ســيــاســة تــرامـــب الــجـــديــدة : مــواجــهــة “الــمــارقــيـــن” دفــعــة واحــدة

     محمد خليفة

اخـــراج روســـــيــا وايـــــران مــن ســـوريـــــة بـــاتــــا أولــــــــويــــــــــــة

 ضـــربـــة الــشــعــــيـــرات رســالــة ثــلاثـــيـــة ولــكــل بــلـــطــجـــيـــة الــعــالـــم

صــــفـــحــــة الاســـد طــــويــــت واســـقــــاطـــه يــوازي اســـتـــئــصـــال داعــــــش

 خـــطــــة بـــريـــطــــانـــيـــــة لـــفـــرض عـــقوبـــــات عـــلــــى روســـيـــــــا

ما من فعل واحد يمكن أن يعطي نتائج كثيرة وغير محدودة , أكثر من الضربة الصاروخية المحدودة التي أمر بها الرئيس ترامب ضد قاعدة ( الشعيرات ) الجوية التي استعملتها قوات الاسد لقصف قرية خان شيخون بالسلاح الكيماوي يوم 4 من نيسان/ ابريل الجاري .

الحادث كعمل عسكري , فعل محدود من كل النواحي , ولا يشل قوة الاسد أو يؤثر على فعالية آلته الحربية , إنه مجرد صفعة خفيفة, ولكن هذا الحدث المحدود استطاع في سياقه السياسي الدولي توليد مروحة واسعة وسريعة من النتائج الكبيرة لم يكن لأحد أن يتوقعها أو حتى يتخيلها, وما زالت تتوالد وتفرز نتائج مستمرة , حتى يمكن القول إنها بدأت تعيد تشكيل الأولويات والمواقف الدولية , لا تجاه الصراع في سورية , أو تجاه نظام الاسد ومصيره وحسب , بل تعيد ترتيب العلاقات الدولية على مستوى القمة العليا . ويمكن تلمس هذا البعد فيما كشفت عنه صحيفة الصنداي تلغراف يوم الاحد الماضي ومفاده أن وزارة الخارجية البريطانية أعدت خطة استراتيجة تستهدف إجبار روسيا على الانسحاب من سورية وتحميلها مسؤولية كل ما وقع في هذا البلد من جرائم قتل وابادة وتدمير . وقالت الصحيفة إن هذه الخطة جاهزة لعرضها على واشنطن والعمل على تبنيها من قبل مجموعة الدول السبع الكبرى ( G7) . وبالطبع يمكننا توقع الكثير من التأزم على صعيد العلاقات بين الغرب وروسيا وعودة الصراع الى ما هو أبعد من ( حرب باردة ) جديدة , لأن الصحف الرصينة في الغرب وروسيا على حد سواء شرعت في الحديث عن .. الحرب النووية كاحتمال مطروح !

والواقع أنه لا يمكن تناول الضربة الأميركية للقاعدة السورية دون تناول الهجوم بالسلاح الكيماوي الذي قامت به الآلة الحربية لنظام الاسد على قرية خان شيخون , فهذه الضربة هي التي قلبت المواقف رأسا على عقب وحشرت الرئيس ترامب في زاوية ضيقة وفرضت عليه الرد فورا . ويمكننا النظر الى هذا الحدث من زاويتين :

الأولى أن الهجوم الكيماوي على خان شيخون يذكر بهجوم مشابه ارتكبته الميلشيات الصربية الصربية – البوسنية على السوق الشعبية في سراييفو يوم 28 آب / اغسطس 1995 والذي اصبح خطا فاصلا بين عهدين من تلك الحرب , ودفع الرئيس الاميركي بيل كلينتون لاتخاذ قرار التدخل مع حلف الناتو وأمر بقصف القوات الصربية حتى ترضخ للمشيئة الدولية فأوقفت حربها على المسلمين البوشناق وأجبرتهم على توقيع اتفاق دايتون .

الثانية أن الاسد اضاع فرصته الاخيرة للعودة الى المجتمع الدولي كرئيس معترف به اميركيا وغربيا اضافة لروسيا وايران والصين , لأن الهجوم الكيماوي جاء بعد خمسة ايام فقط من تصريحات اميركية على اعلى مستوى تؤكد أن ازاحة الاسد ليس أولوية للادارة الجديدة وأن الاولوية هي للحرب على الارهاب , ثم لاخراج ايران من سورية والعراق , بل اشارت بعض المصادر أن الرئيس ترامب خطب ودّ بشار الاسد لينضم للتحالف الدولي للحرب على داعش , ويتعاون معه لاخراج ايران وجماعاتها من سورية مقابل تطبيع العلاقات معه .

الهجوم الكيماوي على خان شيخون سبب ردود افعال دولية غاضبة وعنيفة كالتي حدثت عام 2013 بعد الهجوم الكيماوي على الغوطة وخلقت بيئة دولية مشجعة لضرب الاسد , ويبدو أنها استفزت الرئيس ترامب وطاقمه الحكومي , لأن وسائل الاعلام الاميركية والغربية في اليوم التالي حملت المسؤولية للادارة لأن اركانها الكبار وخاصة وزير الخارجية والسفيرة هالي أرسلوا اضافة لترامب نفسه كرروا في تصريحاتهم وخاصة ( يوم الخميس 30 مارس ) رسائل مغلوطة الى الاسد أشعرته بالأمان والحصانة من العقاب مهما فعل , فاقترف مجزرته في خان شيخون التي اراد بها الانتقام للخسائر البشرية الهائلة التي منيت بها قواته في ريف حماة الشمالي أمام هجوم الثوار حتى أن مجلة فورين بوليسي الجادة قالت ( إن هجوم الاسد الكيماوي على خان شيخون إنما عرى ادارة ترامب لأنه جاء بعد رسالة الرئيس للاسد ) وقالت نيويورك تايمز ( الجريمة دليل على افلاس ترامب الذي رفض إزاحة الاسد ) . شكلت هذه المواقف ضغطا ثقيلا على ترامب وادارته في بداية عهدهم , خصوصا وأن ترامب شخصيا هاجم سلفه اوباما بحدة ومرارا على خلفية تساهله معه إثر جريمة 2013 , وحمله المسؤولية عن استمرارمعانات السوريين , وبسبب هذا وذاك كان على ترامب وادارته الرد بطريقة تثبت صدقيتهم وتميزهم عن الادارة السابقة , لا سيما وأن الادارة في بداية عهدها , وإذا سقطت صدقيتها في هذه الفترة فلن تقوم لها قائمة بعد ذلك , وسيعزز ترامب صورته كرجل متبجح , وغير صادق يتكلم بإسراف ولا يفعل إلا قليلا , وقد يعزز ايضا شبهة ارتباطه المتفشية بروسيا والانبهار بها وبسلوكها في سورية .

وهناك رواية أخرى تقول : إن الضربة الكيمائية جاءت بقرار روسي , وربما نفذت أيضا بواسطة القوات الروسية , لأن قادة الكرملين لم يكونوا مطمئنين للغزل غير العفيف بين الاسد وادارة ترامب فأرادوا تخريب العلاقة الناشئة في مهدها قبل أن تكتمل وحشر الاسد في زاويتهم (الروسية) فاقترفوا الجريمة أو أمروا بها ليورطوه مع ترامب ويقطعوا الطريق أمام تطور العلاقة بينهما .

ويؤكد هذه الرواية أن المخابرات الاميركية قالت إنها تجري تحقيقات في احتمال ضلوع الروس بالجريمة لأن ثمة قرائن قوية على ذلك , أهمها رد فعلهم العنيف ضدها , وقصفهم لمشفى خان شيخون الذي كان يعالج المصابين بالغاز , إذ رأى فيه الاميركيون محاولة لطمس الحقائق الطبية المعلقة بالجريمة لاخفاء بصماتهم عنها .

سواء كان المنفذ هو الاسد أو بوتين فإن الجريمة المقززة استفزت العالم كله واعادت تذكير العالم بوحشية الأسد وهمجيته وعدم قابليته للاصلاح أو امكان التعامل معه , كما أعادت تذكير العالم بقوة بحقيقة الدور الاجرامي الذي تضطلع به روسيا وايران في دعم الاسد في سورية وكلفته البشرية الدموية على الابرياء والمدنيين والاطفال , فأمر الرئيس ترامب بتوجيه ” ضربة محدودة ” للقاعدة التي انطلقت منها الطائرة التي قصفت القرية وقتلت 121 شخصا , اكثريتهم اطفال ونساء , واصابت حوالي 400 شخصا . وذكرت مصادر واشنطن أن القاعدة تحوي أيضا مخزنا سريا للسلاح الكيماوي . وذكرت أن الروس كانوا في القاعدة وتم سحبهم منها بعد انذارهم , وكان يرجح أن يصابوا لولا انسحابهم بالوقت المناسب .

 ورأت السلطات الامنية الاميركية في هذا الحادث دليلا على أن روسيا متواطئة مع نظام الاسد منذ 2013 في الاحتفاظ بجزء من هذا السلاح وتخزينه هنا وعدم تسليمه كما نص الاتفاق بين الاسد وادارة اوباما , ولذلك تحقق الاستخبارات في هذه الجزئية لتحميل المسؤولية لكل من الاسد وروسيا باعتبارها الضامن الدولي للاتفاق المذكور .

الضربة الصاروخية الاميركية محدودة ونتائجها محدودة من الناحية العسكرية البحتة, ولكنها لم تكن كذلك ابدا على الاصعدة السياسية والاستراتيجية الاميركية والروسية والسورية والدولية, إذ أفرزت نتائج وآثارا على كل تلك الاصعدة, وفيما يلي بعض معالمها :

أولا – على الصعيد الأميركي :

—————————–

 أعادت الضربة توحيد الأميركيين خلف الرئيس الذي سبب انتخابه انقسامهم بشكل حاد. وكان كثيرون شككوا بأهليته وكفاءته , ولكن قرار ضرب النظام السوري أظهر جديته واقتداره واستعداده لاتخاذ قراريتحدى به أعداء أميركا . وكان لافتا ان نواب الحزبين وقفوا وراء قراره بغالبية كاسحة , والاعلام الذي قاد الحملة عليه منذ شهور أشاد بخطوته , فقالت نيويورك تايمز السبت الماضي (إن الضربة أحقت الحق ومن الصعب ألا يشعر المرء بالارتياح لها) وقالت الواشنطن بوست في نفس اليوم ( إنها فرصة ترامب ليملأ الفراغ الدولي) ورأت فيها مؤشرا على تغير نظرته للعالم . وقالت صحيفة أخرى : لقد وجدت المسألة الأخلاقية طريقها للبيت الابيض بعد فترة طويلة من تجاهلها بحجة أميركا أولا والواقعية الشديدة. أما هآرتس الاسرائيلية فقالت ( لقد أعاد ترامب تأهيل الرئاسة الاميركية ) .

ثانيا – الصعيد الدولي :

———————-

 كان أكبر وأهم الآثار التي احدثتها الضربة على هذا الصعيد. فوصفها كثيرون بأنها أعادت هيبة أميركا ودورها كقوة أولى على رأس النظام الدولي, وأنهت الفوضى التي سببها تراخي الادارة السابقة في التعاطي مع الازمة السورية وغيرها . وأجمع المحللون على أن الضربة رسالة قوية للعالم بأن ترامب مستعد لاستعمال العصا ضد الدول والانظمة المارقة, وقالت الصنداي تايمز الاحد الماضي إن القرار أظهره رئيسا قويا لا يتردد في استعمال القوة .

وأكثر ما توقف المراقبون أمامه أن ترامب اتخذ قرار الضربة قبل دقائق من لقائه مع الرئيس الصيني, ونفذت الضربة بينما كانا يتناولان العشاء , ورأوا في ذلك : رسالة للعالم كله, ولا سيما روسيا والصين وكوريا الشمالية وايران وسورية . ورأى هؤلاء أن ترامب تعمد أن تتزامن الضربة مع عشائه مع ضيفه الصيني لأن أميركا تطالب بكين بلجم حليفتها الكورية, وتحملها مسؤولية التهديدات التي وجهها ديكتاتور كوريا بضرب الولايات المتحدة بألأسلحة النووية . وقال كثيرون أن رسالة ترامب أبلغت الى الصين والدول المذكورة بقوة , وأنهت عهد الفوضى واللامحاسبة على الجرائم والتجاوزات التي اقترفتها تلك الدول, فالروس غزوا سورية, وايران نشرت الفوضى في الشرق الاوسط , وكوريا تنتج الأسلحة النووية , وبشار ارتكب أبشع جرائم الابادة مستغلا تراخي الغرب معه وغياب المحاسبة .

ثالثا – العلاقات مع روسيا :

————————

 أنهت الضربة ما كان يوصف بشهر عسل بين ترامب وبوتين , ووضعت نهاية للشائعات التي اتهمت ترامب وادارته بإقامة علاقات سرية مع الكرملين لأن الضربة موجهة لروسيا وبوتين شخصيا, وأرسلت رسالة تحد بأن سورية لن تكون جمهورية روسية , وأن أميركا ستعيد النظر بما يحدث , وستتدخل عسكريا وسياسيا , لا سيما وأنها أعلنت سلفا خطتها لاقامة (مناطق آمنة) وأرسلت قوات عسكرية الى شمال سورية, وتسعى لتصحيح العلاقات مع الحليف التركي . وأعلن وزير الخارجية أن روسيا مسؤولية عن عدم تنفيذ اتفاق تسليم الترسانة الكيماوية مع الاسد عام 2013 بصفتها الضامن له, وأعلن إعادة فتح ملف هذه الجائم منذ 2013, وفتحت المخابرات تحقيقا جديا في ضلوع القوات الروسية في جريمة الاسد في خان شيخون . وذكرت مصادر شبه رسمية أن لدى المخابرات معلومات عن اخفاء الاسلحة الكيماوية في قاعدة (الشعيرات) بعلم الروس , ولذلك اختيرت دون سواها للضرب !.

وقال المراقبون إن الضربة حجمت روسيا على الساحة الدولية واحرجتها داخليا , وقال محلل اسرائيلي( بضربة واحدة أثبتت أميركا أن روسيا نمر من ورق) وأعادت تكريس القيادة الاميركية , ووحدت “الغرب” بعد فترة خلافات وتصدعات, وأبرزت وقوف دول اوروبا الكبرى خلف ترامب بوضوح , وأعادت تلميع دور الناتو كأكبر وأقوى منظمة عسكرية في العالم بقيادة أميركا .

ونشرت معلومات فائقة الاهمية عن تعاون اميركا وحليفاتها في اوروبا والناتو لملء الفراغ على الساحة الدولية واحتواء التحدى الروسي من خلال الخطوات التالية :

– بريطانيا وضعت خطة لتحرك دولي يجبر روسيا على سحب قواتها من سورية وإلا واجهت عقوبات اقتصادية وديبلوماسية دولية , وعدم الاكتفاء بإجبارها على التخلي عن الاسد . وكتب وزير دفاع بريطانيا الاحد الماضي في صنداي تايمز(ما وقع في خان شيخون عمل غير اخلاقي تتحمل روسيا مسؤوليته , ومسؤولية كل قتيل في سورية) وطالبها بتغيير سياستها لالزام الاسد بالقبول بحل سياسي معقول .

– فتح ملفات جرائم الابادة الروسية في سورية والتحقيق فيها قانونيا وسياسيا, وتشديد العقوبات السابقة عليها بسبب احتلالها لشبه جزيرة القرم . ورأت جيروزاليم بوست أن الضربة تقول للروس : إن الأزمة السورية أصبحت جزءا من مسؤوليات أميركا الدولية .

– مطالبتها بالمشاركة فعليا في محاربة الارهاب وداعش .

– اجبارها على التخلي عن الاسد ورفع حمايتها له لمحاسبته على جرائمه وانجاح مفاوضات الحل السياسي .

– اجبارها على التعاون لتحجيم ايران والزامها بسحب قواتها من سورية والعراق .

– ردع روسيا بسبب تدخلها في الدول الغربية بشكل غير مشروع , ولا سيما في انتخابات اميركا وفرنسا .

رابعا – الشرق الأوسط :

———————–

رأى المحللون أن ضربة ترامب الصاروخية غيرت (قواعد الاشتباك في الشرق الاوسط), ورسمت من جديد (الخطوط الحمر) فيه, وجددت هيبة أميركا في المنطقة ووجهت رسالة قوية لروسيا أولا, ولايران ثانيا , ولحلفائهما الصغار في المنطقة , وعززت حلفاء اميركا العرب , وهي رسالة وجدت ترحيبا جماهيريا واسعا في العالم العربي وظهرت موجة اعجاب شديد بترامب . ورأى بعض المحللين في الضربة ردا ناريا على تجارب ايران الصاروخية قبل شهرين والتي كانت موجهة لاختبار قوة الادارة الجديدة , كما انها دعمت مطالبتها بالانسحاب من سورية وبقية دول المنطقة .

 وقالت السفيرة نيكي هالي رسميا وبأوضح عبارة الاحد الماضي إن أهم اولويات الادارة القضاء على تحدي داعش الارهابي , والتخلص من نفوذ ايران في المنطقة , وتغيير نظام الأسد, وهذه الاولويات هي ملامح سياسة جديدة في الشرق الاوسط , وما يلفت الانتباه أن أميركا جددت توثيق علاقاتها التاريخية بحلفائها العرب بسرعة, وخاصة السعودية ومصر , واتفقت مع دول الخليج على خطة للتصدي لتدخل ايران في اليمن, وبدأت تظهر مؤشرات عن تحريك الساحة العراقية لمواجهة نفوذ ايران أيضا , واعادة تشكيل التحالفات بهدف اضعاف حلفاء طهران وتعزيز قوة الاطراف الوطنية المعادية لها , شيعة وسنة معا . وثمة مؤشرات على تبلور تحالفات اقليمية جديدة مضادة لروسيا وايران في الشرق الاوسط ( قد تضم العرب وتركيا واسرائيل في خندق واحد ) ويتوقع مراقبون أن تشهد المنطقة تطورات دراماتيكية في الفترة القادمة لأن الايرانيين والروس وأعوانهم لن يتراجعوا بسهولة , كما أن الأميركيين لن يتراجعوا قبل اعادة ترتيب شؤون منطقة مثلت تاريخيا وتمثل بؤرة مصالح أمنية واقتصادية واستراتيجية لا تقل كثيرا عما تمثله اوروبا والشرق الاقصى, ولذلك قال ترامب في تبريره لقرار الضربة : اتخذت قرار الضربة في سورية لأنه يخدم أمن الولايات المتحدة . وقالت وسائل اعلام عديدة ما معناه إن سورية ليست بعيدة كثيرا عن أميركا, وعلى الادارة متابعة جهودها لاستعادة زمام الامور فيها وردع روسيا وايران معا .

خامسا – الصعيد السوري :

————————–

يرى المراقبون أن الرسائل التي حملتها الضربة الصاروخية للقاعدة العسكرية في سورية كثيرة جدا . فهي رسالة للأسد لمنعه من استعمال السلاح الكيماوي , وهي رسالة تهديد بحرمانه شخصيا من الحصانة, وأنه صار مستهدفا كنظام وجيش وشخص, وكشفت صحيفة التايمز السبت الماضي أن الأسد بدأ يعيش في مخبأ سري تحت الارض, وتوقعت له أياما صعبة في ظل التهديد الاميركي. وهي رسالة مضادة للرسالة التي سبقت المجزرة الكيماوية بأن تغيير نظام الاسد لا يمثل أولوية للادارة في هذه المرحلة, فقد اعلنت الادارة بشكل لا مجال للخطأ في فهمه بأن تغييرالنظام بات الان أولوية موازية للقضاء على داعش واخراج ايران بدون تأخير أي منها عن الاخرى , إذ اكتشفت الادارة أن القضاء على الارهاب غير ممكن بدون التخلص من الاسد ومن حماته الايرانيين , وأن التلازم بين المسارات الثلاثة حتمي . ومع تصاعد كلفة القتل والعنف ونتائج ذلك انسانيا وامنيا لم يعد ممكنا للغرب تجاهل هذه المأساة ولا بد من التدخل المباشر لفرض حل يوقف الحرب ويحقن الدماء ويوقف تداعياتها الامنية الدولية , لذلك قالت الاوبزرفر بعد ضربة ترامب (حان الوقت لإنقاذ الشعب السوري ). وهناك قناعة في الغرب أن التدخل ممكن وأن اوباما كان ( يكذب ) في التعلل بحجج واهية لكيلا يتدخل لوقف ماساة أساءت للغرب اساءة فادحة , وخاصة بسبب سكوته عن الغزو الروسي والتدخل الايراني العسكري . فضلا عن أن الغرب منح الاسد فرصا كثيرة ليعدل سلوكه ويوقف حربه الهمجية, ومنح الروس فرصا ووقتا كافيين لاستثمار نفوذهم والعمل على حل سياسي , ولكن النتيجة أن الروس والايرانيين مثلهم مثل الاسد لا يريدون تغيير النظام ومصممون على حمايته مهما اقترف , وهو أمر لم يعد مقبولا في العواصم الغربية وخاصة واشنطن . وأعلنت دوائر البيت الابيض بوضوح أيضا أن ملف الاسد قد طوي للأبد , ولا بد من اجباره على ترك السلطة وايجاد حل سياسي مناسب يرضي كل الاطراف .

ويمكن ملاحظة تأييد واسع لهذه التوجهات الجديدة في اميركا والغرب والعالم , ولكن الدوائر السياسية والاعلامية طالبت ترامب بعدم الاكتفاء بضرية واحدة , وإلا فقدت مفعولها وأهميتها, وحثته على بلورة استراتيجية شاملة لمواجهة التحديات الامنية في الشرق الاوسط , وخاصة التهديدات الايرانية- الروسية , ولذلك وصفت صحيفة لوموند السبت الماضي الضربة بأنها تحذير ثلاثي . وتخوفت صحيفة نيويورك تايمز أن تكتفي الادارة بضربة واحدة , وأبدت واشنطن بوست نفس القلق وطالبت بوضع استراتيجية شاملة لمعالجة الازمة السورية مبنية على التخلص من الاسد وابعاد روسيا وايران .

تصريحات المسؤولين الاميركيين بعد المجزرة الكيماوية ثم الرد الصاروخي توحي بأن الرئيس واركان ادارته صارت لهم رؤية جديدة للعالم مفادها أنه لا يمكن التعامل مع التحديات الامنية الدولية كلا على حدة , من كوريا الى ايران ومن سورية الى روسيا , ولذلك تعيد الادارة واجهزة الدولة كلها (الدفاع, والمخابرات, والخارجية.. إلخ ) تكييف اولوياتها مع هذا الاستنتاج , وهي مضطرة للعمل على القضاء على الارهاب وحل الازمة السورية والرد على التهديد الكوري ومواجهة التوسع الروسي والتمد الايراني كرزمة واحدة بدون تقديم أو تأخير في أولوية أي منها على الأخرى. وأهم ما في هذه السياسة هو عنصر الارادة والتحدي الظاهر في خطوات ترامب واركان ادارته ولا سيما وزير دفاعه جيمس ماتيس الذي يلعب دورا مؤثرا من خلف الكواليس في توجهات ترامب الاستراتيجية والدولية .

هذا التحول يذكر بالتحولات التي أحدثتها ادارة ريغان بعد سنوات الرئيس كارتر الاربع الخائبة في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن السابق , والتي انتهت بهزيمة السوفيات في افغانستان, واحتواء تمدد القوى الشيوعية في اميركا اللاتينية والخليج والقرن الافريقي , واستعادة هيبة اميركا وقوتها ودورها , مما مهد لانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك حلف واسو وتحول شرق اوروبا الى الديمقراطية وتوحيد المانيا وسقوط جدار برلين !.

 

المصدر: المقال منشور في مجلة الشراع اللبنانية، عدد 369 الصادر في 14-4-2017 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رحم الله المناضل والكاتب العروبي محمد خليفة وأسكنه فسيح جنانه، قراءة ورؤية لمرحلة قيادة ترامب لإدارة الولايات المتحدة الأمريكية كقيادة من الحزب الجمهوري، ولكن الدورة الثانية الحالية تضمنت نقاط مختلفة عن المرحلة الأولى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى