استطاعت إيران حشد شبكاتها في أرجاء المنطقة وإعادة التأكيد على مكانتها الإقليمية، لكن الأمور في لبنان أشدّ تعقيدًا.
لا يكاد أحدٌ يشكّ في أن إيران وحزب الله كانا مطّلعَين على نيّة حماس بشنّ هجمات على البلدات الإسرائيلية الواقعة في غلاف غزة، لكن من غير الواضح ما إذا كانا على علمٍ بتوقيت وقوعها، أو ما إذا رحّبا بذلك. في الواقع، نقلت وكالة رويترز عن مصادر ثلاث أن المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي قال لرئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، ما مفاده: “لم تعطونا أي تحذير بهجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر على إسرائيل، لذلك لن نخوض الحرب نيابةً عنكم”. لكن حماس نفت صحة هذا الخبر لاحقًا واعتبرت أن ما ورد في التقرير “هو محض كذب وافتراء”.
لا تنطلي على الجميع رواية أن إيران فوجئت بالهجمات، ولا سيما أن لها مصلحة في تحييد نفسها عن عملية حماس، مفضّلةً أن تتكبّد مجموعةٌ من الميليشيات العربية الموالية لطهران عبء الردّ الإسرائيلي والغربي. مع ذلك، قد تضفي التطورات التي شهدتها الجبهة اللبنانية بعض الصدقية على التفسير القائل إن ما جرى يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر لم يكن عملية واضحة أطلقتها إيران بمنتهى البساطة. لقد استطاعت قوى ما يُعرف بمحور المقاومة الردّ على مستويات عدّة على الحرب في غزة وعلى دعم إدارة بايدن لإسرائيل، مظهرةً أن طهران طرفٌ أساسيٌّ لا يمكن تجاوزه في الشرق الأوسط، إلّا أن الأمور أكثر تعقيدًا بالنسبة إلى حزب الله.
منذ بداية الحرب على غزة، كان ردّ حزب الله محكومًا بضوابط. استطاع الحزب حتى اليوم تحقيق توازن دقيق من خلال الحفاظ على مستوى محدّد من الردع مع إسرائيل، بالتزامن مع تفادي الدخول في حرب مدمِّرة وشاملة قد تقوّض مكانة حزب الله في لبنان. لكن، لطالما انطوت هذه المقاربة على مخاطر كبيرة، إذ لم يكن من المؤكّد قطّ أن إسرائيل ستجاريه في ذلك وتلتزم بمستوى العنف الذي يريده الحزب.
على نحو أكثر دلالةً، أشار الصراع في لبنان بشكلٍ شبه مؤكّد إلى إرساء ترتيبات جديدة على طول الحدود اللبنانية الإسرائيلية في نهاية المطاف، أي أن حزب الله سيضطرّ إلى التعامل مع ديناميات قد تغيّر الوضع القائم المناسب الذي كان مفيدًا له قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر. بتعبيرٍ آخر، إذا كانت إيران هي من خطّطت ونسّقت هجمات حماس، فهي أقحمت حزب الله في وضعٍ محفوفٍ بالتقلّبات، انعكس من خلال استخدام الأمين العام للحزب حسن نصر الله، خلال الأسابيع التي تلت الهجمات، مفردات ترمي إلى خفض التصعيد وتظهر رغبةً قوية في تجنّب الأسوأ.
قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت إن إسرائيل لن توقف قصفها على الحدود مع لبنان حتى لو توصّلت إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار في قطاع غزة. طوال أشهرٍ، كان غالات الشرطي السيّئ على الجبهة اللبنانية، متوعّدًا بإعادة البلاد إلى العصر الحجري. في غضون ذلك، تقيّد الإسرائيليون إلى حدٍّ ما بقواعد اللعبة غير المكتوبة على الحدود، حتى لو أنهم عمدوا من حينٍ إلى آخر إلى توسيع هامش هجماتهم، كما حدث حين اغتالوا القيادي في حماس صالح العاروري في قلب ضاحية بيروت الجنوبية.
وكان ملفتًا أن الوزير في مجلس الحرب الإسرائيلي غادي آيزنكوت أشار خلال مقابلة أُجريت معه في 18 كانون الثاني/يناير إلى أن المجلس منع شنّ هجوم على لبنان، كان ليشكّل “قرارًا خاطئًا للغاية… وخطأً استراتيجيًا خطيرًا جدًّا”. إذًا، ما من توافق في أوساط القادة الإسرائيليين على تصعيد الحرب مع لبنان، وهذا يوحي بشدّة بأن تحذيرات غالانت الوخيمة لم تشكّل إشارةً إلى حرب برية وشيكة بقدر ما كانت مُصمَّمة للتأثير في تشكيل نتائج المفاوضات.
لكن لا يمكن أيضًا استبعاد الحرب البرية بالكامل. فحالما تنتهي حرب غزة، ستحتاج إسرائيل إلى إعادة سكان الجليل الذين تمّ إجلاؤهم من منازلهم إلى المنطقة الحدودية الشمالية. لكن المشكلة هي أن الكثير منهم غير متأكّدين من أنهم يريدون العودة، نظرًا إلى وجود حزب الله على مسافة قريبة. فعلى حدّ تعبير مسؤول محلّي في الشمال: “نطالب بحلٍّ عسكري سياسي مسؤول عن السكان. لقد ضقنا ذرعًا بالحلول المؤقتة”. وهذا يعني وجوب التوصّل إلى حلٍّ ما للمنطقة الحدودية الأوسع، إذ نزح أيضًا عشرات الآلاف من اللبنانيين بسبب الأعمال القتالية ولا بدّ من عودتهم إلى قراهم. وما لم تحصل إسرائيل على ضمانات تسمح لها بإعادة سكان المنطقة الشمالية إلى منازلهم، فلن تملك أي حافز لجعل حياة اللبنانيين الراغبين في العودة إلى قراهم مُحتملة.
يطرح هذا الواقع مشكلة لحزب الله. فيما يستطيع تدمير بلدات إسرائيلية متى يشاء في معرض ردّه على القصف الإسرائيلي، فحقيقة أن قرى جنوبية أُخليت من سكانها أعطت إسرائيل، ومعها دول أخرى مثل الولايات المتحدة، ورقة ضغط أكبر من أجل التوصّل إلى حلّ للمنطقة الحدودية. وهذا قد يدفع حزب الله إلى تقديم تنازلات، على الأقل إن كان يسعى إلى تفادي خوض حرب كبرى في لبنان – وهذا ما يتوخّاه فعلًا. هل سيكون الحزب راضيًا بهذا الوضع؟
لقد رفض حزب الله حتى الآن خوض نقاش حول تفاصيل الترتيبات الحدودية، قائلًا إن هذه المحادثات يجب أن تنتظر إلى حين انتهاء الصراع في غزة. لكن من المفترض أنه أخذ في الحسبان التنازل الظاهر الذي قدّمه المبعوث الأميركي آموس هوكستين لتشجيع حزب الله على الانسحاب من الحدود. فبدلًا من أن يطلب من الحزب الانسحاب إلى ما وراء نهر الليطاني، على بعد 30 كيلومترًا تقريبًا من الحدود (تطبيقًا لبندٍ في القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن وتلبيةً لمطلب إسرائيل أيضًا)، ذكرت مصادر أن هوكستين اقترح تراجع مقاتلي حزب الله مسافة سبعة كيلومترات من الحدود. قيل إن حزب الله رفض هذا الطرح، لكن ربما كان ذلك موقفًا أوليًا فقط، لأن هوكستين حين عرض هذه الفكرة لم يكن يبحث في تنازلات متبادلة. لكن، حالما تنطلق المفاوضات بطريقة جديّة، من المُحتمل، لا بل من المرجّح، أن ينظر حزب الله في صفقة متكاملة يمكن أن يجني منها شيئًا في المقابل. في غضون ذلك، رأى الحزب أن المبعوث الأميركي قد انصرف عن القرار 1701، ما يُعدّ في حدّ ذاته مكسبًا مهمًّا.
ينصبّ التركيز الأساسي للحكومات الغربية التي تبحث عن حلّ في لبنان على منح الجيش اللبناني دورًا بارزًا في أي اتفاقٍ لمرحلة ما بعد الحرب. والمعلومات التي نقلتها صحيفة الأخبار الموالية لحزب الله عن خطة لإنشاء فوج جديد في قوة الأمم المؤقتة المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) يتولّى مراقبة جانبَي الحدود بواسطة أبراج، هي غير صحيحة على ما يبدو. وعلى حدّ تعبير أحد الأشخاص الملمّين بالتفكير الغربي حول الجنوب: “هذا الأمر متعلّق أكثر بتعزيز انتشار ]الجيش اللبناني [ من أجل توسيع نطاق سيادة الدولة إلى منطقة يقع فيها خط احتكاك غير مستدام. ولا يمكن للنمط الراهن بين إسرائيل وحزب الله أن ينتهي إلّا وفق واحدٍ من سيناريوَين اثنَين: الأول هو حدوث شكلٍ من أشكال الانسحاب المُتفاوض عليه إلى شمال نهر الليطاني، أو على الأقل إلى منطقة عازلة بعمق 7 كيلومترات شمال الخط الأزرق، مع انتشار الجيش اللبناني…” [والثاني هو اندلاع حرب شاملة]”.
وأضاف المصدر نفسه: “ثمة استعداد، إن لم يكن رغبة، لإرساء ]حلٍّ تفاوضي [ . على الأقلّ في ما يُعنى بالطرفَين المتحاربَين، ثمة تفضيل لهذا الخيار كوسيلة للتخفيف من حدّة الصراع، لكن العقبات كثيرة”.
لقد حاول حزب الله تفادي حتمية هذه الملاحظة – المتمثّلة في واقع أن الصراع على الحدود الجنوبية لا بدّ أن ينتهي إما بحلٍّ مُتفاوض عليه (ما يعني بشكلٍ شبه مؤكّد إرساء ترتيبات جديدة على الحدود) أو بالحرب. ويبدو أن الحزب نظر منذ البداية إلى الصراع من منظور مثالي على أنه فترة مؤقتة بين وضعَين قائمَين، ولذا بدا متردّدًا للغاية في مناقشة أي تفاصيل نهائية قبل انتهاء الحرب في غزة.
لكن المزاج الكريه في إسرائيل ليس أمرًا يمكن أن يتجاهله حزب الله بسهولة. لقد أثارت هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، باعتبارها كانت ناجحة جدًّا من وجهة نظر حماس، خوفًا وجوديًا في إسرائيل ستنجم عنه على الدوام تبعات عميقة على الجبهة اللبنانية، ولا سيما أنه سيحثّ القادة الإسرائيليين على السعي إلى القضاء على التهديد الذي يطرحه الحزب على حدودهم الشمالية. ولتفادي ذلك، قد يضطرّ حزب الله إلى القبول بتفاهمات جديدة لدرء خطر اتّساع رقعة الصراع.
ستكون الحرب على الحدود قد دفعت حزب الله أيضًا إلى توضيح الغموض البنّاء الذي أحاط باستراتيجية “وحدة الساحات وترابط الجبهات” التي يتّبعها هو وإيران. لا شكّ في أن الإيرانيين تمكّنوا من إظهار نطاق نفوذهم في المنطقة ومدى قدرتهم في الوقت نفسه على ممارسة ضغوط على الإسرائيليين والأميركيين من لبنان واليمن والعراق، حتى فيما استطاعت حليفتهم حماس الصمود على الرغم من القصف الإسرائيلي المدمّر المستمر منذ أشهر. لكن في غضون ذلك، سلّط ضبط النفس الذي أبداه حزب الله وتصويره لبنان بأنه مجرّد “جبهة مساندة” لحماس في غزة، الضوء على القيود التي تعتري استراتيجية “وحدة الساحات”. لقد عزّز هذا الأمر تقييم الحزب بأن تصعيد الحرب في لبنان قد يؤدّي إلى إلحاق دمار هائل بالبلاد، وإلى تأليب معظم اللبنانيين على دور الحزب كـ”مقاومة”. ومن المحتمل أن تشجّع هذه الخلاصة الإسرائيليين على رؤية فوائد تُجنى من الانخراط في حرب كبرى، فيما تُظهر أيضًا أن مفهوم “وحدة الساحات” تشوبه عيوبٌ كثيرة عند أخذ نقاط الضعف المحلية في الحسبان.
ربما لم يلقَ هجوم حماس ترحيبًا في أوساط حزب الله، أقلّه من حيث التوقيت، نظرًا إلى أنه أحدث تطورات قد تزعزع الوضع القائم من خلال فرض توضيحٍ غير مرغوب فيه بشأن استراتيجية “وحدة الساحات”. إن الوضع في لبنان مفتوحٌ أمام احتمالات جمّة، لكن بعد الدمار الذي لحِق بغزة وتقويض الهامش المتاح أمام حماس والجهاد الإسلامي للضغط على إسرائيل عسكريًا في الوقت الراهن، فحتى إن تمكّن حزب الله من تجنّب هجوم إسرائيلي كبير في الجنوب، من الصعب استنتاج أن هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر قد عاد بالكثير من الفائدة على الحزب.
المصدر: مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط
نظام ملالي طهران وأذرعته الطائفية الإرهابية خسرت أمام الشعب العربي الواعي لدورهم وإستفادت من بعض حاضنتها الشعبية الأممعات الذين يقتنعون بما يروج له مسردب الضاحية حول الصبر الإستراتيجي وإنهم تفاجؤوا بطوفان الأقصى وإن يحافظون على لبنان والحقيقة خذلانهم للمقاومة الفلسطينية بفلسطين.غزة .