
بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، وبعد عقود طويلة من الدكتاتورية التي قيّدت الحريات، وحقبتين من الانقلابات العسكرية التي أطاحت بأيّ حلم ديمقراطي ناضج، يجد السوريون أنفسهم على أعتاب عهد جديد، تبدو فيه أشعة شمس الديمقراطية ترتسم في الأفق لأول مرة منذ زمن بعيد.
لقد حمل هذا الشعب، عبر سنوات من الألم والمعاناة، ثمنًا باهظًا دفعه من دماء ودموع وأحلام محطّمة، لينال فرصة العمر التي طالما انتظرها: تأسيس دولة المواطنة الحقة، التي تحترم الحقوق السياسية والحريات، وتؤسس لنسق حكمٍ جديد لا مكان فيه للاستبداد أو الاستعلاء.
وفي خضم هذا المشهد المهيب، يتفهّم المواطن السوري بحسّه العميق ثقل المرحلة الانتقالية وأهميتها، ويدرك أن بلاده الوليدة – التي لا تزال في مهدها، وطفلها الذي ما زال في طور الرعاية – تحتاج إلى حنان الحماية، ووعي القيادة، وحرص الجميع على ألا تُهدَر هذه الفرصة الثمينة التي أُنجزت بدماء الشهداء وتضحيات الجماهير.
كل مسارات التشكيل – التعيين المباشر وغير المباشر – تمرّ عبر قرار مركزي واحد، دون إشراك فعلي أو آليات علنية للمشاورة، أو حتى معايير معلنة تُحدّد من يُرشّح أو يُنتخب أو يُعيّن.
لكن، مع هذا التفهّم، تظل القلوب حذرة، والعقول يقظة، لأن الطريق من حلم التغيير إلى واقع ديمقراطي حقيقي، معبّد بالتحديات التي قد تكسر الظهر إذا ما تعثّرت الخطوات الأولى.
وفي لحظة تتشكّل فيها مؤسسات جديدة، لا بد من التأكّد من أن هذه المؤسسات تحمل روح المرحلة، ولا تتحوّل إلى أدوات للمحاصصة أو لاحتكار السلطة، وأن لا يُلعب فيها بقضية الشعب باسم الديمقراطية بينما تُخفى مصالح ضيّقة وخلفيّات ضبابيّة.
وهنا، تقع مسؤولية الفحص الدقيق لكل خطوة، خصوصًا حين تُطرح مؤسسات يُفترض بها أن تمثّل الشعب أو تُعبّر عن إرادته.
لأن اللعب بالأسماء والعبارات لا يصنع ديمقراطية، ولا يمنح حقوقًا، بل قد ينعكس سريعًا ضربًا لآمال من انتظروا فجرًا جديدًا.
بين الاسم والمضمون: ما هو هذا المجلس؟
بعد الإعلان الدستوري الذي أصدرته الحكومة السورية الجديدة في دمشق، بدا للكثيرين أن البلاد تتجه نحو بناء مؤسسات جديدة تشكّل معالم المرحلة المقبلة.
كان من بين هذه المعالم ما سُمّي بـ”المجلس التشريعي”، أو مجلس الشعب المؤقّت، كمؤسسة يُفترض أن تُعبّر عن الإرادة العامة، وتعيد وصل السياسة بالناس.
لكن ما إن نقترب من بنية هذا المجلس المقترح وآليات تكوينه، حتى تظهر لنا صورة أخرى تمامًا، صورة لا تُقلّل من أهمية الخطوة، لكنها تدعونا لإعادة تسميتها، وإعادة النظر في وظيفتها.
من يختار من؟ وما هي المعايير؟
بحسب ما ورد في الإعلان الدستوري، سيتكوّن المجلس من 150 عضوًا، يختار الرئيس ثلثهم مباشرة، بينما يُنتخب الثلثان الباقيان عبر “هيئات ناخبة” تُشكَّل من قبل لجنة تُعيَّن بمرسوم رئاسي أيضًا.
بهذه الصيغة، كل مسارات التشكيل – التعيين المباشر وغير المباشر – تمرّ عبر قرار مركزي واحد، دون إشراك فعلي أو آليات علنية للمشاورة، أو حتى معايير معلنة تُحدّد من يُرشّح أو يُنتخب أو يُعيّن.
لا وجود لمرجعية سكانية أو جغرافية، ولا معيار مهني أو معرفي أو حتى سياسي يُرجع إليه. المحافظات لا تُعامَل وفق وزنها السكاني أو دورها الاجتماعي، بل تخضع لتوازنات غير واضحة، قد تكون فصائلية أو أمنية أو تحالفيّة.
مجلس بلا وظيفة واضحة
رغم تسميته بـ”التشريعي”، فإن هذا المجلس، وفق الصيغة المعروضة، لا يملك الصلاحيات المتعارف عليها لأيّ سلطة تشريعية:
- لا يراقب الحكومة.
- لا يسائل الرئيس.
- لا يشارك في تشكيل السلطة التنفيذية أو ضبطها.
- ولا يُشترط الرجوع إليه في القضايا المصيرية.
إنه مجلس لا يُلزم أحدًا بشيء، ولا يُمكنه وقف أو تعديل أو حتى تأخير قرار، وهو أقرب، بكل وضوح، إلى هيئة استشارية موسّعة، تمنح انطباعًا مؤسساتيًا دون أن تمارس مضمونًا سياسيًا حقيقيًا.
نحن بحاجة إلى بناء مؤسسات حقيقية، مهما كانت وظيفتها محدودة في البدايات.
ماذا نريد من هذا المجلس إذًا؟
بمنتهى الهدوء: إذا كان الهدف من تشكيل المجلس هو جمع عدد من الشخصيات القادرة على تقديم الرأي والخبرة والتقدير، فهذه وظيفة نبيلة، ومطلوبة، بل وضرورية في هذه المرحلة. لكن لا حاجة لتسميتها بما لا يُشبهها.
فلنُسمِّ الأشياء بأسمائها: نحن أمام مجلس استشاري، لا مجلس تشريعي.
ومتى ما اعترفنا بهذه الوظيفة، يمكن أن نطالب بما يلي:
- أن يُشكَّل المجلس من شخصيات مهنية – تكنوقراط، يمثّلون مجالات المعرفة والخبرة المتنوعة: القانون، الاقتصاد، الإدارة، الصحة، التعليم، العلاقات الدولية…
- أن يُمنح المجلس دورًا استشاريًا فعليًا، يُستشار في وضع السياسات العامة، ويُطلب منه التقييم والتقويم، لا التشريع أو الرقابة.
- أن يتم تعيينه بناءً على معايير معلنة وواضحة، تُحترم فيها الكفاءة والتوزيع الجغرافي المتوازن، لا الولاءات والترضيات.
بين الواقعية والطموح
المرحلة التي تمرّ بها البلاد لا تحتمل الأحكام الجاهزة، ولا الشعارات المعلّبة، كما لا تحتمل المكابرة على الواقع. نحن بحاجة إلى بناء مؤسسات حقيقية، مهما كانت وظيفتها محدودة في البدايات.
لكننا أيضًا بحاجة إلى الصدق مع الناس: أن نقول لهم إن هذا المجلس لا يُشبه المجالس البرلمانية، ولا يُمثّلهم بالمعنى السياسي، بل هو أداة مساعدة للسلطة الانتقالية، يمكن تطويرها لاحقًا، إذا صحّ البناء من الأساس.
وأخيرًا؛ من حقّ الناس أن يُشاركوا في القرار، ومن واجب المؤسسات أن تُعبّر عنهم لا أن تتحدّث باسمهم. فإذا كانت هذه البنية المطروحة ضرورية، فلنصوّب تسميتها، ولنحرّرها من الادّعاء التمثيلي، ولنجعل منها مجلسًا استشاريًا صادقًا، من أهل الكفاءة لا أهل الطاعة.
هكذا فقط يمكن أن تبدأ المؤسسات الحقيقية في التكوّن، لا من باب التشريع، بل من بوابة الاعتراف بالحدود… والعمل على تجاوزها، لا تغطيتها.
المصدر: تلفزيون سوريا