حول الموقف من اللغة العربية
يكرس الجابري الفصل الرابع من كتابه ” تكوين العقل العربي ” لمكانة اللغة العربية في صنع العقل العربي ومن أجل ذلك يشرح بتوسع دور اللغات كوعاء للفكر , فالشعوب تفكر كما تتكلم وتتكلم كما تفكر , وتلك مقدمة لاجدال فيها , ثم يبرز تاريخ انتقال اللغة العربية من طور اللغة الفطرية ” لغة الأعراب ” إلى طور اللغة المقننة وفق قواعد لغوية ونحوية فائقة الدقة والانضباط , وكيف أن كل ذلك تم في زمن قصير في القرن الثاني للهجرة على يد علماء عباقرة مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي , وكيف تم استخراج أصول الأفعال ووضع قواعد للاشتقاق ثم مقارنة ماتم اشتقاقه مع لغة العرب السماعية ..الخ ..
لكن ذلك وفقا للجابري كان سيفا ذا حدين , فمن جهة نقل اللغة العربية إلى مرتبة أرقى حين وضع قواعدها النحوية بحيث أصبح ممكنا تعلمها وفهمها بالنسبة للعربي وغير العربي عن غير طريق محاكاة السمع , كما وسع من إمكاناتها التعبيرية , لكنه لم يذكر مسألة على قدر كبير من الأهمية وهي أن علوم اللغة من نحو وغيره سمحت بتطوير وإضافة مستمرين ضمن اللغة بحيث يجري تراكم كل فروع المعرفة ضمن ذات الوعاء دون الحاجة للخروج عنه , وهذا ما أعطى ومازال يعطي للغة العربية هذه الميزة التي تجعل أي شاعر أو أديب عربي أو فيلسوف ومفكر يفضل الكتابة والتعبير عن أفكاره باللغة العربية الفصحى وليس بالعامية .
لكن لماذا غاب ذلك عن الجابري ؟ ببساطة لأنه كان يمهد لنقد اللغة العربية من تلك الزاوية تماما .
فهو ينتهي إلى أن تلك القواعد التي وضعت للغة العربية قد أصبحت قوالب صلبة تمنع تطورها .
حسنا فأين الدليل ؟
الدليل هو مقارنتها مع اللغات العامية ” المحكيات ” التي تظهر مرونة في تقبل أنماط الحياة الحديثة بما تحمله من مصطلحات تكنولوجية وعلمية ..الخ .
هذا هو الدليل الوحيد الذي يسوقه الجابري في نهاية الفصل الرابع الذي عنونه ب ” الأعرابي صانع العالم العربي” والذي أراد منه القول ” الأعرابي صانع العقل العربي ” لولا أن مثل ذلك العنوان سينقض تماما ما سبق أن قرره من أن تكوين العقل العربي إنما حصل في عصر التدوين والترجمة في القرن الثاني والثالث للهجرة .
لكن دعونا نقف قليلا عند ذلك الدليل الوحيد الذي استند إليه الجابري حين قفز من كل السياق الذي سبقه لذلك الاستنتاج .
فحين نتحدث عن مرونة اللغة المحكية في اقتباس الأسماء الأجنبية وإعادة ” تعريبها ” ولو بتكسير ألفاظها فنحن نتحدث عن كسل اللغويين العرب , بل عن هجر الدولة العربية الاهتمام الجدي باللغة , فالدولة والسلطة السياسية لها دور خطير في تطوير اللغة , والمثال الحي هو اللغة التركية التي أعيد تطويرها وبناء قواعدها وحذف ما أمكن حذفه من المفردات العربية واستبدال الأحرف العربية بالأحرف اللاتينية في الكتابة ولسنا هنا في معرض تقييم ذلك من وجهة نظر قومية عربية أو تاريخية اسلامية لكن فقط من وجهة نظر الدور الكبير الذي لعبته الدولة التركية الحديثة في تغيير اللغة والتحكم بمفرداتها وقواعدها وحتى بحروفها .
وليست تركيا المثال الوحيد في هذا السياق , فاللغة العبرية شهدت انبعاثا غير مسبوق بعد نشوء دولة الكيان الصهيوني , في حين كان اليهود على عهد االمسيح يتحدثون الآرامية ويكتبون بها , وبدون شك فقد دخلها الكثير من التطوير على يد علماء لغويين يهود في القرن العشرين.
إذن فليست اللغة العربية الفصحى هي من يقف عائقا أمام استيعاب نمط الحياة الحديثة بكل تفاصيل الأدوات المعيشية المرتبطة بها ذات الأصل الغربي , ونحن نرى أن الاعلام الحديث يتجه بطريقة عفوية لتعميم لغة عربية مبسطة تفهمها كل الشعوب العربية دون أن يواجه عقبات تذكر .
هكذا فاستناد الجابري في نقد اللغة العربية باعتبارها تشكل قيدا على الفكر يبدو مصطنعا من جهة وخارج السياق من جهة أخرى وحين حاول تدعيم استنتاجه لم يجد سوى حجة غير قادرة على الوقوف على قدميها ومن الغريب أن ينتكس الجابري على سياقه الذي قرر فيه أن العصر الذي صنع العقل العربي هو عصر التدوين والترجمة بما حمله من لغة عربية تحولت عن طابعها المحكي البدوي إلى طابع آخر احتوى علم الكلام والنحو والفقه والمنطق والفلسفة اليونانية كما يفصل في ذلك الجابري نفسه , أقول من الغريب أن الجابري لم يأخذ بالاعتبار التحولات الكبيرة التي طرأت على اللغة العربية في ذلك العصر وعاد للتركيز على اللغة العربية الجاهلية ليستنتج من بنيتها وما كانت تحمله من معرفة آلية تفكيريعود إليها دور كبير في تكوين العقل العربي .
في الجزء الرابع من قراءته لكتاب د.محمد عابد الجابري ” تكوين العقل العربي ” -حول الموقف من اللغة العربية حيث كرس مكانة خاصة للغة العربية في صنع العقل العربي ومن أجل ذلك يشرح بتوسع دور اللغات كوعاء للفكر، ممهداً لنقد اللغة العربية بعد أن تم وضع القواعد لها، معتبراً ذلك سبباً منع تطورها .