سجن صيدنايا من زاوية مختلفة

حسام جزماتي

ربما لا يكون كتاب “سجن صيدنايا: الإضراب الكبير” لفراس سعد أفضل شهادة عن استعصاء هذا السجن، وما سبقه وتلاه؛ إلا أنه يسجّل تجربة خاصة تبدو عبر عنوانه الفرعي: “يوميات معتقل علوي” في زمنٍ كانت فيه أغلبية السجناء من الإسلاميين بتياراتهم المتعددة، ولا سيما الجهاديين.

في المقدمة يقول سعد إن المعتقلين مظلومون جميعاً، وإنهم ضحايا على اختلاف قضاياهم، ولذلك فهو يشعر أنهم جميعاً إخوته ومواطنوه. تشاركوا مخاوف ومصائب وقلقاً وخبزاً وماءً وبرغلاً وشاياً، وشمّوا معاً روائح البارود والموت والحذر من رصاصة قناص وهم يعبرون من غرفة إلى أخرى في أثناء الاستعصاء.

ثم ينتقل لإيضاح خصوصية وضعه في الوسط الاجتماعي المحيط الذي انقسم إلى قسمين؛ استهجن الأوّل منهما معارضته للنظام أصلاً، وزاد استنكاره بعد اعتقاله، فحرّم تقريباً أي علاقة مع عائلته. وتعاطف الثاني معه ومع أهله لكنه انقطع عن التواصل معهم خوفاً من الأمن والمخبرين.

وفي جذور المسألة يرى أن التمييز الطائفي ظهر في حزب البعث والجيش في الستينيات، وانفجرت الفتنة في الثمانينيات التي ترسخ بعدها الشعور بالانسحاق الوطني لدى عامة السوريين، وتصاعد الشعور الطائفي لدى عموم العلويين الذين شعرت غالبيتهم أنهم هم الدولة أو أن دولة علوية، منهم ولهم، تحكم سوريا. باستثناء قطاع ليس قليلاً منهم من المثقفين ومنتسبي الأحزاب السياسية المعارضة أو شبه المعارضة.

كان استنزاف الطائفة مطلباً أسدياً، وكذلك تهميش عائلاتها العريقة علمياً ودينياً ووطنياً، ليتبدل الموقف من التعالي المحلي على عائلة الأسد إلى الخوف منها، ولا سيما بعد نشوء ظاهرة “الشبيحة” التي قادها أفراد من العائلة وفرضت وجودها بقوة السلاح والمال والنفوذ.

وعبر السنوات سيطرت العائلة على الطائفة، وأقصت منافسيها ومعارضيها فيها، مما مكنّها أن تقودها وراءها إلى الحرب بعد قيام الثورة. فهي تمسك بها بالوظائف وتلجمها بالتخويف من بعبع السنّة وتذلّها بالتجويع. ولأن العلويين ليسوا طائفة بالمعنى الكلاسيكي، أي ليسوا مجتمعاً واحداً متجانساً ومتضامناً إلا في حال التهديد الوجودي؛ فقد أفلحت سياسة نظام الأسد في استنفار طاقاتهم للدفاع عن نظامه بوصفه حاميهم.

قبل ذلك بسنوات كان سعد يوسّع اهتمامه من الشعر إلى كتابة مقالات سياسية جريئة متأثراً بالصحوة النسبية للمعارضة السورية بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة. مع أن الكاتب لا يغفل عن تنبيهنا إلى أنه في تلك المرحلة لم تكن هناك معارضة في الساحل بل معارضون، معزولون عن وسطهم القريب بفعل التطويق الأمني والاجتماعي الدقيق الذي لا يعرف الرحمة.

وفي استعراض الكاتب للمسيرة التي حوّلته إلى متمرد على المجتمع والطائفة والحزب ثم على النظام السياسي وأوصلته إلى السجن، يهدف إلى أن يعطي تصوراً تقريبياً عن حال معظم معارضي النظام من أبناء الساحل.

وأشار إلى أن هؤلاء ليسوا بالضرورة “علويين” بالمعنى الدقيق. فمنهم من امتنع عن “تعلم الدين” كما فعل هو ورغم إلحاح الأهل. مما جعله، في نظر المجتمع، في درجة أفضل بقليل من “العدو الذي يرفض ولاية أمير المؤمنين” علي بن أبي طالب. فقد نشأ في بيئة موالية لا تهتم بالسياسة إلا نادراً. وإن فعلتْ فإن حديثها لا يتعدى فساد الحكومة وفضائح آل الأسد والعائلات المحيطة بهم من دون أي اقتراب من “الرئيس”.

وبعد توجهه إلى كتابة المقالات الناقدة طوّقه الحصار الاجتماعي ثم تبعه سؤال أجهزة المخابرات عنه في الحي، وصولاً إلى استدعائه للتحقيق الذي تمخض عن اعتقاله بتهمة نشر أنباء من شأنها أن توهن نفسية الأمة، كما جاء في الحكم الذي أصدرته “محكمة أمن الدولة العليا” وقضى بسجنه أربع سنوات أمضى معظمها في سجن صيدنايا.

وهناك سيعاني عزلة جديدة في البداية. فبعد فرزه إلى مهجع مكوّن من الإسلاميين رفضه معظمهم لأنه من منبت علوي، وشكّوا أنه ربما يكون مكلّفاً بالتجسس عليهم لصالح مدير السجن، ولأنه علماني ديمقراطي. فاجتمعت فيه، لديهم، أسباب النبذ الذي عانى منه ستة أشهر قضى معظمها على سريره، قبل أن تتفكك الأسوار إثر تأكدهم من معارضته الشديدة للنظام.

فبدأ يختلط بالسجناء ذوي التهم المختلفة، ولا سيما من جماعة “الإخوان المسلمين” وأعضاء “حزب التحرير”، ناهيك عن مجموعة الطلاب الديمقراطيين والمعتقلين الأكراد وأبناء الدعاوى الفردية، وصولاً إلى العقلاء من السلفيين الجهاديين، ولا سيما بعد الاستعصاء الذي سيطر فيه السجناء على المبنى بكليّته وامتلكوا حرية التنقل فيه ستة أشهر حتى نهاية العام 2008.

لكن هذه المرحلة حملت خطرها الخاص منذ أن استغل بعض المتشددين الفرصة مباشرة لتصفية بعض خصومهم من المخبرين السابقين للإدارة، وحتى الناشط الحقوقي نزار رستناوي الذي سبق أن اختلف مع الإسلاميين مراراً.

لكن أخوّة البرد والجوع والخطر فعلت فعلها في حالة سعد، فتدخل المعتدلون لاحتضانه، وعرض عليه أمير ولاية سوريا في “حزب التحرير” أن يخرج معهم في أثناء إخلاء السجن بعد فشل الاستعصاء.

وفي تلك الأيام العصيبة الأخيرة، حين بدا أن الموت يقترب بثبات ولا شيء يثنيه، أقسم سعد أنه إذا نجا من السجن سيصبح إمام جامع علوياً ديمقراطياً علمانياً ليبرالياً! وهو يسجّل أنه ما يزال ينتظر الفرصة ليبرّ بعهده ولو خطيباً لمرة واحدة، متابعاً طريق جده الذي ظل إمام بلدة علوية في الجبل لنصف قرن. خاصة بعدما اقتنع الحفيد بأن الجامع يمكن أن يصبح فضاءً لنهضة ثقافية وتربوية، ومكاناً للثورة على الأنظمة؛ أنظمة الحكم وأنظمة المجتمع البالية.

https://www.syria.tv/%D8%B3%D8%AC%D9%86-%D8%B5%D9%8A%D8%AF%D9%86%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%85%D9%86-%D8%B2%D8%A7%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%AE%D8%AA%D9%84%D9%81%D8%A9#:~:text=%D8%B3%D8%AC%D9%86%20%D8%B5%D9%8A%D8%AF%D9%86%D8%A7%D9%8A%D8%A7%20%D9%85%D9%86,%D9%88%D8%A3%D9%86%D8%B8%D9%85%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9%20%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية “سجن صيدنايا” الإضراب الكبير/من زاوية مختلفة – يوميات معتقل علوي للروائي السوري “فراس سعد” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” إنها سيرة ذاتية بالمعتقل ووصف المعتقلين بالسجناء المظلومين ويتحدث عن البعد الطائفي الذي زرعه نظام الأسد بالمجتمع السوري.

زر الذهاب إلى الأعلى