هل يمتلك الشرع ما يقدّمه لإسرائيل؟

عمر قدور

كانت الغارات الإسرائيلية ليل الأربعاء على مطار حماة، وعلى مطار وقاعدة T4، هي الأعنف مؤخراً، وكما هو معلوم توغلت قوات إسرائيلية في اليوم نفسه في الريف الغربي لمحافظة درعا، واشتبك معها الأهالي، ما أدى إلى مقتل تسعة من الذين قاوموا القوات الإسرائيلية المعتدية. المقاومة الشعبية في درعا هي سابقة تُسجَّل لأول مرة على هذا النحو، أما الاعتداءات الإسرائيلية فهي متواصلة منذ سنوات، مع تغيّر في الإيقاع والأهداف، فقد كانت قبل سقوط الأسد تستهدف المواقع الإيرانية في سوريا، بينما راحت تستهدف بعد سقوطه مواقع عسكرية سورية أضعف من أن تكون مصدراً للتهديد.

الجديد أيضاً هو التوغلات الإسرائيلية التي تتجاوز خط الهدنة لعام 1974، من دون أن تكون هناك تهديدات منطلقة من أماكن التوغل، ومن دون الإفصاح عن طلبات إسرائيلية واضحة تتعدى الأقوال التقليدية عن وجود تهديدات لأمن إسرائيل. على هذا الصعيد، الجديد الذي برز في الأيام الأخيرة هي الأقوال الإسرائيلية الخاصة بالنفوذ التركي، تحديداً تلك المعارِضة لوجود قواعد عسكرية تركية في سوريا، ويُشاع أن الرئيس الانتقالي أحمد الشرع قد اتفق عليها مع نظيره التركي أردوغان.

من شبه المؤكد أن المصالح التركية والإسرائيلية كانت متوافقة وقت انطلقت عملية ردع العدوان التي انتهت بإسقاط الأسد، لأن الهدف المشترك آنذاك هو التخلص من الأسد وإنهاء النفوذ الإيراني في سوريا. ومن شبه المؤكد، والمعتاد في هذه الحالات، أن تكون أنقرة طامعة في وراثة النفوذ الإيراني كاملاً، وكذلك في وراثة النفوذ الروسي الذي لا يُعرف بعدُ مصيره التام، لكن في كل الأحوال من المستبعد أن يعود على النحو السابق. ولعل فرضية الصراع الإسرائيلي-التركي تستمد سبباً وجيهاً آخر، فيما لو نُفّذت التهديدات العسكرية الموجّه لطهران، والتي يؤذن مجملها بانهيار ما تبقى من النفوذ الإيراني الإقليمي واشتداد الصراع على وراثته.

بدورها، ردود فعل دمشق على الانتهاكات الإسرائيلية التي لا تتوقف هي في الحد الأدنى، وحتى لغة الاستنكار والتنديد في بيانات وزارة الخارجية كانت خافتة بالمقارنة مع بيانات عربية متضامنة صادرة عن وزارات للخارجية. ردّ الفعل لم يصل إلى ما هو (روتيني) في مثل هذه الأحوال، كأن تُقدَّم شكوى عاجلة ويُطالَب مجلس الأمن بالانعقاد للبت فيها. والتبرير المحتمل بأن إسرائيل لن تكترث بالشكوى، وبأي بيان شجبٍ يصدر عن المجلس فيما لو لم تستخدم واشنطن الفيتو، هذا التبرير لا يعفي السلطة من بذل جهودها في المضمار الدولي، مهما كانت الحصيلة المتوقّعة متدنية.

أصدرت وزارة الخارجية التركية يوم الخميس بياناً يدين العدوان الإسرائيلي، وبلهجة تُعدّ حادة بالمعايير الدبلوماسية. وكانت صحيفة “تركيا” المقرّبة من الحكومة قد نشرت أخباراً، قبل يوم من الهجوم الإسرائيلي، عن تعزيزات تركية ذاهبة إلى قاعدة T4 التي ستُعطى لتركيا، من أجل تعزيز جهودها في مكافحة داعش حسب الصحيفة. وزير الخارجية التركي استخدم أيضاً خطر داعش، إذ قال أن الهجمات الإسرائيلية “تعرقل جهود سوريا في مهاجمة داعش”، وفي تصريح لرويترز يوم الجمعة قال هاكان فيدان ما يُفهم منه أن بلاده لا تمانع في التوصل إلى “تفاهمات ما” بين الإدارة الجديدة في سوريا وإسرائيل.

داخلياً، يمكن القول أن أنصار السلطة لا يمانعون في أن تبرم اتفاقاً مع تل أبيب، ولو بوصفه شراً لا بدّ منه أمام غطرسة القوة الإسرائيلية. الفكرة الشائعة في أوساط هؤلاء أن القيادة الجديدة قادرة على عقد صفقة سلام واقعية، وعلى أن تل أبيب تريد السلام وتقبل به على القاعدة القديمة: الأرض مقابل السلام. أي أن الشرع، وفق هذا التصور، يملك أن يقدّم السلام لإسرائيل مقابل استعادة الجولان المحتل.

كثُرٌ من أنصار السلام حالياً كانوا إلى ما قبل شهور يسخرون من صمت الأسد على الاعتداءات الإسرائيلية، ويبنون عليها اتهامات العمالة، وفي المقابل كان أنصاره يردّون بأنه يقاوم إسرائيل باستهداف “عملائها” في الداخل، بل إن اعتداءاتها هي ردّ فعل على هزائم عملائها في الداخل. هناك بين موالي اليوم من يكرر أقوال موالي الأمس، وهناك قلّة تهزأ من عدم قدرتهم على مواجهة إسرائيل، بينما توالي الفصائل انتهاكاتها في الساحل. لكن رغم هذا الجدل السوري المتواصل، بمناسبة أو من دونها، تبقى فكرة السلام جديرة بقليل من التفكير.

لا يلحظ أنصار السلام الجدد أن قاعدة الأرض مقابل السلام قد انتهت إسرائيلياً منذ ربع قرن تقريباً، وما طرحته الحكومات الإسرائيلية خلال هذه الفترة هو: السلام مقابل السلام. إعادة الجولان ليست مطروحة على طاولة المفاوضات إذن، لكن الشروط الإسرائيلية لا تتوقف عند مقايضة السلام بالسلام، فهناك العديد من المطالب القديمة والمستجدة. من تلك القديمة أن إسرائيل تريد منطقة عازلة منزوعة السلاح، والمستجد في المطلب نفسه أنها الآن تطالب بها من جنوب دمشق حتى حدود اتفاقية الهدنة المعروفة. ومن المطالب المعلنة مؤخراً ابتعاد الحكم في دمشق عن أنقرة، بحيث لا تلعب تركيا دوراًَ “سُنّيّاً” مشابهاً لدور إيران “الشيعي”، وقد أعلنت تل أبيب مخاوفها من نفوذ تركي في لبنان.

في الواقع، لا يحتاج نباهةً القولُ إن الطرف الضعيف المُستضعف في الحرب لن يكون قادراً على الإتيان بسلام منصف أو مفيد، لأن ما يُشترط عليه في السلام مطابق لوزنه. الانهيار السوري أكبر من أن يترك وزناً في المفاوضات مع إسرائيل لأية سلطة تحكم البلد. وإذا كانت الحرب متعذّرة بسبب الضعف، فالسلام متعذّر تالياً للسبب نفسه. وهذه الحالة تستدعي الخروج بأقل قدر من الخسائر، من دون التورط في قرار مصيري حرباً أو سلماً.

قد يكون الاستحقاق الأكثر إلحاحاً حتى إشعار آخر هو سحب الفتيل الإسرائيلي من التداول الداخلي، بحيث لا يبقى مادة للمزايدة أو المناكفة بين السوريين، وبحيث لا تدخل إسرائيل من الشقوق التي بينهم. هذا يصحّ من حيث المبدأ على الخارج عموماً؛ الخارج الذي يقوى حضوره ونفوذه بقدر ما يتصدّع الداخل. إن واحداً من الأوجه المعتادة للحروب الداخلية هو أن يصبح لكل طرف من أطراف الصراع حلفاء وأعداء خارجيون، وأن يصبح لكل طرف سياسة وتطلعات خارجية مغايرة للآخر؛ هذا أيضاً واحد من معاني انهيار المشترَك الوطني.

التعافي من الانقسام هو أول خطوة تخطوها سوريا نحو أن تكون بلداً طبيعياً، إذ من دونه لن تكون هناك إمكانية للتعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار. وفي الأجل المنظور ستكون الأولوية لتشافي المجتمع السوري المنهك، لذا يفترض ألا تكون العسكرة مرة أخرى على حساب التنمية، ثم سبيلاً لتمزيق المجتمع وإفقاره بذريعة أولوية التصدي للعدو الخارجي؛ هذا وصفة أسدية نرى حتى اليوم عواقبها. قوة سوريا بذاتها، ولذاتها أولاً، هي الوصفة المضادة التي تجعلها أقوى تالياً في مواجهة الخارج؛ سلماً أو حرباً. على السلطة مسؤولية أكبر من المعتاد، بسبب الأحوال الاستثنائية وغياب العملية الديموقراطية، واستقواؤها بالداخل السوري (بلا تمييز أو إقصاء) لن يجعلها فوراً قوية أمام آلة الحرب الإسرائيلية، لكنه سينتشلها من الضعف الذي يمنعها حتى من الشكوى لمجلس الأمن.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى