
توهّم بعض المراقبين والسياسيين، أن اتفاقية وقف إطلاق النار التي وقّعها الإسرائيليون، ثمّ خرقوها 1400 مرّة، كانت مؤشّراً إلى انتهاء (أو تراجع) الحرب الوجودية التي يشنّها حكام إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني. وجاء الحصار الإسرائيلي الإجرامي المتواصل منذ 36 يوماً على أكثر من مليوني فلسطيني في غزّة، وبعد ذلك استئناف عمليات القصف الهمجية، والبدء بالعمليات العسكرية البرّية… جاء ليؤكّد أن وقف إطلاق النار كان مجرّد هدنة قصيرة، اضطر بنيامين نتنياهو أن يقبل بها مؤقّتاً، ثمّ عاد إلى أهداف حربه التي لم تتغيّر، وفي مقدّمتها تنفيذ جريمة التطهير العرقي لسكّان قطاع غزّة، بعد تنفيذ اقتلاع المقاومة (إن استطاع)، وحشر سكّان القطاع في معسكر اعتقال جماعي في بقعة صغيرة من القطاع تمهيداً لترحيلهم. ويتجاهل الناعقون في بعض وسائل الإعلام، الذين يطالبون المقاومة بالاستسلام، أنهم يدعون فعلياً إلى تسهيل مهمّة نتنياهو بتنفيذ التطهير العرقي في غزّة، والضمّ والتهويد في الضفة الغربية، تمهيداً أيضاً للتطهير العرقي فيها.
طول فترة الحرب الجارية أصاب كثيرين بالخدر والوهن، وأصاب بعض الناس بالإحباط واليأس، وغذّى التخاذل المخزي لحكومات غربية
الحرب التي تشنّها إسرائيل على الشعب الفلسطيني وجودية فعلاً، بدأت قبل 7 أكتوبر (2023) بسنوات طويلة، منذ جاء نتنياهو إلى الحكم، ودمّر كلّ فرصة للسلام وقيام دولة فلسطينية، بل عمل على تبديد وهم الحلّ الوسط مع الحركة الصهيونية. وهدفه واضح كالشمس، التي استخدمها عنواناً لكتابه “مكان تحت الشمس”، الذي صدر في 1994، وهو تصفية مكوّنات القضية الفلسطينية كلّها، من حقّ اللاجئين في العودة، إلى حقّ تقرير المصير، ومروراً بأبسط حقوق الإنسان الأساسية، وكذلك تصفية وجود الشعب الفلسطيني في أرض فلسطين من خلال عمليتَين، الاستيطان والسيطرة على الأرض بالتهويد، ومن ثمّ الضمّ والترحيل، لإلغاء الوجود الديمغرافي الفلسطيني، الذي يتفوّق على الوجود اليهودي رغم النكبة، ورغم وجود نصف الشعب الفلسطيني لاجئين مهجّرين في الخارج. ومعركة نتنياهو وأتباعه تنتشر (كما يرى الجميع) على امتداد مساحات واسعة في المنطقة وخارجها، من احتلال أراضي سورية ولبنان، إلى الهجوم على اليمن وإيران، إلى التآمر على مصر والأردن، ومحاولة الهيمنة اقتصادياً وعسكرياً واستخبارياً وسياسياً على المنطقة بكاملها، عبر التطبيع المشين مع دول عربية، الذي يستخدم أحدَ أدواتِ تصفية القضية الفلسطينية.
الحرب على الوجود الفلسطيني حرب لتحقيق الحلم الصهيوني المسيحاني التلمودي، ولإزالة العقبة الرئيسية الكأداء في وجه السيطرة الصهيونية على المنطقة. وما من شيء يحرّك الحقد العدواني ضدّ الشعب الفلسطيني مثل شعور حكّام إسرائيل بأن الفلسطينيين كشفوا هشاشة مناعة بنيانهم، وقابليتهم للفشل، مثلما عرّوا الوهم العالمي بأن إسرائيل هي الضحية في الصراع الدائر، بل هدّدوا باحتكار دور الضحية الذي صنعته إسرائيل لنفسها. ولذلك كلّه رأينا حجم الوحشية غير المسبوقة في جرائم الإبادة الجماعية، والعقوبات الجماعية إلى حدّ التجويع، وجرائم الترحيل والتطهير العرقي بعد “7 أكتوبر”. ولا يوجد في التاريخ البشري الحديث نموذج مماثل للوحشية التي ارتكبها جيش رسمي، كما جرى في قطاع غزّة، وكما يجري في مخيّمات الضفة الغربية. ويكفي هنا أن نذكر رقماً واحداً، أن 10% من سكّان قطاع غزّة أصبحوا شهداء أو جرحى أو أسرى، ولو طبّق هذا الرقم على الولايات المتحدة، بالنسبة والتناسب، لكان عدد الضحايا أكثر من 33 مليون أميركي في 16 شهراً. وبالتأكيد، يفوق عدد شهداء قطاع غزّة بالنسبة والتناسب عدد القتلى الذين خسرتهم الولايات المتحدة في جميع حروبها منذ استقلالها.
السؤال المركزي يبقى: ما الذي يجب عمله لمواجهة هذه الحرب الوجودية، التي تشنّها إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني، مهدِّدةً حياة كلّ فرد فيه، ومهدّدةً وجوده المستقبلي كلّه، شعباً يسعى للحرية وتقرير المصير؟… ولا بد هنا من الاعتراف بأن طول فترة الحرب الجارية أصاب كثيرين بالخدر والوهن، وأصاب بعض الناس بالإحباط واليأس، وغذّى التخاذل المخزي لحكومات غربية، تنكّرت لادّعاءاتها كلّها باحترام القانون الدولي وحقوق الإنسان، ذلك الشعور بالاحباط، كما ساهم في تعزيز ضعف ردّات الفعل العربية والإسلامية الرسمية. بالإضافة إلى تقاعس المنظومة الرسمية الفلسطينية عن القيام بواجباتها في مواجهة حرب الإبادة، بما في ذلك عدم تنفيذها إعلان بكّين للمصالحة الوطنية.
الحربُ على الوجود الفلسطيني حربٌ لتحقيق الحلم الصهيوني المسيحاني ولإزالة العقبة الكأداء في وجه السيطرة الصهيونية
يجب أن يشكّل تجديد العدوان العسكري البشع على غزّة، الذي يقتل ويشوّه مائة طفل فلسطيني يومياً، بحسب تقرير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، فرصةً لنفض غبار اليأس والتقاعس والسلبية. وذلك يعني أوسع استنهاض لحملات الدعم والتضامن مع الشعب الفلسطيني على مستوى جميع الشعوب العربية والإسلامية، وتعظيم التظاهرات الشعبية والضغوط المطالبة بموقف عربي إسلامي رسمي، سريع وحازم، لكسر الحصار الإجرامي المفروض على سكّان قطاع غزّة، ولجم العدوان الوحشي بالقصف والدمار، بما في ذلك تشكيل قافلة إنسانية تضمّ ممثلين لـ56 دولة عربية وإسلامية لكسر الحصار، وإجهاض مخطّط ترحيل سكّان قطاع غزّة إلى معسكر اعتقال، تمهيداً لتنفيذ التطهير العرقي. وهو يتطلّب استنهاض حملة التضامن العالمي بقوّتها كلّها، وإخراجها من حالة الرتابة في أسرع وقت.
لقد أثبتت الأحداث أن موقفاً جماعياً حاسماً وواضحاً يمكن أن يكون فعّالاً، وذلك ما حدث عندما اضطر الرئيس الأميركي، ترامب، إلى التراجع عن دعوته للتطهير العرقي أمام الرفض الدولي والعربي الشامل. اليوم، يواجه الشعب الفلسطيني خطراً وجودياً أكبر، ولذلك يجب الضغط بكلّ قوّة ممكنة لردّة فعل تضمن لجم سلوك نتنياهو، الذي يعاني أيضاً ضعفاً ناجماً عن التمزّق الداخلي. ومن ناحية أخرى، فإن كلّ فلسطيني وفلسطينية أيّاً كان مكان وجوده، مطالب اليوم بإلقاء قدراته وثقله لدعم صمود الشعب الفلسطيني في أرض وطنه وإسناد نضاله، لأن المهدّد هو مستقبل الفلسطينيين كلّهم، حيثما كانوا، ولن يغفر التاريخ لكلّ من يتقاعس عن القيام بواجبه. ولن يرحم التاريخ كذلك، أيّ قوة سياسية تتنكر لواجباتها، وتتقاعس عن الضغط بثقلها كلّه لبناء قيادة وطنية فلسطينية موحّدة على استراتيجية كفاحية للتصدّي لمؤامرتَي التهجير والضم والتهويد، بعد أن تبخّرت أوهام الماضي.
هذه لحظة الحقيقة والاختيار التي يجب أن تؤكّد استحالة كسر إرادة الشعب الفلسطيني ونضاله وصموده.
المصدر: العربي الجديد