قراءة في كتاب: الشهيدة السورية الأولى

أحمد العربي

سميرة جورج مبيض، باحثة أكاديمية وكاتبة سياسية سورية، تنتمي للثورة السورية. وكتاب (الشهيدة السورية الأولى) لسميرة جوزيف مبيض، له عنوان فرعي متمم: تاريخ عائلة مسيحية تحت اضطهاد حكم الأسد. يتابع الكتاب تاريخيًا قصة عائلة مبيض.

أولًا: اصول العائلة في لواء اسكندرون.

يبدأ الكتاب من تاريخ ١٩٣٦م، حيث تم سلخ لواء اسكندرون من سورية وإلحاقه بالدولة التركية، بناء على اتفاقات تقاسم الأراضي والموارد والمنافذ بين الدولة التركية ودول الانتداب عموماً ومن ضمنها الاحتلال الفرنسي لسورية. قبل هذا التهجير كانت عائلة مبيضين من سكان انطاكية ولهم فيها منزل كبير، كان يسكن فيها الاخوين يوركي وعائلته المكونة من سبعة أشخاص، وأخوه يعقوب مع عائلته المكونة من ثلاثة عشر شخصا. عند حصول الانسلاخ غادر يعقوب وعائلته الى بيروت، اما يوركي فقد غادر الى دمشق، وتركوا منزلهم الذي ستستخدمه الدولة التركية مركزا حكوميا. هذا التهجير الذي لم يأخذ بنظر الاعتبار مصالح وأمن واستقرار المجموعات البشرية التي أرغمت عليه ومن ضمنها هذه العائلة.

ثانيا: انتقال عائلة يوركي إلى دمشق.

انتقل يوركي وعائلته الى دمشق، لأن زوجته اصلا من دمشق، اسمها وديعة الدر، سكنوا في حي الصوفانية قرب باب توما، كان انتماء العائلة الى الطائفة الأرثوذكسية، لكنهم سجلوا أنفسهم ضمن الكنيسة الكاثولوكية، ليلقوا العناية والرعاية. فهم شبه لاجئين. وتوظف ثلاثة من أولاده في البريد مستفيدين من كون خالهم يعمل هناك. وتم تعديل كنيتهم في النفوس من مبيضين الى مبيض.

ثالثا: مسار حياة الابن جوزيف بيض.

كان يعمل الأب يوركي في الجمارك في راجو على الحدود السورية التركية. وعندما استقرت عائلته في دمشق عاد هو الى راجو لمتابعة عمله هناك، كان ابنه جوزيف من مواليد ١٩٢٥م، قد وصل الى سن السادسة عشر، ذهب مع والده ليعمل معه في الجمارك، تعرف هناك على فتاة من عفرين واراد الارتباط بها، رغم اختلاف الدين بينهم. لكن امه منعت ذلك عندما علمت بالأمر، ذهبت من دمشق الى راجو واحضرته الى دمشق ومنعت هذا الزواج، حاول جوزيف الانتحار، وبعد أشهر انصاع لأمر أمه وتزوج من فتاة دمشقية اسمها ملكة حلاق. استمرا متزوجين مدى الحياة، لكن حياتهم كانت هشّة

رابعا: عودة جوزيف وزوجته الى راجو.

عاد جوزيف الى راجو لمتابعة عمله في الجمارك، انجبت له زوجته سبعة أولاد، غسان وسميرة ونور وبطرس وبولس والياس وجورج، كما توفي طفلان في الصغر. كانت حياة اسرة جوزيف موزعة بين راجو وقطنا ودرعا، حيث ينتقل مع تغير مكان عمله. استمر ذلك حتى سنة ١٩٦٤م حيث انتهت استقرت العائلة في دمشق، في القصاع حي برج الروس.

خامسا: الاستقرار في دمشق ومسار حياة جورج.

عاش جورج والد الكاتبة د. سميرة في كنف عائلته متنقلا معها من راجو الى دمشق حيث عاش مع جدته لسنوات، التي وضعته في مدرسة لورد ثم نقلته الى مدرسة المعونة بعد أن أساءوا له وعيّروه بفقر العائلة. ثم الى مدرسة القلبين الاقدسين، ثم التحق بعائلته في قاره، دخل مدرسة الراهبات في قطنا عام ١٩٥٦م، ونال شهادة الكفاءة عام ١٩٦٧م، ثم التحق بمدرسة التجارة في العباسيين وحصل على شهادة البكالوريا. كان يضطّر أن يعمل ويدرس لكي يؤمن مصاريفه ولقمة عيشه. عمل في فرن وفي مطبعة ومراقب عمال وفي كازية. تأثر بخاله حنين حلاق الذي كان شيوعيا، لذلك التحق بالحزب الشيوعي. كان أول اعتقال له في منتصف الستينات وعمره ستة عشر عاما. لكونه شارك بمظاهرة بمناسبة يوم الأرض. وكاد يموت من رصاصة عام ١٩٦٧م عندما احتج على عدم تقديم السلاح لهم للدفاع أنفسهم ايام حرب حزيران، حيث ندد بذلك فأطلق أحدهم عليه رصاصة اخطأته. التحق بالخدمة العسكرية لكنه سُرّح من الجيش لوجود بقايا طلق ناري قديم في قدمه. تابع جورج اهتمامه السياسي، حيث ذهب إلى ألمانيا، والتحق بحركة فتح وكذلك بالصاعقة، كان متشوقا للمشاركة بمعارك أيلول الأسود عام ١٩٧٠م حيث حاربت الاردن الفدائيين عندها. ومنع حافظ الأسد الذي كان وزيرا للدفاع السوري وصول دعم الجيش والمتطوعين السوريين لمساندتهم. بعد ذلك دخل في العمل السياسي السري. وعمل بتجارة السيارات بين ألمانيا وسورية. وفتح أخيرا محلا للمجوهرات في ركن الدين. تزوج من ميمنت مقبعة من عائلة هُجّرت أيضاً من شمال سوريا في العشرينات من القرن العشرين من الأرمن الكاثوليك، كانت تربية د. سميرة واخواتها على القيم المسيحية والانفتاح الانساني والخير والعدالة والعمل، ورفض حكم البعث والعمل لحياة أفضل لكل الناس.

سادسا: النظام السوري منذ منتصف الستينات. وقضية قتل سميرة وإخوتها.

تشرح الكاتبة مرحلة دخول سورية منذ استلام حزب البعث السلطة في سورية في ستينات القرن الماضي، في عصر من الظلم والاستبداد والفساد والاستغلال، سيطر الجيش والامن على مقدرات الناس وانفاسهم، كان مجيء حافظ الأسد إلى الحكم عبر انقلاب ١٩٧٠م وهيمنته المطلقة على سورية، حيث اعتمد على التمييز وتنمية المشاعر الطائفية بين كل المكونات السورية، كان ظلمه للشعب مقدمة لظهور التطرف من كل الفئات، وكان النظام يدعي أنه حامي للأقليات ومنها المسيحيين، لكن فعله عكس ذلك، حيث خلق حالة مظلومية تدفع كل فئة للبحث عن حل للدفاع عن نفسها، أو تؤثر السلامة وتهاجر، وبذلك يتحقق للنظام التغيير الديمغرافي المطلوب، خاصة بعد أن وطّد علاقته بايران التي بالتزامها الديني الشيعي المتزمت كعقيدة للدولة، حيث التقى مع ادعاء القومية العربية المغطية لطائفيّة مقيتة عند النظام، مع السعي للتمدد في كل دول المنطقة من قبل ايران، اصبحت تخطط لتغيير ديمغرافي ضحيته الشعب السوري بكل مكوناته، وظهر هذا بعد اعوام الثورة السورية وتهجير السوريين بالملايين، والعمل على احلال الايرانيين محلهم، وتهجير مسيحيي سورية حيث هاجر أغلبهم تاركا الوطن للحفاظ على الحياة.

سابعا: شهداء عائلة مبيض.

لم يكن فقط جورج من اهتم بالشأن العام وكان مسيسا، ويرفض نظام حكم البعث والأسد، ويسعى لبناء نظام وطني ديمقراطي عادل، يعيش فيه كل مكونات الشعب متساوين وفي ظل القانون والحريات، ويعملون للحياة الافضل. لذلك كانت أخته سميرة مسيّسة مثله، درست التمريض وعملت في احدى المشافي لتعيل نفسها وتساعد العائلة. كان ذلك عام ١٩٧٥م، وصل خبر للعائلة ان ابنتهم سميرة وجدت مقتولة. ذهب الاهل الى مكان الحادث ثم الى الشرطة، كان هناك افادتان واحدة تقول ان سيارة دهستها وهربت، واخرى تقول انها قُتلت عن عمد في أحد الفروع الامنية، وان القاتل معروف ضبط وهو يحاول رميها من سيارته التابعة للأمن في الشارع، وهو عنصر في الأمن، تابعت العائلة القضية. كان التقرير الجنائي للشرطة العسكرية يقول: الوفاة سببها حادث سيارة، أما افادة الشهود فتقول: لا حادث بل قتل، وتقرير الطب الشرعي يتحدث عن قتل بليّ الرقبة لم يستسلم الاهل، قرروا رفع دعوى على رجل الأمن القاتل. حاولت السلطات أن تلعب بالمحاكمة وفشلت. تدخلت الكنيسة لتقنع العائلة بالتخلي عن الدعوى وفشلت. فما كان من الامن الا اعتقل ابنهم غسان واخفوه لمدة يومين، ثم استدعوا الأب للأمن وتم تهديدهم بقتل غسان ايضا، ان لم يسحبوا الدعوى عن رجل الأمن القاتل. استسلموا وأسقطوا الدعوى وبقي القاتل حرا. ومع ذلك بقي سر اعتقال سميرة وقتلها يؤرق العائلة، صحيح انها مسيّسة لكن ليس لدرجة القتل بهذه الطريقة، ولا دافع جنسي وراء قتلها، لأن تقرير الطبيب الشرعي يقول ان لا اعتداء جنسي عليها. وبعد مضي عشر سنوات على قتلها شهد أحد الأطباء أن سميرة اشتبهت في المشفى مكان عملها بوجود عقارات غير مُعروفة تعطى دون وصفات طبية لبعض الشخصيات المحددة، وبدأت تستعلم وتسأل عن الامر وتم اتخاذ قرار قتلها بناء على هذه الحادثة وقتلت.

اما الشهيد الثاني فكان بطرس مبيض اخاهم الآخر، فقد كان من معارضي النظام منتميا للحزب الشيوعي المكتب السياسي المعارض، اعتقل في أواخر السبعينات، وبعد سنتين من اعتقاله استدعى الأمن اهله، وسلمهم ابنهم بطرس، بحال يُرثى له ومصاب باضطرابات عصبية وفي حالة سيئة جدا. حاولوا علاجه ولم ينجحوا، ارسلوه الى المانيا للعلاج ولم يشفى، حاول الانتحار هناك واتم انقاذه، اُعيد الى سورية ووضع في مشفى الأمراض العقلية ابن سينا. كان يزوره الاهل كل اسبوع يجلسون معه قليلا ويأخذون له بعض الأغراض، كان يعيش في عالم آخر، رجّح الأطباء فرضية حقنه بعقارات مخربة للأعصاب اثناء فترة اعتقاله، أدّت لما هو عليه. توفيت والدته قبل وفاته بسبعة أعوام. وهو توفي في تاريخ ٢٠١٣م. بعد الثورة السورية بسنتين، حين كانت عمليات القصف بالغازات السامة قائمة على مناطق محيطة بابن سينا.

اما ثالث شهداء عائلة مبيض فهو غسان الذي كان يعمل صائغا. حيث رصده شريكه مع آخرين وقتلوه وسرقوا الذهب والمال، وكشف القاتل بالتحقيق، وحوكم وكاد يتبرأ بالرشاوي وبمحاولات حرف مسار القضية، لكن العائلة نقلت محاكمته من حمص الى دمشق وحكم على القتلة.

مسيحيي سورية تحت التهديد والتهجير.

تختم د. سميرة المبيض كتابها ان تراكم ما عاشه الشعب السوري في ظل حكم البعث وحافظ الأسد وبعده بشار ابنه، من ظلم واستبداد وتفرقة وطائفية، واستدعاء الإيرانيين للتصدي لثورة الشعب السوري عام ٢٠١١م، المطالب بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، ورد النظام العنيف القمعي عبر القتل والتهجير بحق الشعب، والتدمير للبلد، مستعينا بالإيرانيين على ذلك، محققا تغييرا ديمغرافيا، ادى لهجرة واسعة من سورية وكان أغلب مسيحيي سورية ممن غادر وتهجّر. تتحدث د سميرة ان احفاد مبيض المستقرين في سورية قد هاجروا ولم يبقى سوى ٢ بالمئة منهم في سورية. لقد ساعد النظام بسياساته على ولادة ونمو الجماعات الارهابية التي غطت نفسها بالإسلام. وأن النظام لم يحمي المسيحيين بل بالعكس دفع إلى تهجيرهم ليحل مكانهم الإيرانيين.

إن ما تقوله د. سميرة حول قول النظام انه يحمي الأقليات ومنهم المسيحيين هو ادّعاء كاذب وأن سياساته هي التي عممت الطائفية واوجدت الإرهاب وأدت لهجرة الشعب ومنهم المسيحيين الى كل بلاد الدنيا.

اكدت د. سميرة ان مسيحيي سورية رفضوا الانخراط في معركة النظام ضد الشعب، وبالتالي حاول عقابهم بتركهم دون حماية حقيقية كما يدعي ومثال ذلك ما حصل في معلولا عندما اُحتجزت راهباته كما أصبح يعلم العالم بأسره.

اكدت د. سميرة ان اسقاط النظام المستبد القاتل وبناء دولة المواطنة المتساوية الديمقراطية العادلة هي التي ستحمي الشعب السوري بكل مكوناته. هنا ينتهي كتاب د. سميرة.

ونعقب عليه بالقول:

٠ نحن أمام كتاب وثيقة، شهادة، مرافعة، واتهام، لنظام الإجرام في حق الشعب السوري عبر خمسين عاما. ما حصل مع عائلة مبيض نموذجا عن ما حصل مع مسيحيي سورية في هذه الفترة، ونموذج عمّا فعل بحق الشعب السوري كاملا.

٠ إن أهمية الكتاب الشهادة أنه من مسيحية سورية تتحدث عن خمسين عاما من الظلم، تفند كذب النظام وادعائه انه يحمي المسيحيين والأقليات. وتؤكد ان النظام وافعاله عبر خمسين عام وخاصة بعد ثورة ٢٠١١م كان وراء تدمير سورية وقتل شعبها وتشريدهم وخاصة الاقليات وبالأخص المسيحيين السوريين الذين فقدوا وطنهم في حملة تهجير جماعي لا يعلم الا الله متى تكون العودة الى سورية، وهل هي ممكنة دون اسقاط النظام الظالم وإحلال الحق والعدل والمواطنة والديمقراطية في سورية ولو بعد حين.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كتاب مهم..
    للدلالة الحية…على همجية وطائفية العصابة الاسدية الني دمرت سوريا وقدمتها لقمة سائغة للكيان الصهيوني واربابه…
    ولكن..
    ماعلاقة سميرة مبيض الكاتبة ..
    بسميرة مبيض الشهيدة…؟؟؟

زر الذهاب إلى الأعلى