
كانت زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو لافتة من حيث الملفات التي تمت مناقشتها، لاسيما مع اقترانها بتسريبات مهمة تتعلق بملف الجنوب السوري، ومن بينها رغبة دمشق في عودة القوات الروسية إلى نقاط تمركزها السابقة في الجنوب، ما يعني أن المنطقة الجنوبية أصبحت بوابة إعادة ترتيب النفوذ الدولي والإقليمي.
وأجرى الشرع، يوم الأربعاء 15 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، زيارة رسمية إلى موسكو على رأس وفد سوري رفيع المستوى، هي الأولى من نوعها منذ سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد. وأكد الشرع خلال اللقاء حرص سوريا على إعادة تعريف وضبط علاقاتها مع روسيا، معربًا عن احترام بلاده لكل الاتفاقيات السابقة والحالية بين الجانبين. وأضاف أن الجسور المادية والتعاون المستمر مع روسيا يمثلان أولوية، وأن العمل سيستمر لإطلاق العلاقات الشاملة بين البلدين في المستقبل.
من جهته، شدد الرئيس بوتين على الطبيعة التاريخية والخاصة للعلاقات بين موسكو ودمشق، مؤكدًا أن هدف روسيا الدائم هو خدمة مصلحة الشعب السوري وليس المصالح السياسية الضيقة.
وأعرب بوتين عن استعداد بلاده الكامل لإنجاز المشاريع المشتركة مع سوريا وإجراء مشاورات منتظمة عبر قنوات الخارجية، معتبرًا أن انتخابات مجلس الشعب في سوريا تشكل “نجاحًا كبيرًا” يعزز الروابط بين القوى السياسية.
تسريبات
وسبق أن قالت صحيفة “كوميرسانت” الروسية إنها حصلت على معلومات تشير إلى أن السلطات السورية تبدي “اهتمامًا” باستئناف دوريات الشرطة العسكرية الروسية في محافظات الجنوب السوري على غرار ما كان الوضع عليه في المرحلة ما قبل إسقاط النظام.
ونقلت عن مصدر خاص شارك في لقاء وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، مع الجالية السورية أثناء زيارته إلى موسكو في نهاية يوليو/ تموز الماضي، أن مثل هذه الخطوة من وجهة نظر الحكومة السورية “قد تقلص العمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل في الجنوب السوري بذريعة إقامة منطقة عازلة وحماية الدروز في سوريا”.
ومن جانب آخر، نقلت الصحيفة عن مصدر إسرائيلي للصحيفة أن موقف تل أبيب من عودة الدوريات الروسية إلى الجنوب السوري يعتمد على عدد من العوامل، قائلًا إن “من بينها الاتفاقات بين روسيا وإسرائيل، والموقف الذي ستتبناه روسيا في حال إبرام اتفاقية مع الحكومة الجديدة (بشأن استئناف الدوريات)”.
هذه الرواية، وإن كانت تُعد ضمن التسريبات الروسية السابقة لزيارة الشرع إلى موسكو، قد يؤيدها ما كشفته وكالة “رويترز” نقلًا عن مصادر سورية أن الوفد السوري الذي وصل إلى روسيا، سعى للحصول على ضمانات من موسكو بعدم تسليح فلول نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد.
وقالت المصادر إن الوفد السوري طلب من موسكو مساعدة دمشق في إعادة بناء الجيش السوري الجديد، كما طرح الرئيس السوري أحمد الشرع على نظيره الروسي فلاديمير بوتين فكرة إعادة نشر الشرطة العسكرية الروسية بهدف منع خروقات جديدة مع الجيش الإسرائيلي.
ترتيب ملف الجنوب بالاستعانة بموسكو
يرى المحلل السياسي درويش خليفة أن الجنوب السوري أصبح بوابة لإعادة ترتيب النفوذ الدولي والإقليمي، واضعًا زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو ضمن هذا السياق، الذي يعزز محاولات ملء الفراغ في الجنوب تلافيًا لأي تصعيد أو تمدد إسرائيلي مقترب.
ويوضح خلال حديث لـ”ألترا سوريا” أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سبق وأظهر لامبالاة كبيرة أمام الضغوطات الأميركية لسحب جنوده من الأراضي السورية التي تمدد إليها عقب سقوط النظام، مؤكدًا أنه من الواضح أن نتنياهو لن يلتزم بأي تفاهمات تتعلق بسحب قواته من الجنوب.
ويلاحظ خليفة وجود رغبة لدى تل أبيب لدخول القوات الروسية إلى الجنوب السوري كقوات فصل، خاصة مع تلاشي النفوذ الإيراني في سوريا ما يجعل من عودة الروس إلى المنطقة تشكل عاملًا مطمئنًا للإسرائيليين، على حساب السيادة السورية.
وحول زيارة الرئيس السوري إلى موسكو، يلفت خليفة إلى أنها جاءت بدوافع سورية لا بدوافع روسية، مؤكدًا أن الانفتاح على موسكو سيصب في صالح السوريين كون روسيا دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن وبالتالي، يمكن أن يكون لها دور كبير في رفع العقوبات عن شخصيات ضمن السلطة الحالية بسبب امتلاكها حق الفيتو في مجلس الأمن.
وعلى العموم، يرى خليفة أن روسيا لا تزال مهمة بالنسبة لسوريا، مع ضرورة إعادة ترتيب الملفات والاتفاقيات، وفي المقابل تشكل سوريا موطئ قدم مهم لموسكو للانفتاح على دول المنطقة وتثبيت نفوذها في الشرق الأوسط.
قراءة مختلفة.. لا دور لموسكو
الكاتب السياسي أحمد مظهر سعدو لا يتفق مع قراءة خليفة حول الدور الروسي المرتقب لموسكو في الجنوب، ويؤكد خلال حديث لـ”ألترا سوريا” أنه ليس مقتنعًا بوجود أي دور لموسكو في ترتيب ملف الجنوب السوري، بل لن يتعدى الأمر سوى تقديم دعم روسي معنوي أمام أصدقاء بوتين الإسرائيليين، بينما يبقى هذا الملف بيد واشنطن وتل أبيب اللتين لن تسمحا بأي أدوار أخرى.
ومن هذا المنطلق، يضع سعدو زيارة الشرع إلى موسكو ضمن باب فتح العلاقة على مصراعيها مع كل دول العالم عبر مصالح سوريا أولًا، وضمن تبادل المصالح ليس إلا، وليس من أجل ترتيب ملف الجنوب السوري.
ومع أن سعدو لا يستبعد فكرة ربط الزيارة بما أعلنته السلطة السورية سابقًا عن الاتفاقية مع الروس في أثناء عملية ردع العدوان، إلا أنه يرى أن الزيارة كانت ستتم في كل الأحوال.
وحول الاتفاقيات والقواعد الروسية في سوريا، يوضح سعدو أن اللجان المشكلة من قبل الطرفين ستقوم بمراجعة كل هذه الاتفاقات ولن تبقى أي اتفاقية على حالها أبدًا، مرجحًا في نفس الوقت، بقاء القواعد العسكرية الروسية في الساحل، لكن وفق أساس السيادة السورية وعدم التدخل بالشأن الداخلي السوري، مع إمكانية حدوث مقايضات على بقائها.
عودة روسيا وتوازن النفوذ الإقليمي
بما أن تركيا لا تزال تحتفظ بنفوذ كبير في الشمال السوري، فإن تل أبيب تنظر بعين الريبة إلى الوجود التركي ومصالح أنقرة في سوريا مع رفضها القاطع لأي تمدد لهذا النفوذ نحو المناطق الداخلية أو الجنوبية، ما يجعلها تحتاج إلى موسكو لإحداث توازن في النفوذ.
وتعليقًا على هذه الفكرة، يرى خليفة أن وجود روسيا في الجنوب والغرب من البلاد، ربما يشكل عامل توازن في القوى ذات النفوذ في سوريا، ما يعيدنا إلى المربع الأول والترتيبات السابقة، مع احتمالية أن نشهد مسارًا جديدًا على حساب المسار الأممي الذي يطالب بتعديل القرار الأممي 2254، تُكرس فيه روسيا وتركيا مع طرف آخر قد يكون تل أبيب، محورًا جديدًا، يشابه مسار أستانة السابق بهدف إعادة ترتيب الملفات الأمنية والعسكرية في سوريا.
وبما أن سوريا كانت سابقًا آخر القلاع الروسية في الشرق الأوسط، يلاحظ خليفة الاهتمام الروسي الكبير بعودة تثبيت النقاط العسكرية السابقة التي كانت قبيل سقوط النظام جنوبي البلاد، ويضع خليفة تسريبات الصحف الروسية ضمن هذا السياق الداعم لإعادة النفوذ الروسي مجددًا.
بينما يستبعد أحمد مظهر سعدو صحة التسريبات الروسية حول تثبيت القوات في الجنوب، مؤكدًا أنه لا يعتقد أن الحكومة السورية ستدفع بهذا الاتجاه فهو خطر جدًا فيما لو سمحت لدوريات روسية بالتمركز في الجنوب أو سوى الجنوب.
وكانت دراسة صادرة عن مركز جسور للدراسات أظهرت أن عدد نقاط القوات الروسية في الجنوب السوري في العام 2023 وصلت إلى 9 مواقع، وكانت آخر نقطة مراقبة تموضعت فيها القوات الروسية فوق موقع “تل أحمر” فوق هضبة الجولان بمحاذاة خط “برافو” الذي يحدد الضفة الشرقية لمنطقة فصل القوات بين الجيشين العربي السوري والإسرائيلي. وجرى التموضع في تشرين الأول/أكتوبر 2024، قبل أيام من سقوط النظام البائد.
وبعد سقوط النظام فورًا، بدأت روسيا بسحب قواتها من الجنوب السوري وكامل المحافظات السورية التي كان يديرها النظام الأسدي، باستثناء قاعدتي حميميم وطرطوس غربي البلاد.
المصدر: ألترا سوريا