
الوقوف على أطلال البرامج والمجلات الثقافية العربية، قد يحتاج مرثياتٍ توازي ما كتبه أبو البقاء الرندي إثر سقوط الأندلس. فالثقافة الجادة، لم تخسر مبارزتها مع برامج الترفيه وحسب، بل ربما تغادر الحلبة، بعد أن تلقت ضربات قاضية، من السوشيال ميديا، المدعّمة بأسرابٍ من البلوغرات وصنّاع المحتوى.
سيقول بعضهم، إن المشكلة تكمن في غياب الرؤى، والفشل المتكرر للشعارات والأفكار، إلى جانب سيادة العولمة وعدم تجديد العرب لأساليب المواجهة وبقائهم مستهلكين للحداثة لا منتجين!. لكنَّ من “ساءته أزمانُ”، المقصود في قصيدة أبي البقاء الرندي الشهيرة، لا يبدو حتى الآن، قادراً، على الوقوف في صفّ “من سرّه زمنٌ”، التي تشير لاستعادة مكانته التاريخية، كما يُفترض!.
يتحسّر النقاد، على منابر ثقافية هامة، اشتهرت في الصحافة والإذاعة والتلفزيون. ويستذكرون مجلات مثل: “الهلال” و”الأديب” و”الرسالة” و”الثقافة” و”شعر” و”الآداب” و”حوار” وغيرها كثير. وإلى جانبها برامج إذاعية وتلفزيونية، حضر فيها أهم المفكرين والشعراء والنقاد، في إذاعتي دمشق والقاهرة، رائدتي الإذاعات العربية.
لماذا غابت البرامج والمطبوعات المعبرة عن انعطافات الفكر والأدب؟ ولماذا لم نعد نقرأ إشكاليات فكرية وأسلوبية تحصل في الثقافة والكتابة، مثلما فعلت مجلة “شعر” في القصيدة العربية؟ هل انتهى زمن الأسئلة الكبرى؟ أم أننا تأخرنا كثيراً في تقديم الإجابات؟.
من المجلات إلى البلوغرز
بضعة مجلات ثقافية عربية شهرية، تستمر بالصدور اليوم، مع غياب في إشكالية العناوين وثقل القضايا المطروحة. ترافقها على المحطات، برامج ثقافية مشغولة بأضعف الإيمان، مثلما هو الحال في الإذاعات التي صارت ميّالة للخفّة وتمضية الوقت في تناول المحتوى، كأن تلك المؤسسات تحاول حفظ ماء وجه الثقافة المراق، لصالح برامج التسالي والترفيه والمنوعات.
لعلّ نظرة على برامج الثقافة في محطات التلفزة العربية، تكفي لأن تعطي انطباعاً عن القواسم المشتركة بينها، فهي تتنوع بين “الحوار” و”مناقشات الكتب” وتقارير عن الأنشطة السينمائية والمسرحية والأدبية، إلى جانب برامج الوثائقيات والتراث، حيث السمة الإخبارية والتغطيات الميدانية، هي الغالبة على معظم تلك البرامج.
ويشذ عن تلك القاعدة، بعض البرامج الإشكالية، التي أنجزتها عدة محطات عربية خلال فترات متباعدة، مثل الحوارات مع مفكرين مثل: “فراس السواح، السيد القمني، نصر حامد أبو زيد، حسن حنفي..”، لكن تلك الحوارات الجدلية، بقيت موسمية، غير متاحة في المحطات التي تتبع سياسات متحفظة في قضايا الإصلاح.
يحمّل الإعلامي المختص بالشأن الثقافي، بديع صنيج، جزءاً من المسؤولية، للصحفيين أنفسهم، ويقول لموقع تلفزيون سوريا: “الإعلاميون غير المثقفين، يشكلون جانباً من هذه المشكلة، خاصة في التلفزيون. فكيف يمكنك تقديم برنامج ثقيل وهام، وأنت لا تمتلك الثقافة الكافية؟ فغالباً ما يكون الضيف أكثر ثقافة من الصحفي، الذي يكتفي بتوجيه الأسئلة وانتظار الإجابات فقط!”.
ثقافة بملخصات قصيرة.. هل تكفي السوشيال ميديا لتغذية العقل؟
وعندما نسأل الشاب “جميل”، طالب جامعة سنة ثالثة إنكليزي، عن البرامج الذي تشد انتباهه ويحرص على متابعتها، يستغرب السؤال، ويقول إنه من الصعب عليه مشاهدة حوار ثقافي لمدة ساعة على التلفزيون، أو قراءته في الجريدة، ويضيف: “أكتفي بمتابعة السوشيال ميديا التي تعطينا ملخصات مكثفة وصغيرة لا تتطلب وقتاً في المتابعة والتركيز لأنها مقدمة بأسلوب الفيديو القصير”.
ويبدو الحصول على ثقافة معمقة وجدية، عبر السوشيال ميديا، أمراً صعباً، نظراً لضيق الوقت المتاح على أهم المنصات مثل: “انستغرام وإكس وتيك توك..”. لكن “اليوتيوب” يمتلك هذه الميزة، وهو ما جعل كثيراً من المفكرين، يفتتحون أقنية خاصة بهم، في ظل عدم اهتمام وسائل الإعلام، بتقديم ثقافة معمقة ونقدية تتطلب جهداً في المتابعة والفهم.
ويقارن الإعلامي صنيج، بين البرامج والمجلات الثقافية التي كانت سائدة قبل عقود، مع تلك الدارجة اليوم، ويقول: “غابت الأسماء النقدية والإبداعية المؤثرة، كما انخفض مستوى الوعي والاهتمام بالثقافة عند الناس، وهذا كله انعكس على وسائل الإعلام المحكومة بما يرغبه الجمهور”.
ويشير صنيج إلى انخفاض مستوى المحتوى الثقافي المقدم في المجلات الثقافية والبرامج التلفزيونية، ويؤكد أن متابع اليوم، غالباً ما يفتح فهرس المجلة ليستعرض العناوين والأسماء المشاركة، وبناء عليه يختار مقالاً يقرؤه، وأحياناً لا يقرأ شيئاً من مواد المجلة!.
ثقافة على أرصفة دمشق
نذهب إلى بائع الكتب والمجلات على الرصيف المجاور لمقهى الروضة بدمشق، لنسأله عن المطبوعات الثقافية المطلوبة، فيؤكد أن الطلب الأكبر يطول الروايات العالمية المترجمة، خاصة الفائزة بالجوائز الكبرى. ويضيف: “ليس هناك مجلات مختصة بالثقافة تصلنا”، ويعود بالذاكرة للوراء قليلاً، ليخبرنا أنه كان يسجل أسماء الزبائن الذين يودون الحصول على مجلات هامة مثل “الناقد” و”الآداب”، ويقول: “لقد تغير العصر واختلفت عادات القراءة، وهذا الجيل لا يهتم سوى بالسوشيال ميديا والإنترنت”.
لكن الإعلامي أحمد سبيناتي، يحمّل وسائل الإعلام مسؤولية التردّي في مستوى المحتوى الثقافي، ويقول: “الصحفي محكوم بالسياسة الإعلامية المتبعة في المنبر الذي يعمل فيه. فغالباً ما تبتعد وسائل الإعلام عن المواضيع الفكرية الحساسة، لأنها تجلب وجع الرأس. وهذا العصر هو للأخبار المثيرة والسريعة التي تجذب انتباه الجمهور”.
وتبدو مشكلة ضعف البرامج والمجلات المهتمة بالثقافة، مرتبطة بقضايا أخرى في مقدمتها مستوى الوعي السائد عند الجمهور، وسياسة المنبر الإعلامي، إضافة لمستوى الصحفي ثقافياً، ومدى قدرته على صناعة منجز قادر على تناول الإشكاليات. ويضيف سبيناتي: “يمكن أن تشكل المنابر المختصة بالثقافة والفكر، حلاً لهشاشة المحتوى الثقافي في وسائل الإعلام. لكن مطبوعات الثقافة وبرامجها، لا تنطوي على جدوى اقتصادية مغرية للمستثمرين، وغالباً ما تعتمد تلك المنابر على التبرعات”.
وحتى لا تتلبد الغيوم في وجوه المثقفين، بسبب حال الثقافة في الجرائد والتلفزيونات، والتي قد تدفعهم لأن يمكثوا طويلاً في قائمة من “ساءتْهُ أزمانُ”، فإننا نستنجد بمرثية أبي البقاء الرندي، نفسها، حين يقول: “وهذي الدار لا تُبقي على أحدٍ… ولا يدومُ على حالٍ لها شانُ”!.
المصدر: تلفزيون سوريا