
من الجار الوفي إلى الغريب الملتبس: تحوّل الصورة بعد 2011
في الذاكرة السورية، وخاصة في المناطق المختلطة كالحسكة والقامشلي وعامودا، وحتى في حلب ودمشق، لطالما ارتبطت صورة الكردي بالصدق والطيبة. لم تُبنَ هذه الصورة على دعاية أو خطاب سياسي، بل على تجارب معيشية حقيقية: في المدارس، والبيوت، والقرى، والأسواق.
الكردي كان يُرى جارًا وفيًّا وأمينًا، وعاملًا شريفًا يُتقن عمله، وشريكًا في هذا الوطن. لا شيء في وعي السوريين كان ينفّر من الكردي، بل على العكس، كان يُستحضر كشخصية إيجابية في الموروث الشعبي والوجدان العام، وكل شخص كردي يستطيع استحضار ذاكرته حين يقابل أشخاصًا من مختلف المحافظات السورية، كيف كان الاحتفاء به.
لكن بعد عام 2011، ومع صعود الخطاب القومي الكردي بشكل مختلف عن أحلام السوريين، ومع بروز التشكيلات المسلحة الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني (قسد لاحقًا)، التي قام النظام بتسليحها وتسليمها مناطق في المحافظات الشرقية وشمال سوريا، بدأت هذه الصورة تتعرض لتشويش خطير.
واليوم، تتشكل لدى شرائح واسعة من السوريين صورة جديدة – مؤلمة – تربط الكردي بالانفصال، وأنه أداة استخدمها النظام، ثم تحالفت مع خصومه، وبالتعاون مع الخارج، بما في ذلك أعداء الشعب السوري، وبإقصاء الآخر، واللجوء إلى الشتم والقذف كثقافة عامة في مواجهة المخالفين له بالرأي.
المجتمعات الحديثة لا تُبنى على الانقسام والتعصب، بل على التفاهم والتكامل.
هذه الصورة – وإن كانت مجحفة ومؤلمة – ليست وليدة فراغ أو بلا جذور، بل ترتبط بسلوك سياسي وميداني واقتصادي مارسته “قسد”، ورسّخته تصريحات باقي الأحزاب الكردية، خاصة بعد إسقاط نظام الأسد، وساهم في إعادة تشكيل الوعي المشترك.
حين تُفرض رسوم جمركية على الشاحنات القادمة من دمشق ودرعا وطرطوس باتجاه الجزيرة السورية، فإن الرسالة السياسية تكون أوضح من أي بيان: أنت تدخل إلى “كيان” لا يعترف بك، رغم أنك تحمل الهوية ذاتها. هذه الرسوم ترفع الأسعار وتزيد المعاناة في مناطق تعاني أصلًا من الفقر والجفاف، لكنها أيضًا تكرّس صورة الكردي – ظلمًا – كجشِع، أو انفصالي، أو انتهازي.
وفي ممارسات أكثر حدّة، يُمنع السوري من دخول بلده من المعابر مع العراق، إلا إذا حصل على كفالة من كردي، وكأننا أمام أراضٍ أجنبية، لكن الحقيقة هي أن قوارب قسد هي التي تنتهي إلى إدارة ومنظومة أجنبية.
قبل أيام فقط، امتنعت قسد عن السماح لسوريين عائدين من أربيل بالدخول إلى المناطق التي تسيطر عليها، قائلة إن هذه “ليست أراضي سورية”.
شهادات النازحين الذين أُعيدوا إلى العراق توثّق صدمة كبيرة، بعضها موثق بالصوت والصورة. ولكم أن تتخيلوا كيف ساهمت شهادات هؤلاء في الصورة المؤلمة التي تحدثنا عنها.
لم تكن هذه الممارسات الوحيدة. نذكر جميعًا كيف تعاملت قسد مع مرحلة سقوط النظام، كيف نُشرت قناصة قسد على أسطح منازل الأحياء المتاخمة لمناطق سيطرتها في حلب، وسقط ضحايا مدنيون فقط لأنهم مرّوا في المكان الخطأ.
وفي وقائع أخرى، خُطف مدنيون لمقايضتهم مع الحكومة السورية في صفقات تبادل أسرى، وكأننا في حالة حرب بين دول، لا في داخل وطن واحد. ولن أذكّركم بمئات المعتقلين الذين تم اعتقالهم وتعذيبهم في محافظات الجزيرة السورية (الحسكة، دير الزور، الرقة) لمجرد رفعهم العلم السوري وإعلانهم تأييدهم للحكومة السورية.
خطاب قومي مشوّه يُلقّن للصغار: كيف يُصنع العداء؟
لكن المسؤولية لا تقع على “قسد” فقط، بل تشمل المنظومة الأوسع للأحزاب الكردية، سواء تلك المنسّقة مع قسد، أو تلك التي تنتمي إلى أربيل أو السليمانية. هذه الأحزاب التي قررت، بعد سقوط النظام، الانتقال إلى ضفّة قسد بتوجيه من مرجعياتها خارج سوريا. وهذه الأحزاب، بدلًا من أن تقدم مراجعة نقدية لخطابها القومي بما يتناسب مع الواقع والتاريخ السوري، قررت الاستمرار في تغذية جمهورها بشعارات قومية وتاريخية لا تراعي تعقيد الواقع الجيوسياسي ولا هشاشة البنية الوطنية.
ينتهي كثير من قادتها إلى موانئ البرزاني أو الطالباني، ولا يتورعون عن تحويل الملف الكردي في سوريا إلى ورقة ضغط في صراعات داخلية أو إقليمية، من دون الاكتراث بمستقبل من تبقى من الأكراد في سوريا من جرّاء سياساتهم.
المشكلة الأعمق أن هذا الخطاب يُلقَّن منذ الطفولة، حيث يتعلم الأطفال الكرد (عبر سطوة الأحزاب) – دون سن العاشرة – حتى المغتربين منهم، بأنّ العرب محتلون، ويستحضرون سرديات مغلوطة أو مبالغًا فيها، مثل موضوع الحزام العربي وخلطه بموضوع المُغمورين، وأن أراضي الجزيرة ما هي إلا كردستان سوريا أو روجافا، وهي جزء من كردستان الكبرى، في تجاهل تام لتاريخ المنطقة وتنوعها، وحتى تاريخها السياسي الفعلي.
هذا الشحن المبكر يزرع في نفوس الأطفال تصورات عدائية وخيالية، تؤسس لوعي قومي مغلوط، قائم على وجود أعداء متخيّلين، لا جيران متشاركين في الأرض والمصير.
والحقيقة أن المجتمعات الحديثة لا تُبنى على الانقسام والتعصب، بل على التفاهم والتكامل. دول العالم اليوم تبحث عن صيغ تعاون وشراكات تتجاوز الحدود، لا عن مشاريع تفتيت وانفصال ضمن الخارطة السياسية الواحدة.
شخصيًا، أتفهم مشاعر الكرد، بمن فيهم الذين يرون فينا أعداء مفترضين لأننا لا نوافقهم السردية القومية. كذلك، أتفهم رغبتهم في الاعتزاز بهويتهم، ولغتهم، وثقافتهم، وهو أمر مشروع وطبيعي. لكن الخطأ هو في خلط هذه المشاعر مع مفاهيم مثل “حق تقرير المصير” في غير موضعها.
حق تقرير المصير نشأ كأداة قانونية للشعوب التي خضعت للاستعمار، وليس لجماعات ضمن دول ذات سيادة واستقلال. والمفارقة أن الأكراد لم يكونوا وحدهم ممن لم ينالوا دولة بعد انهيار الدولة العثمانية، بل معهم السريان، والآشوريون، والتركمان، وكثير من الشعوب والإثنيات في العالم.
الخطر الأكبر ليس في وجود مظلومية، بل في احتكار تمثيلها؛ في تحويل مسألة عادلة إلى شعار سياسي مغلق، يعزل الكردي عن محيطه، ويصنع منه غريبًا في وطنه.
نحو شراكة وطنية ومواطنة عادلة: لا انفصال ولا إقصاء
وجودهم اليوم في دول متعددة لا يُبرّر المطالبة بدولة قومية كيفما اتفق، فهذه الدعوة تتجاهل مئات السنوات من التفاعل الاجتماعي والسياسي مع شعوب ومكونات أخرى، كلها لها حق الوجود والعيش الكريم.
الحل الوحيد يكمن في بناء دولة المواطنة، التي تضمن الحقوق للجميع دون تمييز، ولا فرض لون سياسي أو لغوي على حساب الآخر.
يظل الكردي في الوجدان السوري هو ذاك الشريك في التراب، لا المتحدث باسم مشروع خارجي. وهو ذاته من يعاني اليوم من القهر، ومن التضييق، ومن تجنيد أطفاله، ومن إقصائه أحيانًا من قبل تلك الأحزاب ذاتها التي تزعم تمثيله.
الخطر الأكبر ليس في وجود مظلومية، بل في احتكار تمثيلها؛ في تحويل مسألة عادلة إلى شعار سياسي مغلق، يعزل الكردي عن محيطه، ويصنع منه غريبًا في وطنه.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط تفنيد الروايات المتطرفة، بل إعادة بناء الذاكرة السورية المشتركة؛ أن نستعيد صورة الكردي السوري التي نعرفها: الجار، الصديق، المواطن، الذي نختلف معه أحيانًا، لكننا لا نتركه، ولا يتركنا.
ما نحتاجه خطاب جديد يقول: لسنا ضدّ الكرد، ولسنا ضدّ حقوقهم في مواطنة كاملة تضعهم على كفّة المساواة مع باقي السوريين. لكننا ضدّ مشاريع الانفصال، وضدّ تحويل سوريا إلى مقاطعات عشائرية أو إثنية أو طائفية. نحن نطالب باحترام الشراكة، ونقدّم بالمقابل احترامًا كاملًا للتنوع، والكرامة، واللغة، والهوية.
الخطر ليس فقط في أفعال “قسد” وأشباهها وخطاب الأحزاب الكردية، بل في أننا بدأنا نخلط بينها وبين الكردي السوري الحقيقي الصامت. علينا أن نقاوم هذا الخلط، ونُعيد التوازن، لا من أجل الكرد فقط، بل من أجل سوريا نفسها.
المصدر: تلفزيون سوريا
ضمن قراءة الكردي في الوعي السوري قبل وبعد الثورة ، نرى تحول الجار الوفي إلى الغريب الملتبس، خطاب قومي مشوّه يُلقّن للصغار ليُصنع العداء لشركائه بالوطن، ؟ مظلومية باحتكار تمثيلها لمسألة عادلة وشعار سياسي مغلق، يعزل الكردي عن محيطه، ويصنع منه غريبًا في وطنه، دعوة نحو شراكة وطنية ومواطنة عادلة بلا انفصال ولا إقصاء.