
ينطلق كاتب هذه السطور من فكرة مفادها بأن الكتابة عن “الذات المناضلة”، في التجربة السياسية المغربية المعاصرة، لجيلَين من أجيال المعارضة الجذرية للأوضاع في البلاد بعد استقلال 1956، لم تبرز بالقدر الكافي، وفي جانب من هذا القدر سيولة مثيرة للأفهام وللاهتمام، إلا في تجربة ما عُرف تاريخياً بـ”الحركة الماركسية اللينينية”، التي برزت في البدايات الأولى للسبعينيّات، ولم يتواصل بروزها، في ارتباط مع المهام التي تبنّتها وفق منطلقات (ومآلات) “النظرية الثورية”، التي حرّكت وجدان شبابها الطامح، إلا لفترة لم تكن كافيةً ألبتّة لبناء وجودها وتعزيزه على أيّ نحو، أو لعلّه (تجاوزاً لأيّ تقليل محتمل) اقتصر على فئات هامشية لم يكن لها إلا الدور التكتيكي (الطليعي) في نشر خطابها الأيديولوجي التعميمي، والتعبير الحماسي عن الأماني الحُلمية الطامحة قصد إحداث التغيير الثوري في بنيات المجتمع المغربي من خلال “الحرب الشعبية الطويلة الأمد”، وتأسيس “الجمهورية الديمقراطية الشعبية”.
تمكّنت الأيديولوجيا الاتحادية من الارتباط فعلياً بالمقاومين القدماء وبطاقاتٍ فلاحية، وأقلّ من ذلك عمّالية
ويعني هذا أن الجيل السابق لهذه الحركة، وهو المنتسب انتساباً سياسياً وأيديولوجياً إلى جناحٍ من أجنحة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بزعامة الفقيه محمد البصري، ومَن كان معه، لم يترك خلفه، ولا لمن من المفترض أن يعنيهم أمره، إلا شذرات مُبتسَرة من سرديات لم تُعرف وتنتشر إلا في نطاق محدود من الصعب الانتباه إلى وجوده. ووجه المقارنة بين الجيلين، من منظورَي التمايز والاختلاف، رغم التداخل المفترض، كامنة في أن اليساريين كانوا شباباً متعلّمين في غالبيتهم، التي تكاد أن تكون مطلقة، خرج قائدُهم الأوَّل عن الطوق الحزبي، الذي احتضن انتسابهم التلقائي (في أواخر الستينيّات) لأطر العمل التقدّمي وأدواته، ولم يكن لأغلبهم، مع ذلك، أيّ تجارب فعلية في الحقول العملية تُسنِد قوّتهم واندفاعهم الشبابي المبكّر. أمّا حال الجيل الاتحادي، فلم يكن إلا على شيء قليل من التعليم، تشكّل في الغالب من الكهول ذوي التجارب الاجتماعية والسياسية المرتبطة بالمعارضة التقدّمية، وصراعاتها المختلفة مع السلطة المركزية منذ ما قبل التجربة الديمقراطية الأولى (1962) المجهضة بفعل حالة الاستثناء. وفي الوقت الذي امتدّ فيه اليسار الجديد، امتداداً عاطفياً وذاتياً، في أوساط الشباب المديني المنتمي إلى الفئات البرجوازية الصغرى، تمكّنت الأيديولوجيا الاتحادية من الارتباط فعلياً بالمقاومين القدماء وبطاقاتٍ فلاحية، وأقلّ من ذلك عمّالية، في مناطق الأطلس والريف، وبعض الحواضر والتجمّعات السكّانية الشعبية في هامش المدن الكبرى ونواحيها.
وفي هذه المقارنة الأوّلية العامّة مفارقة شديدة الرمزية، تعني (لمن يهتم بالموضوع) أننا لا نعرف شيئاً كثيراً عن تاريخ المعارضة المسلّحة التي خاضها الجيل الاتحادي، ولا (بصفة ذاتية خاصّة) ملامح وأوجه المعاناة، ولا ضروب القمع والترهيب التي سُلّطت على المكافحين، مثلما لا نعرف بصورة واضحة (لوجود التباسات سياسية وأيديولوجية كثيرة راجت مشافهةً) مستوى وطبيعة الوعي الذي تبلور في أتون تلك المعارضة بإزاء نظام الحكم الاستبدادي، وأساليب المقاومة المسلّحة، وطبيعة التنظيم الحزبي والتناقضات الذاتية والموضوعية الخاصّة به، أو ممّا هو أصلاً من الظروف المحيطة بالتكوين الخاصّ للحركة المناضلة في معترك الكفاح. أمّا المعرفة المتّصلة بالوعي الذاتي المتعلّق بالأهداف الشخصية، أو السياسية العامّة، أو بالأوهام المركّبة على الأحلام والتطلّعات الأيديولوجية، أو غيرها، المتعلّقة بالدين وبشعور الفردية الجريحة وعذاباتها، فلم يكن من الوارد أصلاً، بحكم القمع الذاتي للأنا الخاصّة، أن تتشكّل في بوح أو تُعرَض في قول، ولو في المجالس الآمنة.
لا يمكن أن نعثر على أيّ نصٍّ للجيل اليساري في المغرب كُتب ونشر خارج الهزيمة الجماعية
الواقع أن ذلك كلّه لم يُدَوّن في حينه (أو دُوِّن بالنيابة، أو بوازع القرابة، أو لدواعٍ أخرى) من المتأخّرين، فجاء على قدر فهمهم لذلك كلّه، وبحسب تأويلاتهم له على مسافة زمنية لها أثرها في التأويل. ويضاف إلى هذا، أن التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي لم يحتفظ لنا بأيّ أثر دالٍّ بالصيغ المعروفة في الكتابة والنشر والمُقدّرة في الدلالة (شهادة، سيرة ذاتية، مذكّرات، تسجيلات… إلخ) إلا على نحو جزئي، عُرفت بعض فصوله مباشرة، من طريق البوح رجاء المُصالحة، في فترة متأخّرة من خلال الشهادات التي قدّمها الضحايا، أو من ناب عن غيابهم الأبدي، في جلسات الاستماع العمومية (نظّمتها هيئة الإنصاف والمصالحة، في 2005). فالصمت إذاً هو الذي يؤرّخ بصوت جهير، إذا شئنا التعبير المفارق، للعذاب الإنساني ومأساته الفردية بين الجبال وفي القرى البعيدة وباللغة المقموعة (الأمازيغية في الغالب) غير المفهومة، إلا لمن بقي في قيد الحياة بعد مقتل الضحية.
أمّا المظهر الآخر للمفارقة المشار إليها فهو الذي يؤكّد (بصورة واضحة) أن الجيل اليساري أنتج من دون اتفاق مسبق، ولا إدراك استراتيجي لأهمية الكتابة أو لغيرها من أساليب التعبير، مُدوّنةً كبيرةً من النصوص المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية، فيها أكثر من الكفاية (معرفة العمل والتصرّف) المستحقّة، السارِدة لمختلف أشكال المعاناة في جميع ما كان للتجربة اليسارية، من زاوية فردية، في النضال والاعتقال والمحاكمة والمكابدات الذاتية في السجن، الذي سمّاه أحد المتأخّرين الذين كتبوا عن ذلك بالفرنسية بـ”السماء المربّعة”. وما لا يقال، أو يثار عادةً عند الحديث عن طبيعة تلك المدوّنة، أن الكتابة أصلاً، ومجالها هو النشر في كتب ورقية غالباً، كان من زاوية التأريخ لها في أعقاب الهزيمة التي أحاقت بالتجربة اليسارية الجديدة، من جرّاء القمع الشديد الذي سُلّط عليها منذ البداية، وكذا بسبب كثرة الأخطاء والنواقص ذات الطبيعة الذاتية التي ارتبطت بوجودها، بحكم طابعها السرّي المحكوم بالمركزية الشديدة، بالإضافة إلى مسلّماتها النظرية الإطلاقية ذات الطبيعة الثورية الحُلميّة الراغبة في القضاء على الاستبداد وشرعنة الجمهورية الشعبية الموعودة.
لا يمكن أن نعثر على أيّ نصٍّ لهذا الجيل اليساري كُتب ونشر خارج الهزيمة الجماعية، ولكن (وهذه مفارقة أخرى بحكم ذاتية الكتابة) لن نعثر عليه أيضاً في استقلالٍ عن المعاناة الذاتية الشخصية التي عاناها من وقعُوا في الأسر، وعُذّبوا في سبيل أهدافهم الواعية بالمصير، ومع هذا الواعية أيضاً، وبشكل حادّ تحت سلطة القهر النفسي والبدني والعقلي، بالمصير الفردي الخاصّ، الذي لم يعد يُشبه في طريقه الثوري المحجوز باقي المصائر الأخرى، لأن العلاقة مع الآخرين كفّت، بفعل أشجان الاعتقال والهزيمة، عن الارتواء برفاقيتها المُبجَّلة، وتحوّل الإخلال بالصمود عدوانيةً (سلوك) وإدانةً (موقف).
فالكتابة كانت من خلال الإحساس الفردي أيضاً بالفشل الذي أصيب به هذا المصير الفردي بالذات، وهو يغالب الحرمان والخصاص، كما أنه يتعلّق بالأمل، ويتوقّع لنفسه النجاة، مثلما كان مصحوباً بالخوف والرعب اليومي من جرّاء انقطاع الحياة في أول الطريق الذي كان ذاهباً في الحلم إلى ثورة ما. ولكن الذي لا يذهب أحد في تأويله إلى نهاية الاعتراف هو أن الكتابة هذه كُتبت مباشرة من باطن “السماء المربّعة”، أو لسبب أو علَّة أو موجبٍ، أرجأ الكاتب الفعل إلى فترة زمنية أخرى، لها ظروفها وشروطها العامّة، نفسية وعقلية، فإنه لم (ولا) يكتب إلا من خلال الأصداء التي خلّفتها الهزيمة في وجدانه، والأوضح من ذلك أنه يكتب تلك الأصداء بطريقة لا علاقة لها بالحقيقة أو بالكذب، كما أنها لا تتقيّد إلا بحاضر زمن الكتابة الذي يحوّلها بالضرورة صوراً مستعادةً تتوالى على الذهن بطريقة استيهامية. لقد تحرّرت الكتابة أخيراً من الوعاء الأيديولوجي النظري، الذي كان حاضناً للأوهام الفردية والجماعية في علاقة بالثورة المجهضة، ولم تعد تحرّض إلا على البطولة النرجسية المَصُوغة بالتراكيب اللغوية الأشد قوّةً على نفي الجماعية الرفاقية.
تحرّرت الكتابة أخيراً من الوعاء الأيديولوجي النظري، الذي كان حاضناً للأوهام الفردية والجماعية في علاقة بالثورة المجهضة
بالعودة إلى خطّ المقارنة الممكنة يمكن القول، تجاوزاً، إننا لا نجد أصلاً (على نحو كتابي منشور أو مخطوط) تلك المدوّنة الافتراضية من النصوص التي لم يدوّنها الجيل الاتحادي، رغم الاعتقاد الممكن بأن الأوضاع العامّة التي عاشها، والظروف الخاصّة التي خبرها (وهذه هي الأعنف والأقسى في مختلف مراحل القمع الذي سُلّط بشراسة على المعارضات المختلفة لنظام الحكم) لم تكن في المجمل، ولطبيعة السياسة القمعية المُنتهجة ضدّ المعارضين، تختلف كثيراً عن مثيلتها اليسارية، إلا في المستوى والشكل والاستجابة. وفي مقدورنا أن نجد شيئاً معبّراً عن ذلك، وفيه أكثر من قصّة بطولية لها رمزيتها الفدائية، في الحكايات الشفوية المتوارثة بين العائلات والحقوقيين، عن التضحيات الكبرى التي قاساها وقدّمها الجيل الاتحادي في معاركه المسلّحة ضدّ النظام القائم.
لا تحتمل هذه المقارنة أيّ خلاصة، إذ المفهوم أن الكتابة، أو الكلام (التعبير الشفوي)، عن تجارب الاعتقال السياسي هي بجميع المعاني الدالة على قدرتها التعبيرية، وأساساً من خلال الاسترجاع الذهني لمواقف الألم والمعاناة، من دون الحديث عن المفاهيم الخاصّة بالذاكرة والنسيان والمرض وسوى ذلك، إقرَارٌ بأن الذات في خَصَاصٍ إلى مبرّر شخصي يعادل التطهير (katharsis) يُطهّرها من هزيمتها المعنوية والسياسية والأيديولوجية معهما، فيكون لها في ذلك، خصوصاً من خلال التجارب المُستذكَرة (القمع، الاعتقال، التعذيب، الحرمان العام…)، التي تُستعاد صوراً لممارسات “بطولية”، عزاءً يراد به التباهي وطلب التمجيد، وفي كثير من النصوص، الفرادة المتوهّمة المزدهية بنرجسيتها الحارقة.
المصدر: العربي الجديد