مع تصاعد اللهجة الأوروبية ضد اللاجئين، ارتفعت بورصة أسعار مهرّبي البشر، فيما لم تنخفض أسباب الرغبة الجامحة لسوريين كثيرين في البحث عن موطئ قدم خارج الأراضي السورية، بمختلف مرجعياتها وتسمياتها الحاكمة، من أجهزة أمن نظام بشّار الأسد، إلى جهاز الأمن العام لإمارة أبي محمد الجولاني، وصولاً إلى أجهزة الأمن في مناطق قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والمكاتب الأمنية التابعة لمناطق سيطرة “المعارضة المسلحة”. ما يعني أن استمرار حركة اللجوء في مختلف المناطق السورية هو تعبير عن رفض واقع قائم، لم يخفّف من أسبابها حالة “اللاحرب”، التي لا تعني إنهاء الصراع القائم بين الأطراف المتنازعة عسكرياً، كذلك فإنها لم تسحب ذرائع عدوان النظام السوري على مناطق المعارضة، التي أفضت إلى نزوح وتهجير ما يقرب من نصف سكان سورية، منذ بداية الثورة في مارس/ آذار 2011، في “تغريبة” جماعية شكلت واحدةً من أكبر موجات التشرّد في القرن الحديث.
كذلك إنّ حالة “اللاسلم”، التي يعمل النظام السوري على تأكيدها بين حين وآخر بقصفه المناطق الخارجة عن سلطته، إضافة إلى عودة نموّ قوة تنظيم داعش الإرهابية، وفتحه معارك مع قوات النظام من جهة، والفصائل المحسوبة على المعارضة من جهة مقابلة، في مناطق في وسط سورية، هي ما تجعل من سورية كتلة واحدة ومتفرّقة تحت خطر الحرب مجهولة التوقيت، ومتنوّعة الخصوم والغايات.
ينفي ما تقدّم عن أي مساحة داخل سورية صفة “المنطقة الآمنة”، خصوصاً أن هذا “الأمان” لا يتعلق فقط بالقوى الخارجية التي تلعب الدور الأساسي اليوم في تحديد مصير الصراع السوري، ولكن أيضاً بسبب سلطات الأمن “المحلية” المختلفة في مناطق سورية الأربع، واستمرار نهجها في الاستقواء على المواطنين السوريين، والتغول على حرّياتهم وكرامتهم وملكياتهم الخاصة.
تحديد وزير داخلية النمسا (غيرهارد كارنر النائب عن حزب الشعب الحاكم) مدينة اللاذقية، دون غيرها، “منطقة آمنة يمكن إعادة اللاجئين إليها”، التي يبدو أنه على غرارها بنى ثمانية وزراء دول أوروبية أعضاء في الاتحاد الأوربي دعوتهم إلى “إعادة تقييم الوضع في سورية للسماح بالعودة “الطوعية” للاجئين السوريين إلى وطنهم، حيث إن الوضع، برأيهم، تطور بشكل كبير”، من دون أن يعني ذلك إقرارهم بأنه تحقّق الاستقرار السياسي الكامل.
توجد أسباب عديدة وراء خطأ اعتقاد بعض الدول أن خفوت المعارك في بعض المناطق يعني استعادة النظام السوري نفوذه فيها، فإن كان ذلك صحيحاً في اللاذقية، لجهة شريحة مؤيدي الأسد، فإنه لا يعني، بالضرورة، أنها صارت آمنة للسوريين المعارضين للنظام، كغيرها من المناطق، فعدم الأمان للسوريين ليس محصوراً بوجود الصراع المسلح فقط، وإنما لأسباب داخلية تتعلق بممارسات النظام السوري، وتغوّل أجهزته الأمنية على السوريين وحرّياتهم وأملاكهم، بكل انتماءاتهم الطائفية من دون تمييز، في كل المدن السورية، واللاذقية منها.
أيضاً، يجب ألا ننسى أن عوامل خارجية تتحكّم في الصراع في هذه المنطقة، منها تغيّر الدور التركي في الصراع، والحديث عن عقد تسوية مع النظام السوري، وهو ما تعمل عليه الوساطة الروسية، ما يعني أن المنطقة حالياً تعيش حالة جمود الصراع فقط، وإذا لم تتمدّد بين الجانبين، أو تتطوّر، باتجاه تطبيع العلاقات، فإن أي هدوء بين الفصائل المعارضة في الساحل، وقوات النظام، هو هدوء نسبي، وقابل للتغيير. ولا يمنع ذلك كله من القول إن اضطراب الموقف التركي إزاء قضية اللاجئين السوريين، واستخدام حكومتها ومعارضتها، اللاجئين ورقة انتخابية حيناً، وورقة لابتزاز أوروبا في أحايين أخرى، هو ما مهّد الطريق لدول وساسة آخرين وأحزاب سياسية، ومسلحة، منهم لبنانيون، في استخدام الأساليب نفسها لابتزاز أوروبا من جهة، والضغط على خصومهم السياسيين من جهة مقابلة، أو لترويج نظام الأسد بغرض التطبيع معه من جهة ثالثة.
كما أن تصعيد قضية اللاجئين السوريين وإعادتهم إلى سورية، والتهديد بهذا الحلّ التعسفي، من بعض الدول، مبني على الرهانات أو الفرضيات الخاطئة، وأولها الرهان على تغير الموقف الأميركي من الصراع في سورية، والتفاته إلى الحرب الروسية على أوكرانيا، والرهان على عدم قدرة الدول الأوروبية على تحمّل ثقل اللاجئين بعد تدفق اللاجئين الأوكرانيين عليها، ما يجعل من “طبخة” المقايضة التي ترجوها بعض الدول بموضوع اللاجئين مقابل قبول التطبيع مع النظام السوري مجرّد “طبخة بحص”، لأن لقضية اللاجئين أبعاداً سياسية وأمنية واجتماعية، وما لم يتوافر الحل لها جميعها، ستبقى قائمة، وتزداد مع تزايد انهيار الدولة السورية بمفهومها ومهماتها الدستورية.
أما بخصوص تلك الأبعاد، فهي، أولاً، في البعد السياسي، ما زالت الأسباب السياسية لولادة قضية اللاجئين السوريين على حالها، والعودة بهذا المعنى غير ممكنة، وهي مجرّد غطاء لتعويم نظام الأسد وتبييض صفحته، وهو ممكن، لكنه مشروط بقرار مجلس الأمن 2254. ولم يحدُث أن استبعدته أيٌّ من الدول العربية، وهو ما أكّده البيان الختامي للقمّة العربية في المنامة، وبيان قبرص للدول الثماني الأوروبية، وهو القرار الذي تبني عليه الولايات المتحدة رؤيتها للحل في سورية.
ثانياً، البعد الأمني، فسورية اليوم تقع تحت هيمنة قوى “مليشياوية لا دولتية”، في المناطق التي تقع شكلياً تحت هيمنة النظام، أو خارجها، فضلاً عن وجود جيوش لدول أخرى، مثل تركيا وإيران وروسيا والولايات المتحدة وإسرائيل (الجولان)، أي إن شرط الاستقرار الأمني غير متوافر إطلاقاً، فسورية ما زالت بمثابة ساحة للصراع والاقتتال والنزاع على السلطة.
ثالثاً، البعد الاجتماعي، إذ إن الانهيار الاقتصادي في البلد وانتشار الفقر والتضخم الهائل لا تسمح بتمكين اللاجئين الذين فقدوا كل شيء، منازلهم وأعمالهم وحتى مدنهم، من العودة والاستقرار.
وفي المحصلة، تحتاج عودة اللاجئين السوريين موقفاً أو إجماعاً دولياً في هذا الشأن، ضمانة لهم، وشرطاً للتطبيع السياسي، وهو أمر لم يحسم في أي اتجاه، بدلالة الشروط الأميركية التي لم تتغيّر، وهي بحسبها يفترض أن تأتي “بقرار مستنير لهم، وبشكل آمن وطوعي، وبنحو يحفظ كرامتهم”.
المصدر: العربي الجديد
الأفكار والآراء الواردة في المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي ملتقى العروبيين
أن استمرار حركة اللجوء في مختلف المناطق السورية هو تعبير عن رفض واقع قائم، ولم يخفّف من أسبابها حالة “اللاحرب”، التي لا تعني إنهاء الصراع القائم بين الأطراف المتنازعة عسكرياً، وضمن الهجمة على وجود اللاجئ السوري بدول الجوار وحتى بأوروبا، ليكون وضع اللاحرب واللاسلم التي تعيشه سورية يتطلب موقفاً أو إجماعاً دولياً بعودتهم ضمن بيئة آمنة وكجزء من تطبيق القرار الأممي 2015/2254 فهل من ينفذه.