حول علاقة ” البيان ” ب”البرهان” في العقل العربي
يشير مفهوم “البيان” وفقا للجابري إلى الفعالية العقلية التي تنتج المعرفة استنادا إلى ” النص المقدس , اللغة , النقل , القياس ” فهي فعالية ذات مرجعية محددة وليست فعالية كاملة الحرية وفقا لما يذهب إليه ” عقل حر” ومشكلة تلك الفعالية أنها تعود بالفكر دائما نحو الوراء نحو لغة موضوعة ضمن قوالب صلبة ” قواعد النحو” أما “النص” فلم يقتصر على القرآن الكريم بل أيضا ” الحديث ” . كما يعتبر الجابري أن العقل البياني العربي قد صاغه الشافعي حين حدد مصادر الشريعة بأربعة: القرآن والحديث والقياس والاجماع .
وهو التقنين الذي أنتج العقل البياني العربي على شاكلته .
مثل تلك المقاربة لها مايبررها لكن علينا أن نلقي نظرة على المكون الثاني للعقل العربي قبل أن نتتبع العلاقة بين المكونين ونسبية تصنيف أي منهما .
فالبرهان العربي كفعالية عقلية لانتاج المعرفة متميزة عن البيان تنتج المعرفة استنادا للفلسفة والمنطق وتقدم العقل كمرجعية كما يقول المعتزلة ” نحن عرفنا الدين بالعقل ” فالعقل هو الدليل الأصلي , وحين يصطدم العقل بالنقل يتم تقديم العقل إما بتأويل النص إن كان النص يقينيا ” القرآن الكريم ” أو بتركه إن كان ظني الثبوت كالحديث . وقد تطور البرهان العربي على يد المعتزلة أساسا, خاصة بعد ترجمة الفلسفة اليونانية مع كونه نشأ قبل ذلك , وفي عهد المأمون أصبح الاعتزال ايديولوجية الدولة الرسمية وأعطي وظيفة سياسية- ثقافية في مواجهة العقائد الأخرى التي هددت الإسلام السني وأسس الدولة العباسية كالشيعة والمانوية , ثم حدث الإنقلاب الفكري على يد المتوكل حين أصبحت المعتزلة تهمة تستوجب العقوبة , وانقطع تطور البرهان الإعتزالي باتجاه فلسفة ارسطو لكن البرهان العربي استمرخلال القرون اللاحقة وعاد ظاهرا في الأندلس ليحرزالاستقلالية النسبية عن البيان في تكوين مستمد مباشرة من فلسفة أرسطو على يد ابن رشد .
نأتي إلى علاقة البيان بالبرهان وتطور تلك العلاقة مما يشي بنسبية مقاربة الفصل بينهما حتى في ذروة تكون البرهان العربي على يد ابن رشد.
فالبيان العربي في منشئه الديني كفعالية عقلية كان عقلانيا في نفي الأساطير , ومحاربة السحر , وايجاد التوازن بين النزعتين المادية والروحية لدى الإنسان , وكل ذلك لايمكن تجاهله حين نتحدث عن النص المقدس ” القرآن الكريم ” كمرجعية للبيان .
ثم نجد مع البداية المفترضة لتكون ” البيان العربي” في عصر الترجمة والتدوين أهل الرأي وأبا حنيفة النعمان الذي كان مستعدا لإهمال الحديث ” ظني الثبوت ” حين يتعارض مع العقل أو النص القرآني .
صحيح أن مذهب أهل الرأي ضعف بالتدريج حتى تغلب عليه أهل الحديث بل إن أبا حنيفة نفسه صار يميل إليهم في أواخر حياته لكنه أسس لفعالية عقلية مختلفة لايمكن دمجها تماما مع مرجعية ” البيان العربي “
لكن التطور الأكثر أهمية في العلاقة بين ” البيان ” و”البرهان ” كان على يد المعتزلة , فإذا كنا نعرف ” البيان ” كفعالية عقلية مرجعيتها النقل والنص والقياس فسوف يصعب تماما وضع المعتزلة داخل ذلك المكون , في المقابل فسوف يصعب وضع المعتزلة داخل ” البرهان” طالما أنهم بقوا على مسافة من فلسفة أرسطو وطالما أن نهجهم في ” الكلام ” لايمكن وصفه بالفلسفة رغم أخذهم بالمنطق بعد ترجمته إلى العربية . بالتالي فهم كما يقولون في إحدى موضوعاتهم الشهيرة ” في منزلة بين المنزلتين ” وتلك المنزلة ليست سوى بعض من البيان وبعض من البرهان .
يقود الفصل التام بين “البرهان ” و” البيان” واعتبارهما مكونين مستقلين إلى العجز في فهم تيار المعتزلة وهو التيار الفكري العقلاني الأكثر أهمية في التاريخ العربي الاسلامي والذي كان السابقة لاستمرار تيار العقلانية على يد الفيلسوف الكندي وابن خلدون وابن الهيثم ثم ابن باجه وابن الطفيل وصولا لابن رشد .
لست أسعى في هذا المقال لمحاججة حول أهمية مقاربات الجابري في مفاهيم ” البيان والعرفان والبرهان ” كمكونات للعقل العربي , لكن ما أسعى إليه هو محاولة فهم نسبية تلك المقولات في علاقاتها ببعضها ببعض وتطور تلك العلاقة .
أهمية الوقوف عند نسبية تلك المقولات وتطور العلاقة بينها مع الزمن تبرز في ميل الاستنتاجات اللاحقة عند الجابري لطغيان ” البيان ” في وصف العقل العربي حتى يظهر وكأنه هو المكون الرئيسي وكأن ” البرهان” لم يكن سوى لحظة ومضت وانطفأت في ذلك العقل .
ويتأكد ذلك في قول الجابري أن العقل العربي قد تكون في عصر الترجمة والنقل بين القرن الثاني والثالث للهجرة ولم يتغير بعد ذلك إلى حد كبير .
هكذا يتم إسقاط استمرار العقلانيين العرب في القرون اللاحقة بين القرن الثالث للهجرة والقرن السادس عصر الفيلسوف العربي الأندلسي الأشهر ابن رشد والذين ذكرتهم أعلاه.
ومرد ذلك التناقض الظاهر في استنتاجات الجابري إهماله حقيقة وجود عقلين عربيين متميزين عقل النخب والعقل الجمعي , وفي حين أن الجابري يعترف بوجود عقل النخب الذي اعتاد على تسميته بالعقل العالم في تمايز مع العقل السائد الذي هو العقل الجمعي لكنه يقع في مطب الدمج بينهما عند الوصول إلى الاستنتاجات ليعيد العقل العربي في مكوناته للعقل الجمعي الذي تجمد بالفعل عند القرن الثالث الهجري .
ومن هنا تأتي أهمية الاضاءة حول نسبية مفاهيم الجابري في تحليل العقل العربي إلى مكوناته الثلاثة ” البيان والبرهان والعرفان ” وفي ضرورة تتبع العلاقة بين تلك المكونات وصولا للإنفصال بين العقل الجمعي العربي الذي خضع بالفعل للبيان بل ولتأثير العرفان في التصوف وأفكار الحلول ذات الأصل الهرمسي , وعقل النخب الذي تداخل فيه البيان مع البرهان والعرفان أحيانا وتصارعوا فيه أحيانا أخرى , حتى وصل العقل العربي في منحى تطوره الجدلي الهيغلي للمدرسة الابن رشدية في ذروته النهائية .
ا
بالقراءة النقدية للقسم الخامس “لماذا تقدموا ولماذا تأخرنا؟” لما ورد بكتاب د.محمد عابد الجابري ” تكوين العقل العربي ” ينتقد قراءته للـ “حول علاقة ” البيان ” بـ”البرهان” في العقل العربي” بأن العقل العربي قد تكون في عصر الترجمة والنقل بين القرن الثاني والثالث للهجرة ولم يتغير بعد ذلك إلى حد كبير ، متجاوزاً لحقيقة وجود عقلين عربيين متميزين عقل النخب والعقل الجمعي، قراءة موضوعية .