في 17 نيسان/أبريل، اعتقلت السلطات التونسية رئيس حزب النهضة الإسلامي راشد الغنوشي، البالغ من العمر 81 عامًا، الذي شغل منصب رئيس البرلمان قبل أن يحله الرئيس قيس سعيّد بُعيْد استيلائه على السلطة في 25 تموز/يوليو من العام 2021. وقد تم اعتقاله مع اثنَين من أعضاء الحزب في المكتب التنفيذي، وداهمت قوات الشرطة مقرّه المركزي ومنعت الاجتماعات في كلّ مقرّاته في البلاد. وجاء ذلك عقب قيام السلطات باحتجاز شخصيات سياسية معارضة له بتهم مزعومة مختلفة، تتراوح بين المشاركة في “التآمر على أمن الدولة” إلى انتهاك المرسوم 54، الذي استنكرته منظمات المجتمع المدني باعتبار أنه يشكّل تهديدًا لحرية الصحافة وحرية التعبير.
وخلال الأشهر القليلة الماضية، مَثُل الغنوشي أمام المحكمة على خلفية مزاعم بأن حزب النهضة ساعد الجهاديين على السفر للقتال في سورية. وتم التحقيق معه أيضًا بتهم غسل الأموال في ما يتعلق بحصول منظمات وجمعيات خيرية مرتبطة بالحزب على تمويل أجنبي. وأتى اعتقال الغنوشي بعد تصريح أدلى به في اجتماع لجبهة الخلاص الوطني، وهي تحالف قوى ساهمت النهضة في تأسيسه ويعارض التدابير التي يتخذها سعيّد. ويُنسبُ للغنوشي قوله: “تصور تونس بدون هذا الطرف أو ذاك، تونس بدون نهضة، تونس بدون إسلام سياسي، هو مشروع حرب أهلية”.
أين تكمن أهمية المسألة؟
لعب حزب النهضة دورًا مهمًا في تاريخ تونس الحديث، حيث قاد الصحوة الإسلامية في ستينيات القرن المنصرم قبل دخوله المعترك السياسي أواخر السبعينيات كحركة معارضة بارزة للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. وبعد الإطاحة ببورقيبة في العام 1987 وتسلّم زين العابدين بن علي السلطة في العام نفسه، واجه حزب النهضة حملات قمع كبيرة. وتمّ سجن الآلاف من أعضائه ونفي الغنوشي وقادة آخرين لمدة عقدَين من الزمن قبل أن يعودوا إلى تونس في العام 2011 بعد الانتفاضة ضدّ بن علي.
قاد الغنوشي وحزب النهضة الحكومة الائتلافية بعد العام 2011، وساهما في صياغة دستور العام 2014، الذي حظيَ بثناء المجتمع الدولي. علاوةً على ذلك، توصّل الغنوشي إلى تسويات براغماتية مع ممثلين عن النظام السابق، وأرسوا نوعًا من السياسة القائمة على الصفقات في تونس. صحيحٌ أن ذلك ساهم في الحفاظ على التجربة الديمقراطية، إلا أن التسويات تسببت بتغذية الغضب الاجتماعي ضدّ فساد الطبقة السياسية وتبدُّد آمال الشعب بإحداث أي تغيير اجتماعي واقتصادي.
مهّد ذلك الطريق أمام صعود الشعبوية في العام 2019 وانتخاب سعيّد رئيسًا للجمهورية في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه. وبعد أقل من عامَين، نفّذ سعيّد انقلابه الفعلي فأقدم على تجميد عمل البرلمان، وإعفاء رئيس الوزراء من مهامه وتعزيز صلاحياته القضائية. ومنذ ذلك الوقت، عزّز سلطته وأعاد بناء نظام سياسي يتمتّع فيه الرئيس بصلاحيات مفرطة، فيما عمد تدريجيًا إلى قمع المعارضين والأصوات التي ترتفع احتجاجًا. يشكّل اعتقال الغنوشي تصعيدًا كبيرًا في هذا الصدد، إذ إنه سيرسّخ المأزق السياسي القائم في تونس ويكرّس تقلّص المساحة السياسية في البلاد.
ما المضاعفات على المستقبل؟
تترتب عن اعتقال الغنوشي ثلاث نتائج أساسية يجب رصدها. أولًا، سيقوّض الاعتقال آفاق الشروع في حوار سياسي للتوصّل إلى حل للمأزق التونسي. تعمل منظمات المجتمع المدني، بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل، على إطلاق مبادرة للحوار الوطني من أجل المساعدة على إيجاد حل للأزمة السياسية في البلاد. وأفصح الاتحاد العام التونسي للشغل أخيرًا أن مبادرته ستُعرَض على سعيّد وسيُكشَف عنها قريبًا إلى العلن. وقد أشار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، الذي تربطه علاقات جيدة بالرئيس التونسي، في مقابلة معه أخيرًا عبر قناة الجزيرة، إلى أن بلاده ستدعم المبادرة. لكن سعيّد رفض الحوار، مدّعيًا أنه يجب أن يحدث فقط في سياق برلمانٍ جديد، ما يعني إقصاء الأحزاب السياسية التي اعترضت على إحكامه قبضته على السلطة. وقد قضى اعتقال الغنوشي نهائيًا على فرص انطلاق أي حوار من هذا القبيل، ويُظهر، مرةً أخرى، أن سعيّد غير مستعد للتنازل. وقد يُستتبَع ذلك بخطوات تصعيدية أخرى، منها اعتقال المزيد من الشخصيات السياسية، وحلّ حزب النهضة، وقمع المجتمع المدني.
ثانيًا، يتسبب اعتقال الغنوشي بتفاقم المأزق السياسي في تونس في مرحلةٍ تشهد فيها البلاد أزمة مالية واقتصادية عميقة. تخوض تونس مفاوضات مع صندوق النقد الدولي منذ عامَين لوضع برنامج إصلاحي. وفي حال عدم التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد أو شكل آخر من أشكال الإنقاذ المالي، تواجه تونس خطر التخلّف عن سداد ديونها في الأشهر المقبلة. لقد أشار سعيّد إلى أنه سيرفض “إملاءات” الصندوق، معرِّضًا المفاوضات للخطر. قد يصبّ اعتقال الغنوشي في مصلحة الاستراتيجية التي ينتهجها الرئيس بإلقاء اللوم على الآخرين في المشكلات التي تعاني منها تونس، بالطريقة نفسها التي حمّل بها الطبقة السياسية مسؤولية سوء إدارة الاقتصاد، إلا أنه قد يتسبب أيضًا بزعزعة الاستقرار السياسي. وسيؤدّي ذلك إلى تفاقم الأوضاع الاجتماعية ويُعرِّض تنفيذ الرزمة الإصلاحية للخطر.
ثالثًا، ربما يوجّه اعتقال الغنوشي رسالة إلى التيارات الإسلامية الأخرى مفادها أن الخروج من الإسلام السياسي مستحيل، وأن الاعتدال واستراتيجيات الاندماج في الأنظمة السياسية قد يكون مصيرها الفشل الذريع. وتتأكد هذه المقولة أكثر فأكثر في ضوء أن الغنوشي كان زعيمًا إسلاميًا بارزًا أظهر درجةً عاليةً من المرونة. وقد تمكّن من بناء جسور مع العلمانيين وإدارة الانتقال الديمقراطي الذي كان محطّ ثناء من المجتمع الدولي. سيرتبط المصير الشخصي للغنوشي ارتباطًا وثيقًا بمستقبل الإسلام السياسي في المنطقة، سواءً سارت الأمور نحو الأفضل أم الأسوأ.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط