تنتفض السويداء من جديد، في وقتٍ وصل معه الشعب السوري بمجمله إلى مستوياتٍ لا يمكن احتمالها، ولا حتى تصديقها، في زمن ينتمي إلى هذا العصر، عصر حقوق الإنسان التي أقرّتها المنظمات والمعاهدات الدولية، وجعلتها غالبية الدول منطلقًا لدساتيرها، العصر الذي بات على الشعوب والحكومات فيه أن تجعل من شرعة هذه القوانين الضامنة للحقوق بمرتبة ألواح الوصايا، أو المنطلقات “النظرية”، التي تسعى الحكومات إلى تحقيقها.
وكالعادة، انقسم الشعب السوري الذي وصل في غالبيّته الساحقة إلى الحضيض في عيشه إلى فئاتٍ تتبارى في تفنيد الحراك بين شيطنته وتقديسه، مع أن هذه الغالبية التي تجاوزت التسعين بالمئة منه، تعاني من انعدام كل مقوّمات العيش ضمن “دولة”، وقسم كبير منها يدلي بدلوه ويصرخ مع من يصرخون (على مواقع التواصل الاجتماعي)، ويكيل الاتهامات بحق “الحكومة”، ويحمّل وزيرًا من هنا، وآخر من هناك، مسؤولية هذا الخراب الواقع عليهم، من دون أن يجرؤوا على الإشارة إلى المشكلة الرئيسية، إن كان في مناطق النظام أو في تلك الأخرى الواقعة تحت سلطات الأمر الواقع. لذلك نرى أصواتًا تتّهم الحراك بأنه تطبيق لأجندات خارجية، أو أنه دعوة إلى الانفصال، أو مؤامرة تبدو أصابع الصهيونية العالمية من خلفها تستخدمها للنّيْل من هيبة الدولة وإضعافها، أو اتهامات أخرى متنوّعة، وأصواتًا أخرى من الجانب الآخر المحسوب على المعارضة، تستخفّ بالحراك، وتحاول أن تُلبسه لبوسًا طائفيًا. أما الأصوات الواعية للحالة السورية، والتي تحاول الاستفادة من أخطاء الانتفاضة السابقة وعثراتها، وترى في الانتفاضة الحالية أملًا جديدًا، فهي تجاهد من أجل إبقاء هذه الشعلة وحمايتها من رياحٍ تتربّص بها، وتجاهد من أجل إذكائها واستمالة بقية مكوّنات الشعب السوري لتأييدها ودعمها وزيادة بقعة ضوئها.
وعلى الرغم من وضوح الواقع بكل أبعاده وعمقه وشروخه وانهياراته، هناك من يراهن على السراب، علمًا أن هذا الواقع لا يحتاج إلى شرح، فلو طرحنا بعض الأسئلة على الناس العاديين، ما سيكون ردّهم حولها؟ من قبيل: هل الحكومة قادرة على تلبية متطلبات حياة الناس حتى في حدّها الأدنى الضامن لاستمرارها لتكون قادرةً على النهوض بالمجتمع مستقبلًا؟ هل هي قادرة على تأمين الغذاء ليضمن أكثر من الرمق بقليل، وهل هي قادرة على تأمين التعليم والرعاية الصحية والتنقل والمواصلات ووصول التلاميذ إلى مدارسهم والموظفين إلى مقرات عملهم، وباقي قطاعات المجتمع إلى أعمالهم؟ هل الحكومة قادرة على القضاء على الفساد المستشري مثل الوباء في دوائر الدولة، بل صار سلوكًا مجتمعيًا؟ هل القضاء قادر على الوقوف على ساقيه بعدما انتهك حتى النخاع؟ هل الحكومة قادرة على فرض سلطتها على كل التراب الوطني؟ وهل هي قادرة على تأمين حدودها البرّية والبحرية والـ “الجوية” من الاختراقات الخارجية والاعتداء؟ وعلى حماية موارد البلاد التي هي ملك الشعب، كل الشعب، واستثمارها في صناعاتٍ وخدماتٍ له؟ هل هي قادرة على حماية الشعب من النزوح واللجوء والهجرة التي لم تتوقف، على الرغم من المخاطرة المميتة، وتدفع الشباب إلى البحث عن أماكن أو أوطان بديلة تضمن لهم تحقيق ذواتهم الإنسانية، ويمكن أن تعد بفتح آفاق المستقبل المنغلقة في وجوههم في بلادهم؟ هل هي قادرة على معالجة مشكلات الفقر والبطالة والجريمة بكل أشكالها، المنظمّة وغير المنظمّة، من قتلٍ ونهبٍ ومتاجرةٍ بالممنوعات، وخصوصا المخدّرات والسلاح؟ هل هي قادرة على منع التدهور الاقتصادي وتنشيط دورات الاقتصاد الراكدة كما المستنقعات، أو تمنع تدهور الليرة؟ وهل يقتنع كل الشعب بأن العقوبات التي اتّخذتها الدول القوية بحق سورية هي السبب، بينما ينظرون كيف تمتلئ الشوارع بالسيارات الحديثة، والأجهزة الذكية وكل ما تنتجه تلك الدول من أدوات العصر والتقنيّات الرقمية؟
هذه حقول يابسة تتسع وتمتد أمام أعين السوريين جميعهم، في الداخل والخارج، في المناطق الواقعة تحت سلطات الأمر الواقع، وتلك الواقعة تحت سيطرة النظام، حقول تبدو الشواهد فيها أعمدة متفحّمة كالتي تخلفها حرائق الغابات، لكنها تحكي تاريخًا أوصل البلاد إلى الاشتعال والترمّد بعدها، فمن المسؤول عن حماية الدولة ومؤسّساتها والمجتمع بكليّته؟ أليس حزب البعث هو من سطا على الدولة والحكم منذ 60 عامًا تحت راية “القائد الأوحد للدولة والمجتمع”، ثم احتكرت السلطة فيه عائلة واحدة؟ ألم تُبتلَ الانتفاضة السورية بمن صادروا حقّ تمثيل الشعب السوري، فأضافوا إلى أزمات الشعب ومشكلاته إضافات لم تقدّم شيئًا له سوى أنها ساعدت في تفاقم أحواله ومصيره، كما لو أنها قدّمت إحدى أهم الجوائز إلى النظام الذي انتفض الشعب في وجهه؟ فما الذي قدّمته هذه الهيئات المعارضة؟ إذا نظرنا إلى واقع الحال في أماكن نفوذها وسلطتها لما لمسنا فارقًا يمكن البناء عليه، خصوصا لناحية المجتمع ومكانة المرأة ودورها فيه، بالإضافة إلى صهر المجتمع في بوتقة واحدة، من حيث الشمولية الدينية والمجتمعية، والعرقية في بعضها.
مجتمعٌ منقسمٌ على نفسه مرّات ومرّات، صارت لديه مشروعات بدلًا من مشروع وطني ينقّي فيه نفسه ويتعافى من أمراضه المزمنة التي كرّستها الأنظمة القمعية المتعاقبة والمتحالفة، بين سياسي وديني واجتماعي، كلها تشترك في تشكيل ثقافة سائدة وتكوين بيئة حاضنة لها، تراجعت مكانة المرأة ودورها في عديد المناطق السورية، مع عدم إغفال أن ما حقّقته المرأة ميدانيًا في العقود السابقة لا يرقى إلى مستوى الشعارات والأطروحات التي أشهرها النظام نظريًا، عدا تهتّك النسيج المجتمعي باكرًا في عمر الانتفاضة الأولى التي دُفعت إلى لجّة الحرب، ما أظهر انخفاض مستوى الوعي الجمعي، وضبابية مفهوم الانتماء إلى الوطن أو الدولة، بل ظهر جليًا كم هي الانتماءات إلى كيانات ما قبل الدولة هي الأقوى.
على الدولة واجباتٌ، قبل أن تتمسّك بالحقوق التي تصبح مفهومًا مطّاطيًا في يد أنظمة الحكم، فكلما ابتعد النظام في أي دولة عن الديمقراطية والنزاهة في العملية الانتخابية، وصادر الحرية السياسية وشلّها حتى لا يبقى أي حراكٍ سياسي أو تداول في الشأن العام بالمطلق إلّا من خلال ممثليه، وكلما صادر الحريات كلها وأهمّها حرية التعبير والقول، انقلبت الواجبات، على قلتها، إلى أعطياتٍ ومكرمةٍ من النظام أو رأسه، وازدادت مروحة حقوقه على حساب حقوق المواطنين اتساعًا.
هل المشكلة في تمييع هوية الدولة؟ أم في تشظّي الهوية المجتمعية؟ هل هناك مجتمع فاشل؟ وإذا وصلنا إلى هذه النتيجة فمن المسؤول؟ وما الهدف الأساس الذي يجب أن يبقى ماثلًا أمام وجوه السوريين في حراكهم؟ وما هي الأولويات ومن ثم الشعارات التي تمثل عناوين خريطة الطريق المستقبلية؟ وقبل كل شيء، انطلاقًا من الأسئلة السابقة، لا بد من طرح السؤال الأساس: هل سورية دولة فاشلة؟ وإذا كانت كذلك، هل كان من الممكن للمؤامرة “الكونية” أن تتمكّن من شعبها وتقسّمه وتشظّيه وتبدّده وتجعله يقاتل بعضه بعضًا، لولا أن نظامًا صادر السلطة والمصير أوصل الشعب إلى هذا الفراغ الروحي، وفتح المجال لأطراف المؤامرة كي توصله إلى هذا المصير؟ سؤال على كل سوريٍّ أن يفكّر فيه.
المصدر: العربي الجديد