعتقد أن الشعب السوري بحاجة إلى أن يكون على وعي بأن أي حل لا بد أن يبدأ من الداخل. علينا أن نتذكر في جنوب إفريقيا أننا رغم التدخلات الخارجية، كنا قادرين على بناء تحالفات محلية ودولية تتفق على مبدأ العدالة. وعلى الرغم من أن سوريا تواجه تحديات أكبر، إلا أن الحل لن يأتي من الخارج، بل من الشعب السوري نفسه الذي يجب أن يقاوم التفتيت ويثبت وحدته.

مالكوم إكس:

إن الواقع الحالي يقتطع الأمل من الشعب السوري، يا نلسون. بعد كلِّ ما مروا به من قهر وحروب، أصبح الشعب السوري في حالة من اليأس، فقد بات يشعر بأن المستقبل لا يحمل له سوى المزيد من المعاناة. لقد تآكلت الثقة في القيادات، وانهار الإيمان بقدرتهم على تجاوز الماضي. كيف يمكن للناس أن يتجاوزوا الألم والجراح في ظل هذا الواقع القاتم؟ إن فقدان الدافع لدى الشعب السوري للقيام بأي خطوة نحو التغيير، لا يعود فقط إلى النظام القائم، بل إلى محيطه الدولي الذي يزيد من تعقيد الأمور.

نلسون مانديلا:

إن فقدان الأمل هو أخطر ما يمكن أن يحدث في أي شعب، لكنني أؤمن بأن الإرادة لا تموت أبداً. في جنوب إفريقيا، كان لدينا الكثير من التحديات، وكنا نعيش في جو من القهر والظلم والتمييز العنصري. لكننا تمكنا من تجاوز ذلك لأننا آمنّا أن التغيير يبدأ بخطوات صغيرة، من خلال إعادة بناء الثقة بين الناس. الشعب السوري يحتاج إلى أن يجد الدافع في داخله من جديد، لا أن يعتمد فقط على القوى الدولية أو التغيير السياسي. يجب أن نؤمن بقدرتهم على النهوض، حتى لو بدا الطريق طويلاً وصعباً.

مالكوم إكس:

ربما، يا نلسون، لكن الطريق سيكون أطول وأكثر صعوبة إذا لم يعترفِ الشعب السوري بتحدياته الحقيقية، وإذا لم يتحمل مسؤولية التغيير بنفسه. عليهم أن يتحرروا من الوهم بأنهم يمكن أن يظلوا ضحايا لحروب الآخرين. إذا لم يتحركوا الآن لاستعادة وطنهم، فلن يملكوا المستقبل الذي يستحقونه.

استيقظ خلدون والعرق يتصبب منه، وأحسَّ بألم شديد في رأسه، يبدو أنه كان يجز على أسنانه وهو يشاهد تلك المناظرة العظيمة، لكنه سأل نفسه هل من شاهدهم هم بالفعل مانديلا ومالكوم؟ أم هو عقله الباطن وأفكاره المتصارعة تلبسا على هيئة هاتين الشخصيتين العظيمتين؟ الحقيقة لا يدري! كلُّ ما فكر به هو أخذ حمام ساخن وتناول مسكنات الألم؛ فمن دونهما لا يمكن التفكير أو التحرك! ربما هذا بحق ما ينقص الشعب السوري حمام ساخن ومسكن آلام قوي وفترة نقاهة يعزل بها نفسه عن كل المهيجات من حوله! لكن من سيؤمن له هذه الاحتياجات التي تقدر تكلفتها بالمليارات! خلدون لا يعرف، كلُّ ما يفكر به الآن الحمام الساخن، حبتي بنادول، وفنجان قهوة ساخن بعد تبديل الملابس للانطلاق إلى موعده التالي مع ابنة خاله الدكتور سامر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى