حرب و”شفاه حمراء”.. كيف تتحول صالونات التجميل إلى مساحة نجاة في سوريا؟

جولي بيطار

منذ سقوط النظام قبل أربعة أشهر، تشهد البلاد مرحلة انتقالية مليئة بالتناقضات: الانهيار يقابل الأمل، والركام يجاور الرغبة في الحياة. الشوارع ما زالت تحمل آثار الصراع، والناس يمضون وسط اللا يقين. لكن في زحمة هذا المشهد، تبرز أسئلة صغيرة لا تقل أهمية عن الأسئلة السياسية الكبرى، من بينها سؤال بسيط في ظاهره، لكنه شديد الرمزية: هل ما زالت النساء يذهبن إلى صالونات التجميل؟

قد يبدو السؤال ثانويًا، لكنه يحمل في داخله دلالات على محاولات الإنسان التمسك بالحياة حتى عندما تنهار من حوله. الجمال هنا ليس مجرد رفاهية أو ترف، بل هو وسيلة للبقاء النفسي، أداة مقاومة وسط الركام.

الصالونات كمساحات نفسية

في بيئة مليئة بالصراع والانهيار، يعيد العديد من الناس اكتشاف أهمية بعض الطقوس اليومية التي كانت قد تبدو مجرد رفاهيات. الذهاب إلى صالونات التجميل لم يعد فقط من أجل العناية بالمظهر، بل أصبح بالنسبة لكثير من النساء مساحة للتنفيس ولإيجاد شعور بالطمأنينة وسط الفوضى.

سيدة ريم، صاحبة صالون تجميل في حلب، تشرح لموقع تلفزيون سوريا تأثير الظروف الراهنة على عملها: “عدد الزبائن قلّ نسبيًا منذ أربعة أشهر لليوم، ولكن على الرغم من الظروف الصعبة، يأتي الزبائن أكثر للراحة النفسية. الصالون أصبح بالنسبة لهم ليس فقط مكانًا للجمال، بل مساحة للراحة لأن أثر الجمال على نفسيتنا مهم جدًا.”

وتضيف سيدة ريم أن الأوضاع الاقتصادية في الوقت الحالي جعلت من الصعب الاستمرار، حيث “المصروف أصبح أكبر من الوارد بسبب الأجرة المرتفعة وغياب الكهرباء، مما جعلنا نعتمد على الطاقة البديلة، وهو أمر مكلف”. ومع ذلك، تظل تجربة الزبائن في الصالون تجربة إيجابية من الناحية النفسية، حيث تصفها كثيرات بأنها “مكافأة لأنفسهن”.

مثير للاهتمام أن الأسعار لم تتغير بشكل كبير منذ سقوط النظام المخلوع، مما يعكس استمرارية الطلب على هذه الخدمات رغم الظروف الاقتصادية الصعبة.

الجمال كوسيلة للمقاومة

في الأوقات الصعبة، تصبح الطقوس اليومية أكثر من مجرد عادات روتينية بالنسبة لكثير من النساء، فإن الجمال هو شكل من أشكال المقاومة الداخلية ضد الضغوط والظروف القاسية. الجمال هنا ليس هروبًا من الواقع، بل هو طريقة لإعادة رسم شعور داخلي بالسيطرة والكرامة.

وفاء شعشعوع، معلمة في ريف دمشق وصاحبة مقهى، تشرح لموقع تلفزيون سوريا تجربتها مع الذهاب إلى الصالون: “الصالون بالنسبة لي ليس ترفًا. أذهب إليه كي أخرج من شعور الخوف والقلق. عندنا في الصالون نتحدث كثيرًا ونفضفض. عندما أذهب إلى هناك، لا أشعر بالذنب لأنني أعتني بنفسي. هذا ليس هروبًا، بل مقاومة”.

تضيف السيدة وفاء: “عندما أخرج من الصالون، أشعر أنني أفضل نفسيًا. يمكن أن يكون التنفيس، الخروج من المنزل، التغيير البسيط في الشكل منقذًا لنا، لأنه يرفع من معنوياتنا ويعيد لنا القوة. الجمال ليس هروبًا، بل هو مقاومة، ويجب أن نكون أقوى من الظروف الصعبة، نحن لا نقاوم فقط الخوف والحزن بل في أوقات كثيرة نكون سبب إنقاذ محيطنا، بالنسبة لي المرأة القوية الملهمة الجميلة هي طوق نجاة لعائلتها ومحيطها، لا يمكن أن تهمل المرأة نفسها وتنجح في حياتها.”
في حين ترى منى وهي طالبة جامعية أن الجمال هو مهرب من قباحة العالم. “أذهب إلى الصالون لأنسى الدمار والحروب، لا أفضل أن أفتح أحاديث سياسية هناك، أريد أن أخرج جميلة فقط ولا أفكر في شيء آخر، إنه ملاذ أكثر من كونه صالون تجميل”.

الأبعاد النفسية والبيولوجية للزينة كوسيلة مقاومة

أما من الناحية العلمية، فإن شهادة الاختصاصية النفسية المعتمدة في الولايات المتحدة الأميركية مها ك.الأحمد ، تفتح نافذة لفهم أعمق للصلة بين الجمال والصحة النفسية في أوقات الأزمات. السيدة مها تحمل شهادة الماجستير في علم النفس، وهي مختصة في معالجة الصدمات ولديها اهتمام خاص بحالات اللجوء والعنف والنزاعات. تشرح كيف أن الأوقات الصعبة، مثل الحروب والنزاعات، تؤثر بشكل عميق على الوعي الذاتي للأفراد وعلى كيفية تعاملهم مع أنفسهم في ظل الظروف القاسية.

وتقول: “في الأوقات الصعبة، مثل الحروب والأزمات، يتعرض الدماغ إلى ضغط نفسي هائل، وهذا يدفع الأشخاص بشكل طبيعي للبحث عن طرق لإعادة الشعور بالأمان والسيطرة. أحد الأساليب الشائعة لتحقيق ذلك هو اللجوء إلى طقوس الرعاية الذاتية مثل الذهاب إلى الصالونات أو العناية بالمظهر الخارجي”.

تشرح أيضًا الظاهرة النفسية المعروفة بـ “تأثير الحمامة” أو ما يُسمى بـ “استراتيجية السيطرة” التي يلجأ لها البشر في الأوقات العصيبة. تقول: “عندما يواجه الشخص ضغوطًا نفسية شديدة، يصبح من الضروري له إيجاد طرق تعيد له الشعور بالسيطرة على حياته. الجمال والمظهر الخارجي هنا لا يتعلقان فقط برغبة سطحية في التحسن، بل هما وسيلة لاستعادة جزء من التحكم في الذات وسط الفوضى.”

وتضيف: “الذهاب إلى الصالونات لا يعد مجرد عمل تجميلي بحت، بل هو فعل نفسي عميق. في أوقات الأزمات، يصبح الاهتمام بالمظهر الخارجي جزءًا من استراتيجية أكبر لإعادة النظام والقدرة على التكيف. الناس يقومون بذلك لأنهم يبحثون عن تجديد طاقتهم الداخلية، وهذا يساعدهم في استعادة شعورهم بالاستقرار.”

الزينة والمقاومة النفسية: تأثير الاهتمام بالمظهر على الصحة العقلية

من جانب آخر، تشير الاختصاصية النفسية إلى أن العناية بالمظهر يمكن أن تلعب دورًا حيويًا في عملية التعافي النفسي. تتابع قائلة: “إن العودة إلى العناية الذاتية، مثل تجميل الشعر أو الاهتمام بالبشرة، لا يرتبط فقط بإعادة تجميل الصورة الخارجية، بل هو مؤشر على أن الشخص يعيد بناء قدرته على التنظيم الذاتي. هذا يُعتبر علامة على بداية التعافي النفسي.”

