كان جسداً مغزلياً أشبه بصخرة كثيفة ملمومة وله حدقتا صقر ترودان بتركيز وتحفز أفقاً أبعد مما تبصره عيناه. وهو ابن لحظته وحضوره اليقظ، إذا نطق أفصح وإن قرر سارع إلى التنفيذ، واثقاً أن في قراره خلاصة الحكمة والإرادة والتجربة. إنه (ابن العم) اللقب الذي كان يخاطب به محدثه، ثم غدا دلالة عليه، ولم يكن هذا اللقب المحبب أثراً من آثار نشأته في بيئة مدينة حمص الأهلية، بقدر ما كان تعبيراً عن تفرده ورغبته باختراع مصطلحاته الخاصة، فيسمي أدبيات حزبه (زعبراتنا) مشيراً بذلك إلى توجهه إلى التنفيذ خارج الأدراج وحرفية الأوراق. وكلامي هذا ليس صادراً عن مجرد انطباع لما تركته شخصية رياض الترك الغامضة في وضوحها والحاضرة في نفسي، بل نتيجة توصلت إليها مما لاحظته من سلوك الرجل وطبائعه الخاصة، حتى حين كان ذلك الثمانيني، يغالب نعاس جفنيه أو يريحهما، ثم ينتصب فجأة ليدخل في صلب الحديث الذي كان يدور بيننا فندرك أنّ إغماضة العينين تمكين للإنصات بدقة على كل كلمة تدور في حوارنا ليوافق عليها أو يرفضها وبذا وغيره نكتشف أن سنوات سجنه الطويل، لم تنل من صلابة جسده ولا من عزمه وإرادته ولا غيرت من تواضعه الجم أو من تقشفه، بل ربما أدركنا أن سمة التواضع والتقشف معاً قد عززتا عنده كاريزما القائد وأكدتا نباهة حضور، قلما يشبهه أو يجاريه فيها أحد.
كان هذا حين قدر لي أن أعمل معه في الأمانة العامة لإعلان دمشق للتغيير الديمقراطي، بعد خروجنا من سجن بشار (الحداثة والتطوير) في نهاية الشهر العاشر 2010، وحين تلقفنا انطلاقة ثورة الحرية والكرامة في شهر آذار 2011 بفرح وتفاؤل وكان هو يعدها القدر الذي طال انتظاره، ومنه راح يخطط ويتواصل ويراقب كل شاردة وواردة ويرفض مشاركتنا في أي من المؤتمرات المتتالية باسم إعلان دمشق، قائلاً: لم تنضج ظرف الثورة بعد والكفة لم تزل لصالح النظام، وهكذا انتظرنا حتى كان حضورنا أنا والأستاذ سمير نشار مؤتمر الدوحة التشاوري محملين بوصاياه بالاكتفاء بإقامة ائتلاف سياسي وتأجيل تشكيل المجلس الوطني السوري لأشهر أخرى، كي يجري الإعداد له جيداً، ولكن أمام إصرار مجموعة الأكاديميين الإسلاميين المسماة (الكتلة الوطنية) (أحمد رمضان وعماد الدين رشيد وفداء المجذوب) القادمين من فشل مؤتمر الإنقاذ بقيادة هيثم المالح على تشكيل المجلس ورفض الائتلاف السياسي خرجنا بلا نتائج وذهبوا هم إلى تشكيل مجلس 74 بعد 15 يوما من لقاء الدوحة، ثم عادوا وبالتوافق مع جماعة الإخوان المسلمين وتشاور مع (رياض الترك) مضينا إلى إعادة تشكيل المجلس الوطني السوري في إسطنبول 2//10/ 2011 وكان (ابن العم) يستند على قناعة بضرورة وجود الإخوان المسلمين في أي تشكيل وطني سوري، ومن دمشق إلى إسطنبول كان الرجل متابعاً يومياً بدقة متناهية ويسهر إلى ما بعد منتصف الليل، ليقدم لنا ملاحظاته وتوصياته ويخص زميلنا سمير نشار الذي وكله ليكون الناطق الرسمي باسم الإعلان بعد اعتذار السيد رياض سيف عن رئاسة الأمانة العامة إثر خروجه من السجن. وهكذا تم الإعلان عن المجلس الوطني الذي لم يجسد الطابع الائتلافي للعمل السياسي بين الكتل المشكلة له، بل ظل تجميعاً لممثلين عن مرجعيات سياسية وولاءات حزبية وأيديولوجية ومناطقية.
وهنا وبعد تجربة العمل مع معلم فذ من وزن رياض الترك رحت أفكر هل كان لعنفوانه واستقلال شخصيته دور في قيادته لتيار استقطب أكثرية المكتب السياسي لحزبه الشيوعي السوري، يرفض التابعية للسوفييت ويقف في مواجهة القيادة التقليدية لخالد بكداش الذي انطبقت عليه المقولة: (إذا أمطرت في موسكو رفع الشيوعيون مظلاتهم في دمشق )؟ أم هي ثمرة تجربة حيوية تفاعلت مع شخصية رجل نشأ في الميتم ونال شهادة الحقوق والمحاماة ودخل سجون الشيشكلي ثم سجن عبد الحميد السراج إبان الوحدة السورية المصرية، ثم دخل سجنه الأطول في عهد حافظ الأسد عام 1980 مع عدد من مناضلي حزبه الشيوعي (المكتب السياسي) الذي كان قد استقل عن الحزب الرسمي بعد بيان 3 نيسان 1972 الذي أصدره خالد بكداش وفصل خمسة أعضاء من الحزب واتهم هؤلاء في الأوساط بالتنسيق مع حزب البعث بقيادة صلاح جديد، لتبني الوحدة العربية وتحرير فلسطين والاستقلالية عن السوفييت. ثم كان رفضه الجبهة الوطنية التقدمية مع حافظ الأسد، ولكن واقع الخلاف إضافة لهذا الجانب الفكري والعملي، كان قد تمحور وتبلوّر كصراع بين كاريزما صاعدة شابة، يمثلها هو وكاريزما تقليدية لخالد بكداش، الذي نال حظوة واحتراما واسعا في المعسكر الاشتراكي وعند السوفييت وبرز اسمه أيام النضال الوطني ضد الاحتلال الفرنسي ونضاله السياسي الذي حقق له الفوز في الدورة الانتخابية البرلمانية عام 1954، وبأصوات دمشقية وازنة وعبر تحالفه مع كل من خالد العظم ومصطفى السباعي حينذاك.
أما في مرحلة الصراع الدامي مع الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي فذهب بحزبه إلى إدانة العنف من الطرفين وطالب بالتغيير السياسي، معتبراً أن الحراك الذي شهدته بعض المدن السورية كحماة وحلب وغيرهما حراكا شعبياً، يجب الدفع به لتبني مطالب الجماهير الشعبية ولأخذ الحراك إلى وجهته الديمقراطية، ولأجل ذلك، تمّ تشكيل تجمع القوى الوطنية الديمقراطية بين (المكتب السياسي) بقيادته والاتحاد الاشتراكي والبعث الديمقراطي فلاحقهم النظام وسجن المئات منهم عام 1980، وكان نصيب ابن العم 18 عاما أمضى معظمها في المنفردة. بينما ازداد التصاق الحزب الرسمي بقيادة خالد بكداش ويوسف فيصل مع نظام الأسد في وجه الاغتيالات والحراك الذي قامت به الطليعة وبدا للجميع عجز القوى السياسية عن قيادة الشارع وانكفاء معظمها أو تلظيها خلف سلطة الأسد. ولكن اللافت أن سجن رياض الترك جاء في الفترة ذاتها، التي قال فيها خالد بكداش مبررا وجود حزبه في الجبهة: (لو انطلقنا من السياسة الداخلية لكنا في المعارضة) فنزلت مقولته كنكتة باردة، إذ ما هي مقومات السياسة الخارجية التي تمنع حزباً يدعي الثورية من معارضة إذلال الشعب السوري ووقوفه لساعات أمام مؤسسات النظام لينال عبوة من زيت القلي أو السمنة والشاي والقهوة وغيرها من المواد الضرورية، على حين كانت مخازن الرفاهية تزخر بالويسكي والسيارات الفارهة التي تستورد بالعملة الصعبة لصالح البرجوازيتين الطفيلية والبيروقراطية اللتين تحالفتا تحت رعاية الأسد وشراكته في نهب قوت الشعب.
واليوم وقد توفيّ فارس الساحة السورية المعارضة عن 93 عاماً في باريس، يمكننا القول إن شخصية رياض الترك علت فوق الحزبية وتجاوزت سمعته وصيته سمعة حزبه ودوره وذلك بما كرسه في مساره من سمات الشخصية الإمبراطورية، التي ربما ترى الحق إلى جانبها دائما وعلى الجميع أن يكونوا (شبه جيش) يأتمرون بأمره وطوع بنانه؟ ومن هنا يبدو لي أن رياض الترك ظلّ يتمتع بشخصية القائد الشيوعي الإمبراطوري النزعة كخالد بكداش وغيره، لكنه اكتفى بعضوية اللجنة المركزية وتراجع دوره بعد أن خلع الحزب عباءته الماركسية اللينينية في مؤتمره السادس، حتى إذا جرت الترتيبات لإعلان دمشق عاد ابن العم بكل حيويته وطاقته ليرى في الإعلان حالة وجودية شخصية ووطنية، وطبيعي أنه كان الركن الأبرز في أمانة الإعلان واستطاع مع أعضاء الأمانة الذين نجوا من الاعتقال حماية اسم الإعلان ومساندة ظهر المعتقلين مادياً ومعنوياً.
ومع شديد احترامي وتقديري للراحل الكبير المرحوم رياض الترك، وخارج سنوات سجنه، أسأل جاداّ: هل هذه الصلابة والمسيرة النضالية والكاريزما القيادية التي تمتع بها الرجل تخوله لنيل لقب المناضل (نيلسون مناديلا) الذي قاد إلى تحرير بلاده من نظام الابرتايد، أم هو جوعنا السوري إلى طراز من المناضلين الأشداء والقادة الأكفاء على شاكلته؟
تستحق بطولة رياض الترك (ابن العم) وصموده كل تقدير وتستحق جنازته الاحتفاء والتكريم، ولكن يجب على السوريين تقييم تلك الشخصية الإشكالية وتفنيد صحيحها من خطئها، ليكون ذلك زادا لرواد الدرب وكي لا يتسابق المفوهون والمتصدرون للإشادة والتمسح بتاريخ رجل له سمات قائد فذ، وعليه مآخذ لا تقلل من قيمته وقدره رحمه الله ويجب علينا أن نتذكرها ونقدمها درساً أخلاقياً لنا وللأجيال اللاحقة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
قراءة موضوعية لمسيرة المناضل الراحل ابن العم “رياض الترك” إن شخصية رياض الترك علت فوق الحزبية وتجاوزت سمعته وصيته سمعة حزبه ودوره وذلك بما كرسه في مساره من سمات الشخصية الإمبراطورية، التي ربما ترى الحق إلى جانبها دائما وعلى الجميع أن يكونوا (شبه جيش) يأتمرون بأمره وطوع بنانه؟ الله يرحمه ويغفر له .