قراءة في رواية: مذكرات الملازم الطبيب

أحمد العربي

صدرت رواية “مذكرات الملازم الطبيب” عن دار آفا AVA في الدنمارك. للكاتب السوري د. آلان كيكاني. وكنت قد قرأت له رواية “ليل ولات الطويل” وكتبت عنها.

تبدأ رواية مذكرات الملازم الطبيب من مقدمة على غير عادة الكتابات الروائية عموما. الرواية أقرب إلى سيرة ذاتية للكاتب في مرحلة خدمته العسكرية. يعتمد في سرده لغة المتكلم عن نفسه في السيرة كاملة.

أنهى د.إلان خدمته العسكرية التي استمرت لسنتين بدءا من عام ١٩٩٨م. وقدم طلبا للحصول على جواز سفر لكي يسافر الى إنجلترا ليتابع اختصاصه الطبي هناك. حيث كان قد خدم في الجيش كطبيب عام.

تفاجأ د. آلان أنه لم يقبل طلبه للحصول على جواز سفر. لأنه كان يخدم في مطار عسكري وخوفا على الأسرار العسكرية التي اطلع عليها؟!!. انتقل الى دمشق من بلدته شمال سورية على وجه السرعة ليقدم الرشاوي المتعارف عليها ليحصل على جواز السفر.

ثم تنتقل السيرة لتأخذنا مع د. آلان الى مركزه الطبي في مطار الناصرية العسكري القريب من مدينة دمشق. حيث كان قد أنهى دراسته الطب في الجامعة. وأمامه وقت حتى يدخل في الاختصاص. فقرر أن يستفيد من الزمن وينتهي من الخدمة العسكرية الإلزامية المفروضة على كل الشباب السوريين لفترة سنتين في ذلك الزمن.

التحق د.آلان في دورة الأغرار قرب دمشق أيضا. التي استمرت ستة أشهر. حيث كانت القاعدة الأساسية فيها. ترويض العسكري الجديد ليكون متقبلا لكل انواع الاوامر وان يكون مجرد مأمور وعليه الطاعة دوما .

تعايش في الدورة بدء مع حلق الشعر العشوائي الى التدريب مع الإذلال و الغوص في مسطحات ماء فيها حيوانات نافقة. مع روث البشر مع عداء فطري بين الضابط العامل المتطوع والمتعلمين خاصة الأطباء وحاملي الشهادات. كان الإذلال المادي والمعنوي السمة الأساسية التي عايشها د. آلان ومن معه…

انتقل د. آلان في فرزه بعد الدورة الى مطار الناصرية وهناك التحق بالنقطة الطبية وتواجد مع مجند يعمل معه كممرض كان قد سبقه إلى هناك قبل أشهر.

 لفت نظره بداية سوء الطبيب السابق فقد كانت العيادة مهملة وغير نظيفة والأدوات الطبية ممتلئة حشرات و دود.. الخ.

بدأ يتعرف د.آلان على واقع المطار وضباطه الطيارين والفنيين وجنود الخدمة الإجبارية مثل د. آلان. الذين يقومون بدور الخدمة للضباط على كل المستويات.

بدأ د. آلان يعرف واقع المطار من ملاحظته المباشرة ومن المجند الممرض. أن الضباط متنوعي النفسيات والأهواء. اغلبهم يتابع هوايات مختلفة في أوقات خدمتهم في المطار البعض يصطاد العصافير في بواريد الضغط. ليبيعها لتجار يبيعوها بعد ذلك لآخرين لتؤكل في مطاعم وفنادق لبنان.

الكل يعلم ان اغلب الضباط وخاصة المدعومين منهم. من له قرابات مع ضباط المخابرات فإنهم يتصرفون بكل ما يأتي الى المطار من مستلزمات الطعام والملابس وغيره بحيث يتم الاستيلاء عليها لصالحهم وتنقل الى بيوتهم بالسيارات المفروزة للمدعومين منهم.

اما الضباط الغير مدعومين فإن انتقالهم اليومي من مساكنهم الى المطار في سيارة الزيل تجعل حياتهم أشبه بالجحيم. يتزاحمون على الجلوس بجانب السائق. و اغلبهم يجلس في كبين السيارة. والمجندين واقفين في رحلة شقاء يومي وهم ينتقلون مسافة تزيد عن العشرة كيلومترات يوميا. من وإلى المطار .

لقد علم د.آلان أن نصف ملاك المطار من المجندين غير موجودين فيه ولا يراهم أحد. إنهم الجنود الذين يدفعون للضباط المال وغيره من مصاغ وهدايا عينية ومود غذائية مقابل عدم قدومهم للخدمة العسكرية. الممرض مثلا الذي دفع كل ما معه من مال ثم بدأ يحضر أغراض بيته للضباط حتى يحصل على إجازات متقاربة ليذهب للاطمئنان على زوجته الساكنة وحدها والحامل ايضا.

نعم د.آلان يخدم في مطار لم نعلم على مدى أكثر من سنة خدم فيها هناك أن هناك من ذهب في طلعة طيران واحدة تدريبية أو حتى استكشافية. ولا حتى صيانة الطائرات. نعلم أن أكثر من نصف الآليات معطلة و منهوبة حيث تُسرق مكوناتها وتباع في السوق السوداء. طبعا هي شبكة تعمل لخدمة الضباط أنفسهم.

الجنود والضباط يمارسون هواياتهم خاصة لعب الورق لتمضية الوقت. للجنود مشكلة ان اغلبهم من الفقراء الذين لم يستطيعوا تقديم الرشاوي للحصول على إجازات ويستمرون في المطار لأشهر مما يجعل انتشار الرذيلة بينهم. حيث يفرغون شحناتهم الجنسية على الحيوانات المجاورة للمطار خاصة إناث الحمير. مخزي ذلك لكنه واقع. كما حصل الاسوأ عندما جاء احد البدو مع قطيع أغنامه ليرعى في حرم المطار وقام بواجب دعوة الجنود وبعض الضباط الى خيمته وأولم لهم من خرافه. ظانا أن ذلك يجعلهم يصونون ماله وعرضه. لكنهم لم يرحموا قطيعه وسرقوا منه الكثير ولا عرضه حيث حاولوا الوصول الى بناته واغوائهن. وهرب بعد فترة بقطيعة. ومن يومها اصيب بامراض كثيرة وتوفي على اثرها في البادية بجوار أغنامه وهي ترعى.

لقد جعلت حياة العسكرية اغلب الجنود منسلخين عن الاخلاق والانسانية وتحكمهم قاعدة اللهم أسألك نفسي. لنعترف أن ذلك كان هو الناظم العام للكل ضباط ومجندين.

لا متغير في حياة الضباط والجنود في المطار حتى جاءت مناسبة تجديد البيعة الخامسة سنة ١٩٩٩م للرئيس الاسد الاب. ودخل الكل في هوس اظهار التأييد و التهليل والفرح المزاودة بهذه المناسبة الذي اجتمع فيها كل الضباط والمجندين في المطار لإظهار الولاء والبيعة للرئيس والتوقيع بالدم على وثيقة المبايعة. التي حصل فيها على نسبة مئة بالمئة من ضباط وعناصر المطار وهذا طبيعي ومنتظر. لأن غير ذلك يعني هلاك المعترض ولو بالخطأ.

يتحدث د.آلان عن بعض الأشخاص والحالات التي أصيب أصحابها بالهلع والخوف من الانتخابات وأثناء إجراؤها. تظهر إلى أي درجة وصلت حالة الإذلال والقهر والخوف من النظام والاستخبارات لدى جنودنا وشعبنا…

وفي يوم جاءت طائرة درون صغيرة اسرائيلية فوق المطار صورت كل شيء لفترة طويلة لم يتصدى لها لا طيران ولا مضادات ارضية. ورحلت كما جاءت. عذر الجميع بعدم الرد. هو عدم وجود الصلاحية بأي تصرف وانتظار جواب القيادة بعد تبليغها بالواقعة. الذي يتأخر بالمجيء او لا يأتي…

يتدث د. آلان عن أحد الضباط كان مختلفا بكل شيء عن بقية الضباط. سرعان ما أصبح يعامل د. آلان كصديق بغض النظر عن فرق الرتب بينهم. كانوا يجتمعون على كأس “العرق” والبوح لساعات طويلة. كان مثقفا وقارئا نهما. وهو منذ كان في دورة الضباط في روسيا انفتح على جميع انواع الافكار العلمية والسياسية والفلسفية. وأصبح يعرف في كل شيء. أصبح النبع المعرفي الذي ينهل منه د. آلان. منه أدرك حقيقة النظام الاستبدادي العسكري السوري. وان حكم العسكر كان وبالا على الشعوب في أي بلد حكمه وكذلك الحال في سورية. ربط بين استبداد النظام والفساد المحسوبية والمظالم جميعا. كان يعتمد تقْية كبيرة بحيث لا يبوح بأفكاره لأحد. وإلا لكان مصيره الاعتقال واحتمال الموت. لذلك كان يحتفظ بموقفه لنفسه. دون ان ينعكس على سلوكه بأي شيء. واصبحت سهرات السكر والغناء الشعبي والعزف على العود والبوح ل د .آلان هي أكثر ما يفعله في مواجهة واقعه. لقد كانت تلك طريقته في الخلاص الفردي التي كانت معتمدة عند كل السوريين وعلى كل المستويات.

كان رأي ذلك الضابط أن سورية جاهزة لصراع دامي بعد موت الاسد الاب وطرفاه سيكونون النظام البعثي والإخوان المسلمين. يقول د. آلان أن ذلك تحقق متأخرا قليلا وبشكل مختلف.

ولنا رأي بذلك سنذكره في التعقيب.

وما أن مضي حوالي السنة على خدمة د. آلان في مطار الناصرية حتى أصبح له حق الانتقال الى مكان يختاره ان كان به شاغر لتحسين خدمته. كنوع من الدعم للأطباء. وهكذا انتقل د.آلان الى رابطة المحاربين القدماء في حلب حيث يسكن أخاه هناك وظروف حياته ستكون أفضل.

وصل د.آلان الى رابطة المحاربين القدماء ووجد فيها مجموعة من الضباط المتقاعدين المعمرين بوظائف متنوعة. وكان رئيس الرابطة لواء متقاعد عمره ثمانية وثمانين سنة مصاب بكل أمراض الشيخوخة. بحيث يتحرك بصعوبة ومصاب بالرعاش وحالته مزرية لكنه مصاب بداء السلطة وجبروتها. مما جعل حياة العاملين في الرابطة جحيما.

كان في القسم الطبي طبيبا مختصا يخدم اجباري متواجدا قبل د.آلان ويعاني من دوامه الإلزامي وحرمانه من العمل باختصاصه والإفادة من ذلك من الصباح الى الساعة الثالثة ظهرا.

في المركز الطبي للرابطة سيتعرف د.آلان على تلك المرأة الجميلة جدا ابنة الثانية والعشرين من العمر وذات القوام الرشيق . أم لطفلين وهي الزوجة الثالثة لضابط معمّر. يراها الكنز الأنثوي الذي كان يحلم به. حيث لم يكن بحكم تربيته الملتزمة قد عاش اي تجربة نسوية في حياته. وهي وجدته طوق نجاتها. فبعد لقاءات عدة وبغياب الطبيب الآخر الذي لا يخفي تجاربه النسائية الحرام. فقد اختلى د.آلان بالمرأة التي احبها ووجد فيها إرضاء الحاجة النفسية والجسدية عنده. وهي محرومة من حقها الجسدي مع ضابط عاجز تحولت الى ممرضة اشتراها بماله من اهلها. وهمّ بها وهمّت به. واستعصم أخيرا عن أن يقترب منها جسديا. تغادره المرأة التي أحب وفي قلبه ونفسه غصة.

تنتهي خدمة د.آلان في الجيش ويستعيد بداية التحاقه بالجيش. كما ذكرنا في بداية القراءة.

تنتهي الرواية – السيرة ويذكر فيها د. آلان أنه يسعى ليخرج من سورية لاكمال اختصاص في الجراحة . وأنه عايش ما عاشته سورية أيام ثورتها وتذكر كلام صديقه الضابط عن الصدام القادم. وأن كثيرا مما توقعه ذلك الضابط قد حصل.

في التعقيب على الرواية اقول:

اذهلتني هذه الذاكرة الممتلئة التي يمتلكها د.آلان في سرده الممتد على ٤١٠ صفحة من سيرته. سواء كانت تسجيلية أو ابداعية فهي خصبة جدا. تتوسع في الحالة نفسها. دون ان تحاول العودة الى ماضي د.الان فهي تتمحور حول المعاش المباشر على امتداد هذه الصفحات كلها. يبقى في ذاتي كقارئ ان اعرف د.آلان في حياته وظروفه الخاصة والعامة التي كان يعيشها. وهو الطبيب الذي يخدم في الجيش وعمره ستة وعشرين عاما. غريب ان تبقى تلك المعلومات غير معروفة ليتم ربطها في واقع د.آلان الذي عاشه في الخدمة العسكرية. لكن اقول الحق لم يؤثر ذلك على شغف القراءة والمتابعة وانتظار ماذا بعد ؟. وأنا اقرأ بكل اهتمام.

ثم لفت نظري عدم اقتراب د .آلان لموضوع طائفية البنية العسكرية لجيشنا السوري خاصة في فئة الضباط. لم يقترب أبدا بأن أغلبهم الأعم من العلويين. ذكر أن أحدهم درزي المذهب. وأن هذه البنية الطائفية العلوية تسيطر بالمطلق على الجيش والأمن ومفاصل الدولة وعبر عقود في سورية. وان حكم حزب البعث في سورية ليس إلا ورقة توت تخفي حقيقة الحكم من الجيش والامن الطائفي العلوي المهيمن في سورية عبر عقود ومنذ ما قبل حكم الأسد الأب والممتد في عهد الابن إلى الآن…

لذلك عندما ننتقل الى ثورة شعبنا السوري التي حصلت في ربيع عام ٢٠١١م. فإنها حصلت بين كل الشعب السوري بمكوناته الدينية والمذهبية والاثنية. في مواجهة النظام الطائفي المتصفح بالطائفة العلوية. التي حولها لقوة تقاتل لأجله وتموت لأجله وتحصل على بعض مكتسبات السلطة حسب القرب والولاء من رأس النظام والعصابة المحيطة به.

وإن محاولة اعتبار الثورة هي صراع طائفي أهلي بين السنة والعلويين في سورية هو تعمية عن حقيقة النظام الذي ظلم كل الشعب السوري بكل مكوناته على كل المستويات، وادما اعادة جذوة الثورة السورية منذ سنة الى الآن في السويداء ذات الاغلبية من المكون الدرزي بمطالبه المشروعة إسقاط الاستبداد وتحقيق الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية وصون كرامة الناس وتحقيق الحياة الأفضل لهم الا دليل على ذلك.…

بكل الأحوال لقد كانت رواية أو سيرة مذكرات الملازم الطبيب صورة صادقة بنسبة كبيرة عن جيشنا السوري الذي تشقق واصبح شذرا مذرا بعد ثورة السوريين. لأنه كان أبعد ما يكون عن كونه جيش السوريين لحمايتهم من اعدائهم. بل هو عصبة الضباط والامن تشارك في سرقة وظلم السوريين كل الوقت. تسيطر على غالبية مجندين في فترة تدجين وتقبل القمع والظلم في الحياة القادمة للكل في سورية…

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية: مذكرات الملازم الطبيب” للكاتب السوري “آلان كيكاني” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الرواية أقرب ما تكون من السيرة الذاتية للكاتب الذي خدم العسكرية بعام 1998بمطار عسكري ، وبعد انتهاء خدمته الإلزامية منعوه من السفر لأنه خدم بمطار عسكري، يذكر الكاتب التركيبة الطائفية للجيش السوري وخاصة بالجوية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى