قراءة في رواية: صيف جليدي

أحمد العربي

صيف جليدي. الرواية التي نقرأها ونكتب عنها لعبد الإله بلقزيز، هو بالاصل مفكر يكتب بالشأن السياسي والاجتماعي والتاريخي، من أهم مفكري المغرب العربي المعاصرين، وكتابته الروائية فيها استعادة لدور أغلب المفكرين العرب؛ الذين أظهروا مواقفهم الفكرية عبر الأدب؛ الرواية أو السيرة الذاتية .

الرواية تتحدث عن مرحلة تمتد من أوائل السبعينات من القرن الماضي وتمتد الى التسعينات منه، وهي سجل ذاتي لجيل مواليد  الخمسينات والستينات في المغرب العربي، عبر بطل روايته “علي” و أصحابه وأقرانه. تبدأ الرواية حيث يستعدّ علي لإطلاق سراحه من السجن بعد عدة أيام، وكان قد قضى بالسجن سنتين ونصف بحكم سياسي، بتهمة من التهم الكثيرة التي تطال كل ناشط سياسي، ومن دون البحث والتعب كثيرا في ذلك الاتهام وصحته، فكل معارض للانظمة مجرم يستحق المحاسبة ؟!. علي درس الجامعة في قسم الاقتصاد، يعمل في أحد البنوك، ابن لعائله محافظه، والده يحمل إجازة في الحقوق، وعمل في وزارة الأوقاف موظفا، حاول والده معه أن يدخل كلية الحقوق لكنه رفض ، كان ينوي دخول قسم اللغه الفرنسيه، دخل قسم الاقتصاد كحل وسط إرضاء لوالده، علي نشأ في سبعينات القرن الماضي قريبا من الحركات الماركسيه بداية، ثم غادرها بعد مده والتحق بحزب الاتحاد الاشتراكي المغربي، الذي بدأ مرحلة تفاهم مع السلطة (المخزن)، وقرر العمل العلني في ظروف ديمقراطية نسبيا، ولكن هذا لم يمنع السلطة من اعتقال الكثير من الكوادر، ومنهم علي نفسه، اعتقل حيث يعمل، وفي وقت عصيب عليه، فوالده القدوة بالنسبة له، كان قد مرض منذ أشهر وتبين أنه مريض بالسرطان، وانتكست صحته بسرعه، كان قد اخبر اهله بأنه سيزورة في اقرب وقت، لكن الاعتقال منعه، أعتقل  مكان سري،  بقي فيه حوالي الستة أشهر، في ظروف قاسية جدا، القيد بالايدي دوما، وعصابة على العينين، المعتقلين كثر، بعضهم لا يفقه السياسة، معتقل عشوائيا، التعذيب مستمر، والاعترافات جاهزة عن انتماءات حزبية، وتخطيط لأعمال تخريب، والاغلب يعترف بذلك رغم براءته لكي يرفع عنه التعذيب، ولانه لا حل آخر. كان حزينا على والده الذي يعاني من سكرات الموت، وعلى أهله وكيفية تلقيهم لخبر غيابه، و حبيبته ليلى التي يعيش معها حياة أقرب للحياة الزوجية، ليلى التي تعرف عليها في أجواء الجامعة منذ سنوات، مع عدد آخر من الزملاء والزميلات، حيث كوّن شبكة علاقات صداقة وزمالة وانتماء سياسي مع البعض، كان شديد الاهتمام بكل ما يحصل في المغرب والعالم، وجزء من ولاء حزبي وفي اتحاد الطلاب، كثير الاطلاع الأدبي والسياسي في اللغة الفرنسية والعربية، لذلك كان نموذجا يحتذى ومحبوبا، تعرف على ليلى وبعد فترة تحابا وعاشت سوية، افتقدها في اعتقاله، زارته في السجن بعد ستة أشهر من الاعتقال، استمر ذلك اكثر من مرة ومن ثم غابت عنه، و بعثت بعد ذلك رسائل له تخبره بها انها ضعفت أمام اهلها ، الذين يرفضون علاقته بها وخطبها  احد اقربائها وسرعان ما ستتزوج،  تاركة في نفسه جرحا، عن حب استمر لسنوات، ولم تستطع ان تحميه. عائلة علي تتألف من اخاه ابراهيم الذي يكبره بسنة ، والذي أصبح محاميا و تابع قضيته ومحاكمته و أحوال سجنه، عمل لنقله الى مدينته، ابراهيم الاخ الصديق المعطاء الخدوم، علم بوفاة والده في فترة اعتقاله. وترك ذلك  في نفسه شرخا، اخته الكبرى كريمه  تزوجت وأنجبت، كانت له أم اخرى، أما اخته الصغرى سميرة التي يعتبرها ابنته أكثر من كونها اخته، فقد اصيبت بانهيار عصبي بسبب موت الوالد وغياب علي في الاعتقال، ولم التوازن نفسيا إلا عندما رأته عندما نقل للسجن بعد الاعتقال السري، علي سيخرج من السجن وقد اكتوى بنار الاحساس بظلم السلطة ومظلومية الاعتقال، يستوعب درس التناقض بين النظري الذي كان يفكر به، والواقع الحقيقي الذي عاشه في السجن، سيعاني من احتمال غياب فرص العمل، والخوف ان يكون عالة على أهله، لكن الحزب سيقدم له معونة مالية  وسيتم التعاقد معه على كتابة مواضيع اقتصادية في جريدة الحزب، وبذلك امّن الحد الأدنى لمعيشته. سنتابع حياة علي واهله واصحابه عبر أكثر من عقد من الزمان، ونرصد تغيرات الحياة عليهم، وذلك مع إطلالة مركزة على أحداث العالم المحيط مثل حرب رمضان 1973 بين العرب و”اسرائيل” ، و اجتياح “اسرائيل” 1983 لبيروت. وسقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي 1990، لكن الرواية ترصد التفاعلات النفسية والمجتمعية عند أشخاصها أكثر، وتدخلنا في عوالمهم ومآلات حياتهم، علي سيعمل ليحصل على دبلوم بتخصصه ، ويسعى للحصول على الدكتوراه، سيتعرف على وفاء لتكون حبيبة له لمدة تزيد عن العامين والنصف، ويتعايش معها كزوجين دون زواج رسمي، يتعرف على أهلها ويصطدم بوالدها، ويحترم والدتها ، وأنها تتقبل علاقته بابنتها وانها امانة بين يديه، لكن الحب لم يستطع الاستمرار، لان علي يرفض الزواج، فقد خرج من السجن محملا بشعور خوف من المستقبل وعدم ثقة بمؤسسة الزوجية، ووفاء تريد طفلا وامومة غير ممكنة دون زواج، سيخسر وفاء وتغادر الى اوربا مكملة تحصيلها العلمي وتزوجت هناك، لكن زوجها سيموت بحادث سيارة، وتعود مجددا لتلتقي أقدارها مع علي في آخر الرواية، لعلي صديق عبد الله وصديقته عائشة يحبان بعضهم ويتزوجان. لكن عبد الله عقيم ويشك بأن عائشة تحب علي وتخونه معه، وسواس قضى على الحب والزواج. وادى للطلاق، عائشه تحترم علي وتعتبره نموذجا ، وتحبه لكن من غير استحواذ، ستسافر لاوربا وتتابع دراستها العليا وتتزوج قريبها هناك. اما ابراهيم المحامي أخا علي سيكون نموذجا للمحامي الفاسد ويرشي القضاة ويدافع عن تجار المخدرات ويبيع موكليه، صار من الملاك الكبار،  لكنه خسر قيمته المعنوية وقاطعه علي. اخته الصغرى سميره ستتعرف على مجموعة اسلامية، غالت بتدينها كثيرا، تصطدم مع أهلها ومع علي نفسه، يتشاجران و يتباعدان بشكل مطلق. علي يكمل دراسته ليصبح مدرسا مساعدا في الجامعة، يعيش حياته على ذكرى الماضي، وهو على موعد مع وفاء التي يلتقيها، ما زال يحبها ويندم كيف خسرها ويفكر كيف يستردها؟!، وينتظر ولا تأتي.

هنا تنتهي الرواية.

وفي تحليلها نقول: تبتعد الرواية عن الخوض عميقا بما استجد في الواقع المغربي السياسي والاجتماعي، رصدنا متغيرات مآلات حياة الناس وضياعهم ايضا، تابعنا التطورات الفكرية للبطل كنموذج من ماركسي الى اشتراكي الى ديمقراطي، لكن مع اصرار على العدالة الاجتماعية، كان التوقف عند سقوط المعسكر الاشتراكي وما يعنيه من تغول الرأسمالية وامريكا على رأسها، وضرورة مراجعة الاخطاء التي اسقطت حلم الاشتراكية، نكتشف ان الشباب ضائع بين قيم المجتمع التقليدية حول العلاقات الاجتماعية من حب وزواج، وبين التفلت من القيم دون بديل ، الذي ادى للضياع وليس الى الحل، الرواية فيها من السيرة الذاتية للكاتب الكثير، وفيها قراءة لجيل عاش عصرا ضاع فيه الكثير وسقطت به الاحلام، فالعرب ضعاف، والأنظمة المستبدة المتخلفة متغولة، فلسطين ضاعت، وضاع حلم الاشتراكية، واصبح الانسان أسيرا للقمة عيشه وكيف يحصلها، لا يغيب عنا كون الرحيل الى أوروبا هو الحل عند شبابنا ولو ليكمل البعض علمهم هناك، والبعض عبر قوارب الموت أو طرق اللجوء. الرواية كتبت في 2007، في وقت كانت تختمر الاوضاع العربيه بكل معاناة اهلها واستبداد حكوماتها وضعف دولها امام اعدائها، وضياع الشعوب ضحيّة قطيعية وقهر واستبداد واستغلال.

الرواية قراءة لحياة أفراد، لمرحلة، لمجتمع، كانت تختمر به بذور ثورة قادمة.

18.5.2016

4
1

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية “صيف جليدي” للكاتب والروائي المغربي “عبد الإله بلقزيز” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الرواية تتحدث عن مرحلة تمتد من أوائل السبعينات من القرن الماضي وتمتد الى التسعينات منه، وهي سجل ذاتي لجيل مواليد الخمسينات والستينات في المغرب العربي.

زر الذهاب إلى الأعلى