وجيه كوثراني وإعادة قراءة السياق التاريخي للمؤتمر العربي الأول 1913

معقل زهور عدي

كتب وجيه كوثراني في مقدمة كتابه الهام ” وثائق المؤتمر العربي الأول 1913″

” إننا إذ نقدم الآن نصوص محاضر المؤتمر العربي الأول 1913 , مع وثائق فرنسية تتعلق بالمؤتمر اخترناها من أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية , فإنما نفعل ذلك لا للتذكير بحدث تاريخي …بل للوقوف عند الوظيفة السياسية التي أداها هذا المؤتمر عبر اتجاهات قواه الاجتماعية ومواقفها في مرحلة الهجمة الاستعمارية في بداية القرن العشرين ولتقديم مادة تاريخية تسمح بالبحث وإعادة قراءة تاريخ هذا الحدث “

يسمح كتاب وجيه كوثراني بإعادة قراءة المؤتمر العربي الأول من خلال الوثائق التي يقدمها ليس بموجب الأهداف المعلنة التي انعقد لأجلها ولا بموجب الخطابات الرنانة التي حفل بها المؤتمر , ولكن من خلال السياسات الدولية التي احتضنت المؤتمر ورسمت وظيفته في سياق تنفيذ مرحلة السيطرة الكولونيالية على المشرق العربي التي اقترنت بماسمي بالمسألة الشرقية ومضمونها كيف يمكن وراثة أملاك الامبراطورية العثمانية الآيلة للسقوط وتقاسمها بين الدول الإستعمارية الكبرى .

والجدير بالملاحظة مدى تطابق تلك القراءة التاريخانية مع تبدل مواقف كوكبة من أقطاب المؤتمر أشهرهم ندرة بك مطران وشكري أفندي غانم واللذين كانا صلة الوصل بين الحكومة الفرنسية التي احتضنت المؤتمر وبين اللجنة الإدارية التي تولت تنظيمه والمؤلفة من شكري غانم , محمد محمصاني , ندرة مطران , عوني عبد الهادي , جميل معلوف , شارل دباس , جميل مردم , عبد الغني العريسي .

خطب ندرة بك مطران بالمؤتمر قائلا : ” من هذا المؤتمر بقوة الوقار والإخلاص …وباسم الأمة العربية الممثلة هنا بكم …أفتخر بأن الأمة العربية مسلمة وغير مسلمة ..تسعى لنيل إصلاحات مشروعة , وتنبذ بكل قوتها كل حركة من شأنها تداخل الغريب في أحكامها أو انفصام العرى بينها وبين الدولة العثمانية “

أما الدول الكبرى ( فرنسا وانكلترا خاصة ) فقد برأها ندرة مطران تماما من أي هدف استعماري”مزعوم ” ,وأن غاية ماتريده هو أن يتمكن العثمانيون من إدارة شؤون دولتهم لتلافي الخطر على السلم العام ( هكذا !)

ندرة مطران كما شكري غانم انقلبت مواقفهما لاحقا بطريقة مدهشة , أما ندرة مطران فقد أصدر كتابا سنة 1916 في باريس تحت عنوان : ” سورية الغد – فرنسا وسورية ” وفيه يدعو الكاتب إلى تحرير سورية بمساعدة فرنسا ويقترح نظاما سياسيا لسورية تحت وصاية فرنسا ويستبعد أي إمكانية لقيام دولة عربية مستقلة , بينما لايكتفي شكري غانم بالدعوة لتحرير سورية من العثمانيين ووضعها تحت وصاية فرنسا ولكن يبتعد أكثر من ذلك في مواجهته للقومية العربية حين يقول : ” هناك بين السوريين من يريد إعادة بناء امبراطورية عربية وغيرهم من ينادي بكونفدرالية تضم جميع البلاد العربية الآسيوية وحتى الأفريقية …غير أن من ينادي بهذه المشاريع ليسوا إلا المثقفين والمثاليين الذين لايملكون أية ممارسة في الحياة السياسية …”

هذا الانقلاب المدهش خلال سنوات قليلة من خطبة رنانة باسم الأمة العربية تجزم أن الأمة تقف بقوة مع الولاء للرابطة العثمانية وضد تدخل الأجنبي إلى الدعوة والتنظير لتحرير سورية من العثمانيين  بمساعدة الدولة الفرنسية لدى ندرة مطران , ومن مثل ذلك الموقف السابق لشكري غانم إلى إنكار القومية العربية بل والدعوة لانفصال تام للبنان عن سورية لاحقا في مؤتمر الصلح بباريس 1919 يظهر كم كان يخدم هذان الرجلان اللذان تزعما التحضير للمؤتمر العربي الأول في باريس 1913 – والذي نظر إليه طويلا فيما بعد باعتباره أهم محطات تكون القومية العربية – في الحقيقة والواقع السياسة الفرنسية .

ينسجم  ذلك تماما مع ما عرضه وجيه كوثراني من وثائق تشير بوضوح لاهتمام الخارجية الفرنسية بكل التفاصيل المرتبطة بالمؤتمر بدءا من التحضير له مرورا بالشخصيات الرئيسية فيه ووصولا لنتائجه المعلنة

بالطبع فإن ذلك لايعني أن جميع المؤتمرين كانوا غير مخلصين لأهداف المؤتمر المعلنة ,  بل إن رئيس المؤتمر عبد الحميد الزهراوي لم يخرج قط بعد ذلك عن مقررات المؤتمر والالتزام بفكرة الإصلاح والبقاء ضمن الرابطة العثمانية , بل ربما دفع حياته ثمنا لذلك الإخلاص حين بقي تحت ظل الدولة العثمانية ضمن مجلس الأعيان بحيث كان من السهل على جمال باشا القبض عليه وإعدامه لاحقا بموجب محاكمة عسكرية تفتقد لأدنى معايير القضاء النزيه .

ليست العبرة هنا في النوايا والأهداف الحقيقية المضمرة والمعلنة للمؤتمرين , ولكن في كيف كانت تستثمر الدول الكبرى التيارات السياسية في المشرق العربي لتمرير أهدافها غير المعلنة دون أن تهتم بطبيعة تلك التيارات وما تقوله أو تتصوره عن أهدافها .

كان كافيا للسياسة الفرنسية وقتها ظهور تجمع عربي معارض للدولة العثمانية يمكن أن تتطور معارضته فيما بعد مع تطور الظروف الدولية المواتية لتحقيق أهداف تلك السياسة وصولا للانقضاض على المشرق العربي ليس كغزو صليبي جديد ولكن كأصدقاء يعملون لتحرير الشعوب العربية من نير الإستبداد التركي .

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. إعادة قراءة موضوعية لوثائق للمؤتمر العربي الأول 1913 في باريس ضمن سياقه التاريخي ورؤية المؤتمرين، أي ماوراء المؤتمر. وكيف كان الهدف البعيد للدول الإستعمارية الكولونيالية تشكيل تجمع عربي معارض للدولة العثمانية يمكن أن تتطور معارضته لتتيح لهم الإنقضاض على الإمبراطورية العجوز والسيطرة على المشرق العربي.

زر الذهاب إلى الأعلى