“الأحمد” توضح أن المظاهر يمكن أن تكون بمنزلة مرآة لحالة الشخص النفسية، وتؤثر في الوقت ذاته على حالة الجسم والدماغ. “عندما نشعر بأننا نتحكم في مظهرنا، يعزز ذلك من شعورنا بالسلام الداخلي. في حالات الضغط النفسي، مثل الحروب أو الأزمات، يصبح الاهتمام بالمظهر الخارجي وسيلة للمحافظة على الصحة النفسية والعاطفية.”

وتكمل: “من الأبحاث النفسية، نعلم أن الأفراد الذين يشاركون في طقوس العناية الذاتية في أوقات الأزمات يميلون إلى التعامل مع الضغوط بشكل أفضل. هذا الفعل لا يُعتبر مجرد تصرف غير مجدي، بل هو أحد أبعاد عملية مقاومة الضغط النفسي.”

تأثير أحمر الشفاه (Lipstick Effect) في الأوقات الصعبة

تُعتبر ظاهرة “تأثير أحمر الشفاه” من أبرز الأمثلة التي تُظهر كيف أن الجمال يمكن أن يصبح وسيلة للبقاء النفسي في فترات الأزمات. نشأت هذه الظاهرة في الحرب العالمية الثانية عندما كان الاقتصاد في حالة انهيار شديد، وكانت الموارد شحيحة، لكن النساء واصلن شراء أحمر الشفاه، رغم قلة المال. فقد أظهرت الدراسات أن النساء كنّ مستعدات على الرغم من الظروف القاسية، أن يخصصن جزءًا من دخلهن لشراء مستحضرات تجميل، خصوصًا أحمر الشفاه، ليحافظن على شعورهن بالجمال والأنوثة.

هذه الظاهرة تحمل دلالة قوية: في أوقات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، قد تُصبح بعض الأشياء الصغيرة مثل أحمر الشفاه وسيلة لإعادة شعور بالتحكم والراحة النفسية. عندما يواجه الناس الفوضى، يبحثون عن طرق يشعرون فيها بأنهم قادرون على الحفاظ على جزء من هويتهم، فيحاولون أن يظلوا جميلين، ليس من أجل الآخرين، بل من أجل أنفسهم.

تربط السيدة مها هذه الظاهرة بمفهوم أوسع في مجال العلاج النفسي، إذ تشرح كيف أن العناية بالمظهر في الأوقات الصعبة تعد بمنزلة “استراتيجية للسيطرة” تعيد للأفراد شعورهم بالقوة الداخلية والقدرة على التكيف. ويظهر تأثير أحمر الشفاه كأداة لإضفاء بعض الاستقرار النفسي، وهو مشابه لتلك اللحظات التي تتوجه فيها النساء إلى صالونات التجميل، حيث تُعد العناية بالمظهر وسيلة للبقاء متوازنين عقليًا وسط الفوضى.

الصالونات في زمن “الأزمة”.. أداة للمجتمع

في حين تتغير الظروف الاقتصادية وتزداد التحديات، يظل تأثير الصالونات على حياة النساء قويًا، سواء من الناحية النفسية أو الاجتماعية. ومع تراجع المساحات الآمنة في المجتمع، تجد العديد من النساء في الصالونات مكانًا يشبه “المقدس”، حيث يمكنهن التواصل والحديث في جو من الراحة والأمان. يقول بعضهم إن هذه الصالونات تمثل ملاذًا في عالم مضطرب، حيث تتحول هذه المساحات إلى أكثر من مجرد أماكن تجميلية. فهي تتحول إلى ملاذات آمنة ومجتمعية، تقدم للنساء لحظات من السلام الداخلي.

في زمن التحولات الكبرى، قد تبدو بعض الطقوس مثل الذهاب إلى الصالون مسألة ثانوية، ولكنها في الحقيقة تعكس الحاجة البشرية إلى الحفاظ على الروتين والراحة النفسية في مواجهة التحديات. من خلال الشهادات التي قدمتها سيدة ريم، السيدة وفاء، والأخصائية النفسية مها، نرى أن الجمال في زمن الأزمات ليس مجرد ترف، بل وسيلة للبقاء النفسي والمجتمعي. الجمال هنا ليس هروبًا، بل هو مقاومة، هو فعل من أفعال البقاء في عالم يعصف به الركام.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى