تحظى التطورات في إدلب والمنطقة المحيطة بها شمال غربي سوريا باهتمام المتابعين للشأن السوري، لا سيما بعد حديث وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، أمس، عن إمكانية إعادة ترتيب قوات بلاده، أو سحب نقاط تمركزها في إدلب بعد تحويلها إلى «منطقة آمنة» والتي تزامنت ومع زيارة قائد قوات حرس الحدود التابع للنظام الجمعة إلى مدينة «العريمة» شرق حلب.
ووفقاً لتصريحات وزير الخارجية التركي التي تعكس إصرار تركيا على فرض واقع جديد في سوريا وبشكل خاص في إدلب وشمال غربي سوريا يتناسب مع قوتها ودورها وأمنها القومي، قال أوغلو لدى سؤاله خلال برنامج تلفزيوني، بثته قناة «سي أن أن تورك» عن رغبة تركيا في إزالة نقاط المراقبة من محافظة إدلب، «من الممكن أن تجري ترتيبات جديدة حسب الوضع الجديد في المنطقة أي بعد إقامة المنطقة الآمنة هناك»، لافتاً إلى مساعي بلاده، ومناقشة تحويل إدلب ومحيطها، إلى منطقة آمنة، وأضاف «عندما يتم ذلك سيفكر جيشنا بطريقة استراتيجية وسيتمركز بشكل مختلف في المنطقة حسب الحاجة للمراقبة».
وبيّن وزير الخارجية التركي أن «الجيش ووزارة الدفاع وأجهزة الأمن والاستخبارات المعنية هم من سيقررون أين ستتمركز نقاط المراقبة وكيف وأين سيعمل الجنود الأتراك في المنطقة بعد بسط الأمن هناك، ولكن حالياً يواصلون عملهم في أماكن تمركزهم». وتزامنت تصريحات المسؤول التركي، مع زيارة قائد قوات حرس الحدود علي عارفة برفقة قائد الفوج الثاني في حرس الحدود، العميد جمال العلي، الجمعة إلى مدينة «العريمة» غرب مدينة منبج في ريف حلب.
ترتيبات جديدة
ويمكن الوقوف على نقاط هامة عدة في ضوء تلك التطورات، إذ تترجم زيارة قادة ما يعرف محلياً بـ»الهجانة» على أنها مؤشر ضمني إلى ترسيم النظام السوري لحدوده مؤقتاً إلى حين إيجاد حل شامل للبلاد، وحسب خبير عسكري مقرب من أنقرة، لـ»القدس العربي» فإن قيادات النظام العسكرية «ترسّم نقاط انتشار قواتها في منبج، ومن المعروف أن الهجانة لا تنتشر إلا على الحدود ولا مكان لها ضمن المناطق الداخلية، فزيارة عارفة والعلي هو مؤشر أن النظام يرسم حدوده على مشارف العريمة والباب وامتداد هذه المناطق». وربط الخبير العسكري الذي فضل حجب هويته لدواعٍ وصفها بالأمنية، بين زيارة قائد حرس الحدود لدى النظام السوري بتصريحات وزير الداخلية التركي حيث قال «أوغلو لن يتحدث بدون تنسيقات سرية، قد تشير إلى انسحاب قوات النظام من المناطق الباردة ونشر الهجانة مكانها، والتي ربما ينتشر منها قطاعات كما هو الحال على جبهة إسرائيل، وربما نشهد قطاعات وجيشاً نظامياً وثكنات وهو ما يمسى بنطاق حيطة، وذلك بعمق 2 كيلو متر، وعرض الحدود تماماً، أي ما يقارب 3 كيلو مترات». وبيّن المتحدث الواسع الاطلاع أن «كل هذه الترتيبات مؤقتة، لأن واشنطن لا تعتمد على اتفاقيات أستانة ولا على سوتشي ولا غيرهما فلا يمكن ان يكون هناك حل سياسي، إلا ما تفرضه أمريكا في جنيف وفق قرار 2254».
واعتبر الخبير العسكري أن تصريحات وزير الخارجية التركي واضحة حيال إقامة منطقة آمنة، مؤكداً أنه في حال تم الوصول إلى هذا الهدف، سوف يعود الجيش التركي إلى ترتيب تمركزه، وقال «بعد أن كان هناك حواجز في كل شارع وانتشر الجيش ضمن المدن وفي كل مكان، سيكون هناك ترتيب جديد عند تواجد المنطقة الآمنة فلا داعي لوجود القوات الأمنية، لأن الخطوات القادمة تتيح تفعيل دور القوات المحلية، وفي مثل هذه الحالة ينسحب الجيش باتجاه الجبال أو مناطق معينة يتمركز ضمن ثكنات بعيدة عن المدنيين منعا من الاحتكاك والتوتر، ثم يقلل عدد الجنود، لكن النقاط العسكرية هذه تكون قلاعاً محصنة، وبذلك يحكم الوضع الأمني وينحصر تواجد الجيش بنقاط معينة من أجل تقليل الخسائر وتفعيل القوات المحلية الموالية، وكل شيء مؤقت وذلك ضمن رؤية الاستخبارات والجيش وليس الوزارات الداخلية أو الخارجية وهي حدود مؤقتة إلى حين ايجاد الحل الشامل». مؤكداً أن المنطقة الآمنة لن تكون أرضاً تركية، وما دونها لن يكون تحت سيطرة النظام السوري، فهي حدود غير مستدامة ولا يستقر على هذا الأساس الوضع في سوريا.
وبالنتيجة، يفهم من التصريحات وزير الخارجية التركي إصرار بلاده على فرض خريطة جديدة تتناسب مع قوتها ودورها وذلك بطرق مباشرة أو غير مباشرة يمكن الوقوف على بعضها في الفترة التي سبقت تصريحات وزير الخارجية أمس، وهو ما تحدث عنه النقيب رشيد الحوراني ومنها على سبيل المثال «الأسلحة النوعية التي أدخلتها إلى إدلب وباتت تشكل ما يمكن تسميته القبة لحماية قواتها المنتشرة في المنطقة، وكذلك استمرار دخول الأرتال العسكرية تهيئا لأي معركة محتملة، وزيارة وزير الدفاع للوحدات العسكرية في منطقة هاتاي، وزيارة وزير الداخلية التركي لمدينة إدلب، وعدم تلبية مطالب الروس قبل زيارة وزير الخارجية الروسي ووزير الدفاع الروسي إلى تركيا، ما دفعهم لإلغاء الزيارة».
يضاف إلى ذلك الواقع الميداني الذي فرضته تركيا في ليبيا، ووفقاً للمتحدث العسكري لـ»القدس العربي» فإنها مجموعة تشكل «رسائل تركية إلى روسيا بشكل خاص على أن ترتيب المنطقة الآمنة سيكون وفق رؤيتها، وليس وفق ما تراه روسيا». وبرأي النقيب الحوارني فإن التصريحات التركية الأخيرة لا تحمل إعادة انتشار إلى حدود اتفاق 5 آذار 2020 المبرم بين الرئيسين التركي والروسي، بل يحمل رسالة تفيد بأن «المنطقة الآمنة إن لم تكون وفق ما نريد بالطرق السياسية، سنعمل على تحقيقها بالطرق العسكرية الموجودة أدواتها على الأرض».
ميدانياً، يبدو حجم التعزيزات العسكرية التركية التي تصل إلى إدلب بشكل شبه يومي، أنها لا توحي بأن الأتراك سيغادرون نقاط تمركزهم بلا اتفاق نهائي حول المنطقة بما يضمن عودة النازحين إلى مناطقهم وبيوتهم على أن تكون آمنة من القصف المدفعي والجوي وبهذا تحقق تواجداً طويل الأمد وتخفض من أعداد السوريين المقيمين على أراضيها في الوقت ذاته. ويترجم المعارض السوري درويش خليفة تصريح الوزير جاويش أوغلو وتركيزه على نقطة محددة تدور حول الجيش التركي ووزارة الدفاع وأجهزة الأمن المعنية بتمركز نقاط المراقبة، على أن ملف إدلب ذو أهمية قصوى لتركيا من ناحية الأمن القومي والعمق الاستراتيجي. وبالتالي ستربط سياستها الخارجية في سوريا مع أمن حدودها الجنوبية والتي تعتبر البوابة نحو دول الخليج والأردن.
الملف السياسي
ومن وجهة نظر خليفة الذي تحدث لـ»القدس العربي»، فإن الفاعلين الأساسيين على الجغرافيا السورية بدأوا جدياً في التفكير بتثبيت نقاط السيطرة بعد بدء تنفيذ قانون حماية المدنيين الأمريكي وقال «في أثناء حديث الوزير التركي عن مستقبل قطاع إدلب، قام قائد قوات حرس الحدود السوري اللواء علي عارفة بزيارة بلدة العريمة في الريف الشرقي لحلب والتي تعتبر نقطة التمركز الأخيرة لقوات النظام على خط التماس مع قوات الجيش الوطني المعارض وهذا ما يدل أن الفاعلين الأساسيين على الجغرافيا السورية بدأوا جدياً في التفكير بتثبيت نقاط السيطرة بعد بدء تنفيذ قانون قيصر والذي يحمل في بنوده عقوبات تعد الأقسى على نظام الأسد وأزلامه المقربين اقتصادياً». ولكن على تركيا، حسب رأيه، حل مسألة إدخال المساعدات الأممية لقطاع إدلب عبر التفاهم مع الجانب الروسي والذي ينتهز الفرصة للضغط على الأتراك عبر استخدامه حق النقض الفيتو في مجلس الآمن الدولي الخاص بالمساعدات الحدودية، وإلا سيصبح العبء الأكبر عليهم لكونهم الضامنين في المنطقة وأصحاب النفوذ الإقليمي فيها.
كما يمكنهم إدخال المساعدات عبر الحدود البرية بالتشاور مع الجانب الأمريكي، عبر المعابر البرية العراقية باتجاه مناطق سيطرة «قسد» إلى ريف حلب ثم إلى إدلب. وهذا يحتاج بعض التفاهمات المحلية.
سياسياً، ركز مراقبون على نقطة هامة في حديث «تشاووش أوغلو» والتي تدور حول مهمة القوات التركية في تحويل إدلب إلى منطقة آمنة، ومحاربة الإرهاب، وهو ما ينفي برأيهم نوايا الاحتلال أو البقاء طويل الأمد، وفي هذا الصدد يقول الباحث السياسي ابراهيم العلبي إن تصريحات وزير الخارجية التركي لم تأت بجديد بشأن مصير قوات بلاده في سوريا وخاصة في إدلب، فقد صرح المسؤولون الأتراك مراراً وعلى رأسهم الرئيس أردوغان بأن القوات التركية موجودة في سوريا لمحاربة الإرهاب الذي تقاعس نظام الأسد عن مكافحته بل استخدمه للإضرار بالدول المجاورة لا سيما تركيا.
لذلك يبدو حديث تشاووش أوغلو عن إمكانية القيام بترتيبات جديدة بشأن تمركز القوات التركية ولكن بعد تحويلها إلى منطقة آمنة، أي بعد إنجازها المهمة التي دخلت إلى المنطقة لتحقيقها يفهم في سياق نفي نوايا الاحتلال أو البقاء الدائم في سوريا. لكن من جهة أخرى يشير حديث تشاوش أوغلو في هذا التوقيت عن قضية مصير قوات بلاده في إدلب حصراً وبدون ذكر بقية المناطق مثل درع الفرات وغصن الزيتون إلى احتمال أن تكون هذه القضية تحديداً موضوعة على طاولة المفاوضات غير المعلنة مع روسيا وحتى أمريكا.
المصدر: «القدس العربي»