تونس… وحدة وطنية أم اصطفاف وراء خيار الرئيس

المهدي مبروك

أشار الرئيس التونسي قيس سعيّد، باقتضاب شديد، في معرض حديثه قبل أيام في جلسة لمجلس الوزراء أَشرف عليها، إلى ضرورة العمل على تحقيق الوحدة الوطنية في سياقات (كما قال) لا تخفى على أحد، وتحدّيات تواجهها البلاد. أثار هذا التصريح المُبهَم سيلاً من التعليقات، في مواقع التواصل الاجتماعي وما تبقّى من برامح إعلامية تتّخذ من الشأن العام موضوعاً لحديثها، فقد تراجعت مثل هذه النوعية من البرامج منذ 25 يوليو/ تمّوز 2021، تاريخ تفكيك تجربة الانتقال الديمقراطي، حتى انتهت البلاد إلى نظام رئاسوي يحتكر فيه الرئيس السلطات كلّها، ويمضي مسرعاً في تجسيد مشروعه الهُلامي، هو مزيج من نفحات قذّافية (نسبة إلى معمّر القذّافي) تُلغي ضمنياً الأحزاب والأجسام الوسيطة كلّها، ولا تمنح آليات التمثيل الانتخابي مكانتها التي تستحقّ، وأحلام اشتراكية طوباوية.

اختفت في تونس طبقة الانتقال الديمقراطي بجلّ مكوّناتها

مباشرةً، أثّر فوز سعيّد في الانتخابات الماضية (أكتوبر/ تشرين الأول 2024)، وعرفت عزوف ما يناهز ثلثي الجسم الانتخابي في سياق استُبعِد منه جلّ المنافسين الجدّيين، من خلال إصدار أحكام قضائية ألغتها المحكمة الإدارية، غير أن الهيئة العُليا للانتخابات لم تلتزم بها، وصرّح مدير حملة الرئيس الانتخابية وشقيقه، المحامي نوفل سعيّد، أن البلاد ستتفرغ للبناء وحلّ المعضلات الاقتصادية والاجتماعية، ملمّحاً أن العهدة الرئاسية الجديدة لن تكون كسابقتها، ما أطلق العنان لتأويلات شتى ذهبت في مجملها إلى التفاؤل المفرط، وقد يكون ذلك في مجمله إسقاطات نفسية تحشد رغبات واسعة للشارع التونسي، ونُخَبه السياسية تحديداً، ترغب بدورها في طي صفحة الانغلاق السياسي والتفرّد التي اتسمت بها العهدة السابقة من حكم سعيّد، وكانت التوقيفات والمحاكمات عنوانها الأبرز. محاكمات طاولت العديد من قادة الأحزاب، علاوةً على إعلاميين ونشطاء جمعويين.
يمنحنا سلوك السياسيين التونسيين الذين يستعجلون مثل هذه المبادرات، حتى ولو كانت جزءاً من التسويق السياسي، نافذةً مهمّةً لمعرفة درجة الانحباس في المشهد السياسي بتونس، حتى الشّلل بعد عشرية من الفوران. يذهب بعضهم (الأكثر تشاؤماً) إلى القول بموت السياسة بعد أن أُميتت الأحزاب السياسية، وبشلل المجتمع المدني، وبإضعاف كلّ الهياكل التمثيلية بعد أن غدت استنساخاً لتجارب سابقة فاشلة، تصرّ واهمة على تنظيم قاعدي يمثّل الشعب الحقيقي من دون حاجة إلى وسطاء عنه. افتتح الرئيس قيس سعيّد عهدته الجديدة بجملة من التوقيفات طاولت رجال أعمال بشبهة الفساد المالي، تلتها جملة من الزيارات “المفاجئة” إلى ضيعات زياتين مملوكة للدولة، أُهمِلت عقوداً طويلةً. كان اختيار السياق مهمّاً جدّاً، وقد تزامنت تلك الزيارات مع بدء موسم جني الزيتون، الذي ينافس السياحة وتحويلات التونسيين في الخارج، في قدرته على تغذية ميزانية الدولة بالعملة الصعبة، غير أن تلك الإجراءات لم تأت أُكلها على المستوى القريب، خصوصاً بعد تدنّي أسعار الزيت على المستوى الوطني، والعجز عن تخزين الصابة، ما حدا باتحاد الفلاحين إلى إصدار بيان يدعو فيه إلى إقالة المسؤولين عن هذا القطاع بعد النتائج الكارثية التي أصابت المزارعين.

لن يكون لسقوط الأسد في سورية أيّ آثار باتجاه الانفراج في تونس البعيدة بالمعنى الجيوسياسي

لا شيء يؤشّر إلى تحولٍ (ولو طفيف) في نمط إدارة الدولة والشأن السياسي تحديداً، فلا شيء يبرّر تنازل الرئيس سعيّد عن مكاسبه كلّها، التي جناها في الفترة السابقة من حكمه، فهو الحاكم الأوحد، على حدّ عبارة أستاذ العلوم السياسية حمادي الرديسي (عنوان آخر كتبه)، خصوصاً أن لا أحد يضايقه فيما انتهى إليه، فلقد اختفت طبقة الانتقال الديمقراطي بجلّ مكوّناتها أحزاباً ومنظّمات وشخصيات اعتبارية، حتى كأنّ الأرض ابتعلتهم جميعاً. لا يمكن إنكار الجهد الذي بذلته جبهة الإنقاذ في مناهضة هذا المسار خصوصاً بُعيد الانقلاب، غير أن الإيقافات التي طاولت قادتها شلّت تقريباً جلّ جهودها تلك، وتخلّت تدريجياً عن الدعوات إلى تحريك الشارع مكتفية (بين حين وآخر) ببيانات تنديد بشأن التوقيفات والتجاوزات والمحاكمات الجائرة لعديدين من رموزها. أمّا الاتحاد العام التونسي للشغل، باعتباره “نقابة معارضة اجتماعية”، فإن خلافاته الداخلية التي برزت، فضلاً عن صورته السلبية لدى فئات واسعة من المواطنين، وإعراض الرئيس عنه، فقد أدّت إلى تراجع مكانته ودوره إلى حدّ مريب. لقد اختفت مكوّنات تلك الطبقة كلّها، فضلاً عن أن بعض مكوّناتها ساند الرئيس في تمشيه الشمولي هذا، وهي لا تريد سوى مزيد من تأبيد الوضع واستدامته. وعلى المستوى الخارجي، التحولات الإقليمية الجارية، بما فيها ما يحدث حالياً في سورية بعد سقوط الأسد، لن تكون له آثار باتجاه الانفراج لأسباب عديدة، أولها أن تونس بعيدة كل البعد عن المنطقة بالمعنى الجيوسياسي، فضلاً عن أنها قد تكون عاشت نسخةً من الذي يجري حالياً في سورية، وقد خرجت منه بكثير من التحفّظ والإنهاك النفسي، ولا يمتلك النموذج السوري الحالي جاذبيةً واسعةً لدى الرأي العام التونسي.
يظل الرئيس وفياً لتصوراته، وهو إن أشار إلى أهمية الوحدة الوطنية، فإنه أيضاً، وفي الحديث المذكور، شدّد على أن البلاد تعيش مرحلة حركة تحرّر وطني، تحتاج فيها إلى إلحاق الهزيمة بأعداء الوطن. إنه وحدة على قاعدة الاصطفاف وراءه في معركته الوجودية.
ما لم يلتق الفرقاء حول الأدنى الوطني المشترك، من أجل استعادة الديمقراطية، فستظلّ السلطة تلتهم ما تبقّى من مربّعات الديمقراطية، وهي ضئيلة أصلاً.

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى