الحكومة السورية الجديدة وتحديات صناعة القرار الإداري

عبد الناصر الجاسم

مما لا شك فيه أن الحكومة السورية حديثة التشكيل تتحضر لتحمل مسؤوليات جسيمة استجابة لحجم ونوع الاحتياج المعقد لدى المجتمع السوري، وفي ظل توقيت محلي وجيوسياسي شديد الحساسية، وتضم هذه الحكومة من الأشخاص ذوي التجربة والخبرة في الشأن السوري بما يكفي لمعرفة أن إعادة البناء والإصلاح الجذري ليس جملة من الشعارات تطرحها القيادة السياسية أو تفرضها إرادة مجموعة من الأفراد على المجتمع، بل هي عملية متعددة المسارات تقوم على تحقيق شروط معينة وموضوعية على أرض الواقع، وفي مقدمتها تبني ثقافة سياسية تسمح بإسهام القوى الاجتماعية جميعها في عمليات البناء التعليمي والإداري والاقتصادي والسياسي، واحترام القانون وخلق بيئة تساعد في بناء مؤسسات الدولة وتتيح بناء مؤسسات المجتمع المدني وهذا مالم يكن يسمح به النظام السياسي السابق في سوريا.

وتستند هذه العملية إلى ثلاثة أبعاد أساسية، وهي البعد السياسي والبعد الاجتماعي والبعد الإداري، حيث يشير البعد السياسي إلى أن الإصلاح والتطوير الإداري عملية سياسية تعيد صياغة العلاقة بين السلطة الإدارية وباقي عناصر المجتمع من جديد، وهذا يشير ضمناً أن مشكلات الجهاز الإداري تنبع من السياسة وتأتي من قمة الهرم السياسي. وأما البعد الاجتماعي فيشير إلى أهمية الوسط الاجتماعي، وضرورة أخذه بعين الاعتبار عند القيام بالتخطيط والتنفيذ لعمليات الإصلاح والبناء، فهذا الوسط هو الذي يكسبه الشرعية، وأما بالنسبة للبعد الإداري فهو يشير إلى الجهد المصمم لإحداث التغيير في أنظمة الإدارة العامة في المواقع التي تعاني خللاً ما وذلك لجعلها قادرة على القيام بعملها بفاعلية للتكيف مع المتغيرات البيئية المحيطة، ولاسيما أن هناك دمج وزارات وماله من تبعات هيكلية وتنظيمية، وكذلك هناك إحداث وزارات جديدة تتطلب البناء من نقطة الصفر، و ربما هنا المهمة تكون أسهل من الدمج و التضمين.

ويعد التحدي الإداري هو الأبرز من بين التحديات التي تواجه الحكومة السورية الوليدة، ويتمثل في عملية صنع القرارات والعوامل المؤثرة في هذه العملية،

والتي تمثل جوهر العملية الإدارية الديناميكية في جميع المستويات التنظيمية في الأجهزة الحكومية من الإدارة العليا، المتمثلة بالرئيس الإداري الأعلى، ومن ثم الوزراء والمديرين العامين، ومديري الفروع والمديريات، وصولا إلى الإدارة التنفيذية المباشرة، وتمثل هذه القرارات بمضمونها ترجمة للأهداف والسياسات التي تعتمدها الدولة.

تشير كثير من الأدلة والدراسات في علم الإدارة إلى أن عملية صنع القرارات تمثل المسؤولية الكبرى بالنسبة إلى القائد الإداري، ولا سيما في مجال الإدارة العامة والحكومية التي ُيبنى عليها سير العمل في الدولة بصورة عامة نحو تحقيق أهدافها في تنمية البلاد والموارد، وفي مقدمتها المورد البشري.

ويشير مفهوم القرار الى عملية اختيار بديل من بين عدة بدائل مدروسة ومتاحة لمواجهة موقف ما أو لحل مشكلة ما، ومن أجل سلامة ورشاد القرار وحتى لا يفقد فاعليته لابد من أن تتوفر فيه ثلاثة جوانب وهي توفير البدائل وتطوير الحلول، ثم إتاحة حرية اختيار البديل الأمثل من بين هذه البدائل، وكذلك لابد من وجود الهدف حيث لا مبرر لاتخاذ قرار لا هدف مرجو من اتخاذه.

تتأثر عملية صنع قرارات الإدارة العامة (الحكومية) في سوريا بجملة المتغيرات الموجودة في بيئة العمل العام، ويمكن تصنيفها بحسب الآتي:

المتغير السياسي: تؤثر القيود السياسية وتوجهات نظام الحكم في حرية صانع القرار ومتخذه كي ينسجم القرار مع فلسفة إدارة الدولة ومع رؤيتها السياسية، فهل الرؤية السياسية للدولة واضحة في أذهان القادة الإداريين الأعلى وهم الوزراء، وهل هذه الرؤية تدعم استقلالية صنع القرار الإداري واتخاذه؟

المتغير الاجتماعي: ويتمثل بالبيئة الاجتماعية التي يصنع فيها القرار الإداري الحكومي، وهي تؤثر في عملية صنع القرارات، وتتأثر بها من خلال علاقات العمل الرسمية وفق الهياكل التنظيمية، وعبر علاقات العمل غير الرسمية التي تنشأ ضمن بيئة العمل، وكذلك منظمات المجتمع المدني والنقابات العمالية والمهنية، والجماعات الدينية والقبلية وجماعات الضغط المختلفة وكل ما يمثل الطيف الاجتماعي السوري، هل سنلاحظ خطط عمل الوزارات  و نتائجها منسجمة مع احتياجات ومتطلبات المجتمع السوري في ظرفه الراهن، وهل ستكون العلاقة تفاعلية بين الطرفين ؟

المتغير التنظيمي: تعد أبعاد المتغير التنظيمي عاملا مؤثرا في اتخاذ القرار الإداري الحكومي وتتضمن نمط السلطة وآليات ممارستها، والمعلومات ومدى توافرها، وانسياب تدفقها، ومدى كفايتها، والهيكل التنظيمي ومدى مرونته، وتأثير العلاقات غير الرسمية في صناعة القرار، ومعايير الكفاءة والفاعلية ومدى الالتزام بها، والولاء للمنظمة العامة، هل ستعتمد الوزارات في تحقيق أهدافها على مشاركة طاقات المتخصصين والخبراء والفنيين ومراكز البحوث والدراسات والخبرات المهاجرة من الراغبين والقادرين على العمل؟

متغير الفساد الإداري: إن ظاهرة الفساد ظاهرة متعددة الجوانب، لا تظهر فقط في القطاع العام وإنما تبرز في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمالية وغيرها من المجالات، إلا أننا نشير هنا إلى الفساد في القطاع العام بصيغة سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مكاسب شخصية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أكثر من نصف قرن من الاستبداد المتوحش من ضمنها أربعة عشر عاماً من الحرب الدائرة في سوريا و على السوريين، رسخت حالة من الفساد الإداري والمالي والذي أدى إلى  تدمير ممنهج في جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، وهناك أسباب كثيرة لانتشار الفساد الحكومي، وأبرز هذه الأسباب غياب المحاسبة بمختلف أشكالها، وانطلاقاً من تبعية الإدارة العامة لنظام سياسي فوق المساءلة والمحاسبة، هل ستولي الحكومة الجديدة الأهمية الكافية لقضية المساءلة والمحاسبة من خلال تفعيل دور الرقابة الوقائي والعلاجي في آن واحد وضمن خطط متكاملة؟

المتغير الاقتصادي: وبعد تحديد رؤية الدولة حول هوية الاقتصاد في سوريا الجديدة، وماهي الخيارات المطروحة؟ كيف سيكون دور الدولة في النشاط الاقتصادي؟ وإذا كان التوجه نحو اقتصاد السوق الحر – على سبيل المثال – هل هناك خطة للتعامل مع الارتدادات الاجتماعية؟ لاسيما في ظل هذا الواقع المتراجع على الصعد كلها، وعلى وجه الخصوص الوضع المعاشي الهش للمواطن؟ ماهي الفلسفة الاقتصادية التي سوف تتبناها الدولة والتي ستشكل المرجعية للاستراتيجيات والسياسات الاقتصادية والمالية والنقدية في المرحلة المقبلة. بعد الإجابة على الأسئلة التي تتعلق بفلسفة الاقتصاد في المرحلة القادمة ووفق النماذج العالمية والمختبرة في حالات ما بعد النزاعات والحروب، يتم نقل الكرة إلى ملعب القادة الإداريين في الحكومة الجديدة وعلى رأسهم الوزير نفسه بوصفه القائد الإداري الأعلى في وزارته – وهذه هي نقطة التركيز في هذا المقال – ليباشروا إدارة “مشروع التعافي والتحول” من خلال تشخيص المشكلات القطاعية ضمن كل وزارة، وصناعة القرارات اللازمة، وابتكار الحلول، ورسم خارطة التحديات والمخاطر، واعتماد معيار الكفاءة والفاعلية.

 لاشك أن إعادة الإعمار و التعافي الاقتصادي في سوريا يتطلبان تعاوناً دولياً وعربياً ومحلياً، لكن تقع المسؤولية الأساسية في إدارة هذا التعافي على عاتق الإدارة الجديدة في سوريا وبالتحديد الحكومة التي تم تشكيلها مؤخراً، حيث ينبغي عليها أن تتعامل مع إدارة الانتقال والتحول وفق منهجية علمية واضحة وصارمة لا تقبل التجريب أو الارتجال، لأنها أمام تحديات كبيرة تتطلب امتلاك العقلية المرنة التي تستطيع التخطيط والتنظيم والتنفيذ و المراقبة، لاسيما في هذه المرحلة الحساسة حيث تعديل الاتجاه وإعادة رسم الطريق من جديد.

إن رفع كفاءة الجهاز الإداري للدولة وتطوير السياسات العامة المتعلقة بإدارة الموارد والقطاعات الاقتصادية المختلفة من خلال القيام بإصلاحات إدارية جذرية لا يتحقق إلا بتوافر متطلبات الإدارة وارتباطها بالسياسة، وذلك من خلال إعادة ابتكار الحكومة سياسياً من حيث الوسائل والأهداف، وتكون النتائج السياسية واضحة في الإصلاحات الإدارية، واتفق معظم الباحثون في حقل الإدارة على أن التنمية وإصلاح المنظومة الإدارية هما قضيتان سياسيتان أصلاً.

إذاً على الحكومة السورية الجديدة أن تبذل جهداً سياسياً وإدارياً واجتماعياً هادفاً، ومع وجود التحديات ونقاط الضعف، توجد هناك فرص واعدة ونقاط قوة بارزة على خارطة عمل الحكومة، ومن الواجب التوجه نحو الفرص واستثمار نقاط القوة والعمل بالتوازي على تقوية نقاط الضعف والتعامل مع التحديات وفق استراتيجيات تخطي ملائمة.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى