حول مفهوم العقل العربي عند الجابري
كل ماكتب الجابري وما انتهى إليه يحكمه مفهوم “العقل العربي” , وأي عيب , أونقص , أوخلل , في ذلك المفهوم فسوف يضع تحليله الفلسفي التاريخي موضع الشك والاضطراب .
وكوني قد كتبت في ملاحظاتي ( قراءاتي ) السابقة مايكفي من التقدير والثناء على مشروع الجابري في نقد العقل العربي , فإني أجد نفسي متحررا في استخدام النقد الجاف البعيد عن التعاطف في تناول واحدة من أهم المسائل التي ناقشها الجابري دون أن يكون ذلك مدعاة للتقليل من جهده الكبير والذي يعود له الفضل في التحريض على مراجعة أسس الثقافة العربية .
لقد تقبلت مفهوم العقل العربي كما قدمه الجابري باعتباره مجموع المفاهيم المرجعية الراسخة في الثقافة والفكر العربيين , لكن تلك الاستنتاجات التي ذهب إليها الجابري أجبرتني على العودة لذلك المفهوم .
فمفهوم العقل العربي هو المقدمة التي بني عليها تحليل العقل العربي إلى مكونات ثلاثة ” البيان” , ” العرفان ” , ” البرهان ” وبلاشك فإن تلك المقارية التحليلية تبدو جديرة ومبتكرة ومؤسسة بطريقة متقنة , وسيظل المثقف العربي ملزما بالوقوف عندها في أية محاولة لنقد العقل العربي .
وبالعودة لمفهوم ” العقل العربي ” الذي اكتمل بناؤه في القرنين الثاني والثالث للهجرة ونقده انطلاقا من تلك الحقبة التاريخية نجد أن ما أسفر عنه ذلك التحديد الزمني لبناء العقل العربي هو أننا أسقطنا التغييرات اللاحقة على بنية ذلك العقل والتي ظهرت بطريقة لايمكن انكارها في المدرسة الابن رشدية , أليست فلسفة ابن رشد الذروة التي انتهى إليها العقل العربي أم أنها تقع خارج ذلك العقل ؟
أفضل من يجيب على هذا السؤال هو الجابري نفسه حين وصف كيف دخلت فلسفة أرسطو العقل العربي في أحد مكوناته ” البرهان ” منذ أن ترجمت تلك الفلسفة على عهد الخليفة المأمون وكيف أنها استعملت كسلاح فكري ضد ” العرفان ” الشيعي وكيف أنها اختلطت بالمكون الآخر للعقل العربي ” البيان” خلال فترة تاريخية طويلة حتى وصلت للفيلسوف الكندي الذي كان أول فيلسوف عربي أعطى للبرهان وزنا يفوق ما سبق أن حصل عليه طوال الفترة السابقة ثم جاء كل من ابن باجه وابن الطفيل ثم ابن رشد ليتوج فلسفة تقوم على التوفيق بين الدين والفلسفة اليونانية ” فلسفة أرسطو على وجه الخصوص ” بعد أن خلص فلسفة أرسطو من كل مالحق بها من آثار اختلاطها بالبيان أو العرفان .
كل ماسبق جاء في كتاب الجابري وهو يشير بطريقة غير ملتبسة أن العقل العربي في أحد مكوناته الثلاث ” البرهان ” قد تقدم بصورة مضطردة وصولا ألى المدرسة الابن رشدية فلماذا تم إهمال ذلك لاحقا خاصة عند الاستنتاجات وكيف أمكن للجابري أن يقوم بذلك ؟
أما لماذا أهمل الجابري ذلك فسندع التفكير بالاجابة حاليا ولنعبر للشق الثاني من السؤال : كيف أمكن للجابري تجاهل ذلك حين انتهى إلى أن العقل العربي قد تم بناؤه في عهد التدوين والترجمة خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة وبالتالي أصبح مكشوفا للنقد باعتباره يقتصر على المكونات التي تم بناؤها في تلك الفترة التاريخية .
هناك ” قطبة” كقطبة الخياطة تكاد لاتظهر في مفهوم العقل العربي , وهي االثنائية الخفية لذلك المفهوم , ورغم أن الجابري ميز في سياق آخر بين العقل العربي ” العالم ” كما سماه ويقصد ب” العالم ” عقل النخب في مقابل ” العقل السائد ” والذي هو العقل الجمعي لكن ذلك التمييز لم يجر تفعيله في سياق نقد العقل العربي فبقي بعيدا عن الضوء إلى حد ما . وقد سمح وجوده في الظل في نقد سكونية العقل العربي وتكراريته وميله للبيان والعرفان , وتأثره الكبير باللغة العربية التي ” تحنطت ” بفعل قواعد النحو ..الخ.
كما سمح بحصر المكون الثالث ” البرهان ” للعقل العربي في مرحلة التدوين والترجمة .
لقد أصاب الجابري تماما في نقد العقل العربي السائد الذي يكاد يتطابق مع العقل الجمعي إذ ليس هناك من أي معنى للحديث عن عقل سائد بين النخب التي ظلت تتوزع بين ” البيان ” و”العرفان” و”البرهان ” بل إن بعضها كان شديد الحرص على إخفاء أفكاره عن الجمهور بما في ذلك المتصوفة والإسماعيلية على سيل المثال لا الحصر . فكيفما ذهبنا هنا أو هناك لانستطيع الحديث عن عقل عربي سائد تشترك فيه أفكار ابن رشد مع أفكار الغزالي .
وحين نفصل بين عقل النخب أو كما سماه سابقا الجابري ” العقل العالم ” والعقل السائد أو العقل الجمعي فإننا نصل بسهولة إلى سياقين مختلفين تماما عبر التاريخ العربي .
أما العقل العالم فلايمكن الحديث عنه كشيء منسجم واحد سوى عبر انقساماته المستمرة على نفسه إلى مدارس وتيارات فكرية يصل الخلاف بينها حد التصادم التام .
يمكن أن يكون العقل العربي السائد أو الجمعي الأقدر على استقبال معظم انتقادات الجابري , نعم هو يتسم بالتأثر البالغ ب ” البيان ” و ” العرفان ” ويتسم بكون مرجعيته تعود للعصر العباسي الوسيط , والجمود عند تلك المرحلة والاستنقاع والتكرار ….الخ …
أما حين نتحدث عن ” العقل العالم ” فأمر مختلف تماما , فقد شهد ذلك العقل في خضم صراعاته الداخلية تطورا مضطردا لم يتوقف حتى وصل إلى المدرسة الرشدية في القرن السادس للهجرة .
ثم إن العقل العالم قد احتوى العقل التجريبي العربي شديد الأهمية بالنسبة لما حدث في اوربة لاحقا من صعود الفلسفة التجريبية على حساب التهويمات الهرمسية , وربما عادلت أهميته في التأثير على الفكر الأوربي تأثير شروحات ابن رشد لفلسفة أرسطو التي عرفت في أوربة بالابن رشدية .
لقد تسبب الخلط بين العقل ” العالم ” العربي أي عقل النخب والعقل السائد أي العقل الجمعي ليس فقط في عزل أفضل ماتوصل إليه ذلك العقل وأعني به المدرسة الابن رشدية والعقل التجريبي عن المشهد الذي قدمه الجابري ووضعه في زاوية مظلمة , لكن في قراءة غير تاريخانية لتطور ذلك العقل , وإسقاط كل ما اتصف به العقل السائد عليه بدون وجه حق .
أما العقل السائد فلاشك أن الجابري كان محقا إلى حد كبير في الانتقادات الموجهة إليه .
بل إن ذلك العقل السائد كان بمثابة محاكم التفتيش التي حاصرت ” العقل العالم العربي ” ولم تتركه حتى أحرقت كتب ابن رشد ودفنت أفكاره تحت التراب لفترة تاريخية طويلة .
في القسم الخامس من القراءة النقدية لكتاب >.محمد عابد الجابري ” تكوين العقل العربي ”يتحدث عن رؤيته لمفهوم العقل العربي بإعتباره المقدمة التي بني عليها تحليله للمكونات الثلاثة ” البيان” , ” العرفان ” , ” البرهان ” لتسبب خلط بين العقل ”العالم” العربي أي عقل النخب والعقل السائد أي العقل الجمعي.