يُعد الاحتجاز أحد أقسى الإجراءات التي يمكن أن تفرضها الدولة قانوناً على إنسان يخضع لولايتها القضائية، ويتطلب هذا الانتهاك لحرية الشخص أعلى معايير التبرير، ويجب إيجاد مبرّر له في جميع مراحل إجراءات المحاكمة. تم القبض على علاء م. في 20 حزيران/ يونيو، 2021. وبعد سبعة أشهر، بدأت محاكمته في المحكمة الإقليمية العليا في فرانكفورت بألمانيا، وبقي رهن الحجز الاحتياطي قيد المحاكمة حتى الآن.
وحتى 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يكون قد مضى على محاكمة علاء م. 631 يوماً تقويمياً، ولا يزال من غير المؤكد متى سيصدر الحكم. وعلى سبيل المقارنة، فقد أُدين أنور ر.، أول مسؤول حكومي سوري يَمثُل للمحاكمة، في كوبلنتس بعد 631 يوماً تقويمياً (سنة واحدة و8 أشهر و22 يوماً) بعد اليوم الأول للمحاكمة، وأُدين إياد أ.، المتهم الثاني معه في القضية، بعد 308 أيام (10 أشهر ويومان). ولذلك، فإننا عند نقطة انعطاف، حيث تتجاوز الآن مدة محاكمة علاء م. مدة محاكمة كوبلنتس. هل يوجد ما يبرر احتجاز المتّهم لفترات طويلة؟، وما هي الحقوق التي قد يصرّ عليها الناجون والضحايا في انتظارهم الطويل لتحقيق العدالة؟
الحق في محاكمة سريعة وعادلة
لا يكون الاعتقال والاحتجاز مبرَّرَين إلا عندما يكون هناك خطر الفرار، أو خطر عرقلة إجراءات المحاكمة، أو خطر تكرار الجرائم، أو عندما تكون الجرائم المرتكبة بالغة الخطورة. وعلى الرغم من أن الحجز الاحتياطي هو تنفيذ لحكم مُحتمل بالسجن، إلا أنه ليس عقوبة متوقعة، وينطبق افتراض البراءة حتى تثبت الإدانة.
وللحدّ من أثر الاحتجاز، يحقّ للمتهم الحصول على محاكمة سريعة. وكما هو مكفول في العديد من معاهدات حقوق الإنسان، يجب على المحاكم الفصل في القضية دون تأخير غير مبرَّر، وهو ما يفسَّر عادة على أنه الفصل في القضية في غضون فترة زمنية معقولة.
تفسير “الفترة الزمنية المعقولة”
“التأخير غير المبرّر”، و”في غضون فترة زمنية معقولة” يخضعان للتفسير والتأويل، وقد وضعت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان معياراً لما هو معقول في أواخر الستينات من القرن الماضي، مع أخذ العوامل التالية في الاعتبار:
1- تعقيد القضية.
2- سلوك مقدّم الطلب.
1- سلوك السلطات الإدارية والقضائية.
2- مصالح مقدّم الطلب الموجودة على المحك.
في المحاكمات الجنائية الدولية، تم تطبيق هذه المعايير على نطاق واسع، ولم يخلُ الأمر من انتقادات، فقد أدى تعقيد القضية، والبعد الدولي، والعقبات التي تعترض التحقيق في مناطق (ما بعد) النزاع، وخطورة الاتهامات، إلى رفض طلبات وقف إجراءات المحاكمة، كما اعتبرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان محاكمات امتدت لأربع وسبع سنوات، في قضايا معقّدة انطوت على قضايا قانونية جديدة وعنصر دولي، على أنها استمرت لفترة زمنية معقولة.
وإن الدول الأطراف في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان مُلزَمة أيضاً بهذه المعايير، ومن ثم يتعيّن على المحاكم المحلية أن تلتزم بضماناتها وتُطبّقها. في ألمانيا، يتم ضمان الحق في محاكمة عادلة وسريعة بموجب المادتين 5 و6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والمادة 199 بالاقتران مع المادة 198 من القانون الدستوري للمحاكم الألمانية. وقد أدت العديد من القرارات والأحكام الصادرة عن محكمة العدل الاتحادية الألمانية، إلى تحسين تفسير هذه الأحكام. على سبيل المثال، ارتأت أن عدم نشاط المدّعي العام لمدة عشرة أشهر أدى إلى خفض عقوبة حَدَث بمقدار شهر واحد. وفي حكم صدر مؤخراً يتعلق بتقديم تعويض عن قضية مدنية استغرقت وقتاً طويلاً، حدّدت المحكمة عتبة عالية بحجة أن سلوك المحكمة يجب أن يكون مبرراً، لكن الشخص الذي يسعى إلى العدالة لا يحق له الحصول على الدعم الإجرائي الأمثل، أو أن الدولة تتحمل المسؤولية عن أنشطة الخبراء. وتساعد هذه المحاكماتُ الآنفة الذّكر وغيرُها من المحاكمات المحلية – التي تَعيَّنَ على محكمة العدل الاتحادية أن تصدر فيها أحكامًا قضائيةً بشأن مدة المحاكمات الجنائية – في قضايا الولاية القضائية العالمية مثل القضية المرفوعة ضد علاء م.، ولكنها لا تُقدّم الكثير من التوجيه والإرشاد لتأويلها والاجتهاد فيها.
استخلاص توازن مرحلي
بالنظر إلى المعايير التي وضعتها المحاكم الدولية والمعيار المعمول به الذي وضعته محكمة العدل الاتحادية الألمانية، فإن محاكمة علاء م. تحتلّ موقفاً فريداً بين نظامي العدالة هذين. حيث لا يوجد توافق مباشر لمعايير المحاكم الجنائية الدولية، ولا المحاكمات الجنائية المحلية البحتة في ألمانيا أو الدول الأطراف في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. وهذا جانب متأصّل في القضايا المرفوعة تحت بند الولاية القضائية العالمية. ولكن يجعل من الصعب تقييم ما إذا كانت مدة المحاكمة المرفوعة بموجب الولاية القضائية العالمية معقولة.
وكما أظهرت دراسة صدرت مؤخراً عن المركز السوري للعدالة والمساءلة حول المحاكمات الجنائية في السياق السوري، فإن معظم الإدانات خلال السنوات الماضية كانت مبنيّة على تهم الإرهاب. وفي المتوسط، كان يتم التوصل إلى الإدانة النهائية بعد 18 شهراً من تقديم لائحة الاتهام؛ غير أن الحجز قيد المحاكمة أدى إلى زيادة المدة بشكل ملحوظ إلى أكثر من ثلاث سنوات في بعض الأحيان (التقرير، الصفحة 5). كما أدت القضايا المستندة إلى تهم تراكمية، أي الإرهاب والجرائم الدولية الأساسية، إلى زيادة المدة. وتشير البيانات الواردة من ألمانيا إلى أن متوسط المدة من تاريخ الاحتجاز إلى صدور القرار النهائي كان 24 شهراً مقارنة بمدة 18 شهراً لتهم الإرهاب وحدها (التقرير، الصفحة 12). هناك بيانات محدودة للغاية حول الجرائم الدولية الأساسية وحدها.
وفي كوبلنتس، اتُّهم أنور ر. وإياد أ. بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، أي التعذيب والحرمان الشديد من الحرية، وإن علاء م. متّهم أيضاً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية؛ بسبب تهم متعددة تتعلق بالتعذيب والتعقيم القسري والقتل. وهناك حالة أخرى مماثلة هي حالة طه ال.-ج الذي أُدين بتهم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. وتستند جميع القضايا بشكل كامل إلى الجرائم الدولية الأساسية. حيث تمّت إدانة طه ال-ج. بعد 650 يوماً تقويمياً (سنة واحدة وتسعة أشهر) من اليوم الأول للمحاكمة. هذه القضايا الثلاث هي الأكثر قابلية للمقارنة لأنها تتعلق جميعها بقضايا القانون الجنائي الدولي وعلى نفس القدر من التعقيد وحدثت في ظل نفس الظروف المؤسسية. ويبقى السؤال برسم الإجابة: لماذا تتجاوز مدة محاكمة علاء م.، التي تم فيها الاستماع إلى 25 شاهداً حتى الآن، من بينهم خبراء وضباط شرطة والمدّعون الثلاثة، محاكمة كوبلنتس؟ وفي كوبلنتس، تم الاستماع إلى متّهمَين اثنين و90 شاهداً، من بينهم 23 مدعياً.
وتجدر الإشارة إلى أنه عند النظر في مدة إجراءات المحاكمة، يجب قياسها من تاريخ إلقاء القبض وحتى صدور الحكم النهائي، بما في ذلك الوقت الذي يستغرقه استئناف الحكم. حيث أصبح الحكم الصادر على طه ال.-ج قاطعاً بعد مرور عام على صدور الحكم الأول. كما استغرق استئناف الحكم في قضية إياد أ. سنة واحدة. ولا يزال استئناف الحكم في قضية أنور ر. قيد النظر وذلك بعد عامين من إدانته. وإن محاكمة علاء م.، حسب النتيجة، لن تنتهي على الأرجح عند المحكمة الابتدائية، ومن ثم، فلا بد من إعادة تقييم الحق في محاكمة سريعة بشكل مستمر.
حق من؟
في أعقاب النتائج التي تم التوصل إليها من أكثر من 250 محاكمة جنائية متعلقة بسوريا، أوصى المركز السوري للعدالة والمساءلة أيضاً بإتاحة المزيد من الموارد للسلطات القضائية الوطنية لأن هذا يقلل من طول إجراءات المحاكمة (التقرير، الصفحة 1). وإن العامل الثاني الذي يسرّع من وتيرة الإجراءات هو وجود وحدات جرائم حرب تعمل بكفاءة أكبر بسبب خبرتها في قضايا دولية معقدة (التقرير، الصفحة 13). كما تستفيد المحاكمات الجنائية في الدول التي تُجري تحقيقات هيكلية من الإجراءات والخبرات المنهجية. ومن شأن هذه التحسينات أن تقلل من حالات التأخير لصالح جميع الأطراف المعنيّة.
إن حالات التأخير الكبيرة لا تنتهك حقوق المتّهمين فحسب، وإنما تُقوّض أيضاً مصداقية العملية. وتثير الإجراءات التي تستمر لعدة سنوات أيضاً مخاوف بشأن نجاعة العدالة الدولية والمبادئ القضائية المعمول بها. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن حالات التأخير الكبيرة قد تؤدي إلى الإضرار بسمعة المحاكم من منظور يتمحور حول الضحايا، ويقلّل من قيمة الأثر الإيجابي الذي قد تُحدثه هذه المحاكمات على الضحايا ومجتمعاتهم. وإن الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري تعترف بالحق في معرفة الحقيقة. غير أن المحاكمة التي تستغرق فترة طويلة تحجب هذه الحقيقة عن الضحايا وأقاربهم، وليس فقط في القضايا المتعلقة بحالات الاختفاء. وبالتالي، فإن المحاكمة السريعة والعادلة لا تُعد حقاً من حقوق الإنسان للمتهمين فحسب، بل إنها تصبّ أيضاً في مصلحة الضحايا والعدالة الدولية على نطاق أوسع.
________________________________
للمزيد من المعلومات أو لتقديم ردود الأفعال والآراء، يرجى إدراج تعليقك في قسم التعليقات أدناه، أو التواصل مع المركز السوري للعدالة والمساءلة على info@syriaaccountability.org. كما يمكنكم متابعتنا على فايسبوك و تويتر. اشترك في نشرتنا الأسبوعية ليصلك تحديثات عن عمل المركز.
المصدر: المركز السوري للعدالة والمساءلة
قراءة قانونية حول أحقية احتجاز المتهمين بقضايا وفق الولاية القضائية ، وهل تعتبر انتهاك لحرية الشخص تتطلب التبرير ، إن التأخير الكبير تُقوّض مصداقية العملية. وتثير الإجراءات التي تستمر لعدة سنوات مخاوف بشأن نجاعة العدالة الدولية والمبادئ القضائية المعمول بها .