بداية:رايموند هينبوش باحث اسكتلندي متخصص في الشأن السوري، تابع دراسة سوريا عبر عقود، والكتاب يدرس الحالة السياسية والمجتمعية عموما لسوريا في العصر الحديث وينتهي بحثه في أواخر الثمانينات من القرن العشرين، رغم أن الكتاب مترجم حديثا 2014. والمترجم والمراجع ناشطين سياسيين وباحثين سوريين مهتمين بشأن الثورة السورية.
اولا. يؤسس الكتاب لقراءة الواقع السوري في مرحلة ما بعد الخلافة العثمانية، وتقسيم بلاد الشام بين الحليفين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى فرنسا وانكلترا، سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين وشرق الأردن والعراق تحت الانتداب الانكليزي، طبعا بعد تحويل الكل الى دول ووضع حكومات محلية لها تابعة بالمباشر للمستعمرين فرنسا وانكلترا.
ثانيا. كان لكل دولة طريقة في إدارة البلاد المستعمرة، في سورية عمل الفرنسيون على القوى السياسية والمجتمعية المدينية من إقطاعيين وتجار ورجال سلك الدولة العثمانية من مدنيين وجيش ممن بقي في سوريا ليكونوا نواة للدولة السورية الوليدة، وعمل الفرنسيين على أحياء التنوع المجتمعي السوري الديني والطائفي والاثني، فخلقوا مجموعات عسكرية من الأقليات المجتمعية؛ مثل الكرد في الشمال السوري وكذلك العلويون في الساحل، وعملوا على فكرة تقسيم سوريا لمجموعة من الدول لمزيد من الاضعاف وقدرة الهيمنة عليهم وتثبيت تبعيتها، دولة للعلويين في الساحل وكذلك للدروز في الجنوب ودولة في دمشق وما حولها… الخ لكن ذلك لم يستطع أن يستمر لعدم ترسيخه في البنية المجتمعية السورية وجدانيا وعقليا، ولاكتشاف الكل ان ذلك يضر بالسوريين جميعا و بمصالحهم كأفراد وبنى طائفية واثنية ويفيد المستعمر الفرنسي وهيمنته، لذلك استقر حكم الفرنسيين في سوريا عبر العقود الثلاثة بالهيمنة على سوريا، عبر وجودها المباشر وعبر الإقطاعيين والتجار المدينيين، من خلال آليات ديمقراطية شكلية تعيد تدوير هذه النخبة على الحكم المهيمن عليه بالمطلق من الفرنسيين.
ثالثا. عندما خرج الفرنسيين من سوريا بعد الحرب العالمية الثانية حيث استقلت سوريا، كانت الطبقة الحاكمة من تحالف الإقطاع مع رأس المال التجاري المدينيين. هم من استلم الحكم في البلاد، وكانوا هم ذاتهم طبقة الحكم التابع أيام الفرنسيين، استلم هؤلاء الحكم وفي جعبتهم تركة قاسية من المرحلة الفرنسية وما قبلها في سورية، فهناك اغلب الشعب يرزح تحت الأمية، والريف مهمل ومهمش، والإقطاع يمتلك بلاد بأسرها والشعب فقير ومتخلف ولا يجد أمامه أي فرص خلاص، وورثت سوريا مشكلة احتلال فلسطين من الكيان الصهيوني، الذي انعكس على السوريين بازمة وجدان وازمة سياسية مجتمعية، وكان العسكر بقايا ضباط وصف ضباط مرحلة المستعمر الفرنسي هم من استلم زمام الجيش الوطني السوري.
رابعا. لم يتقبل الشارع السوري هذا الواقع المستجد السوري بعيوبه. وبدأت تظهر في أوساط المثقفين والمعلمين والناشطين السياسيين أجوبة على المأزق المجتمعي السوري، ينصب على القضية القومية ومركزها فلسطين، وعلى التوحيد سواء كان قوميا عربيا مثل البعث و العربي الاشتراكي، أو سورية الطبيعية كالحزب القومي السوري الاجتماعي، او اسلاميا كحركة الإخوان المسلمين، والشيوعيين وتوحيدهم الأممي للعمال في العالم ونموذجهم الاتحاد السوفييتي، كلهم مع التوحيد لسوريا مع اطار اوسع، ومع تحرير فلسطين من الكيان الصهيوني، باستثناء الشيوعيين المتماهين مع الاتحاد السوفييتي الذي ينظر للكيان الصهيوني كحل لمشكلة لليهود ويؤكد مشروعية دولة (اسرائيل)، وهذا ما شكل مأزقا للشيوعيين السوريين له ما بعده.
خامسا. أما المأزق المجتمعي الآخر فهو التفاوت الطبقي والمجتمعي بين الريف والمدينة، ومشكلة مظلومية الريف من الاقطاعيين المالكين للأرض والمستغلين لجهد وحياة الفلاح الذي يعيش حياة فقر وتخلف و كفاف، تطلبت من قوى الحراك السياسي من القوميين والشيوعيين والإسلاميين التي ذكرت سابقا موقفا ظهر ينتصر للفلاح بدرجات متفاوتة، وكلها تصب بالحديث عن إصلاح زراعي ينصف الفلاح ويعيد اليه بعض او كل حقوقه.
سادسا. كانت سوريا ما بعد الاستقلال تمور بحركية سياسية مجتمعية كبيرة للقوى السياسية والمجتمعية، وكانت أيضا متابعة من القوى الدولية التي خرجت من سورية عبر الاستقلال ظاهرا وبقيت عبر مصالحها واجهزة استخباراتها، وخاصة ان سورية مركزا دوليا لاصطفاف دولي بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الشيوعي، وكانت العين عليها من أجل إملاء الفراغ الناجم عن خروج الفرنسيين منها، وأنها الدولة المحاذية للكيان الصهيوني ويجب ضمان سياستها السلمية والمهادنة مع (اسرائيل) وتقبلها كأمر واقع، وتعتبر الانقلابات الثلاث التي افتتحها حسني الزعيم بعدها سامي الحناوي ومن ثم اديب الشيشكلي، كانت كلها لعب لقوى دولية على موضوع استملاك السلطة لطبقة الجيش في مجتمع لم تتبلور مؤسسات البنى المدنيه الديمقراطيه فيه، وعلى موضوع مصلحة (اسرائيل) و وجودها وشرعيتها والعلاقة الإيجابية معها.
سابعا. أما على المستوى السياسي المجتمعي فقد نشط البعث والاشتراكيين العرب والشيوعيين والإخوان المسلمين، ليملأوا الساحة وكلهم طرحوا برامجهم، وكانت البنى المجتمعية مختلفة بالتعاطي مع هذه الأحزاب والتوجهات، كان المكون العلوي كان ومنذ زمن الفرنسيين قد اختار أن يلتحق في سلك الجيش كجنود وصف ضباط، باحثين عن فرص عيش أفضل من ظروف بلادهم فهم ضحية بنية إقطاعية ظالمة، و طبيعة وعرة يصعب الزراعة فيها ، وعداء مجتمعي، يعود لسرية اعتقاداتهم وعدم وضوحها ووجود أقاويل كثيرة حولها، وبعد الاستقلال وبداية ظهور الفكر البعثي والاشتراكي لأكرم الحوراني وتصديه للإقطاع الذي كان مدينيا سنيا في أغلبة، فقد شجع محازبيه وكذلك البعث للالتحاق بالجيش، وتم تشكيل بداية تكتل مكونات مجتمعية من العلويين والدروز والإسماعيليين وقليل من السنة في الجيش، وان من خلال الغطاء العقائدي للبعث أو الاشتراكيين العرب، وبدأ الجيش الوليد يتطعّم بأبناء المكونات كضباط صغار منذ الاستقلال سيكون بيدهم مصير سوريا في المستقبل.
ثامنا. استمر الاستقطاب على المستوى الإقليمي والدولي فهذا الغرب يطرح حلف بغداد ويحاول ضم سوريا له ورأس حربته حكومة بغداد، وهذا عبد الناصر يصعّد موقفه من الغرب و يؤمم قناة السويس، يتحول بين عشية وضحاها لقائد قومي يرى به أغلب السوريين رمزا وقدوة، لأن البنية السياسية السورية ضعيفة أمام ضغط الغرب للالتحاق بحلف بغداد، وضغط الشارع الذي يريد الوحدة مع مصر عبد الناصر، والقوى السياسية التي حضرت بقوة؛ خاصة البعث والاشتراكيين العرب الذين توحدوا في وقت ما، واخيرا توافقت النخبة السياسية المجتمعية السورية، وتسلم زمام أمورها لعبد الناصر وحصلت الجمهوريه العربيه المتحده .
تاسعا. لم تكن فترة الوحدة بما لها وما عليها. الا فترة اعادة ترتيب الاوراق لكل الأطراف السورية والمصرية والإقليمية والدولية، القوى الدولية وعلى رأسها أمريكا وجدت سابقة الوحدة مؤشر خطير يضر بمصالح الغرب والكيان الصهيوني وزرع الارتياب في الأنظمة العربية الملكية؛ بأن ما يحصل هو مقدمة لإسقاط سلطاتها، وتحالف الجميع لاجل اسقاط الوحدة، واما داخل دولة الوحدة فكان دور أخطاء الممارسة الاعتباطية والغير ديمقراطية والتفضيلية من المصريين، تأثيرا على الطبقة السياسية السورية التي بدأت تعيد حساباتها، رغم زخم الدعم الشعبي للوحده وعبد الناصر، وخاصة انه كان اقرب لمصالح الناس وخاصة الفلاحين وقدم بعض المكتسبات لهم خاصة بالإصلاح الزراعي، لكن واقع الحال ان القوى السياسية الداعمة للوحدة وناصر بدأت تتآكل، البعث الذي كان قد حل نفسه عاد للنشاط سريا، ولجنته العسكرية تشكلت ايام الوحده من الرباعي حافظ الأسد وصلاح جديد ومحمد عمران وعبد الكريم الجندي.( الثلاثة الاوائل علويون والرابع اسماعيلي )، هذه اللجنة وما فعلته بعد ذلك ستتحكم بمستقبل سورية، وكذلك الاخوان المسلمين المعادين لعبد الناصر اصلا بسبب صراعهم معه داخل مصر على السلطة وتبعاتها، ومحاولة اغتياله والإعدامات التي طالت بعضهم والسجون التي احتوتهم، أما الشيوعيون السوريون فهم اصلا ضد الوحدة، تماشيا مع موقف الاتحاد السوفييتي المتماهين معه في كل شيء.
عاشرا. أُسقطت الوحدة وتم استثمار أخطاء حكم أجهزة عبد الناصر، عبر التحالف بين الطبقة السياسية السابقة من بقايا الإقطاع مع رأس المال مع بقية القوى السياسية التي رضيت بالانفصال وكل لحساباته الخاصة، فالبعث بعضه صمت عن الانفصال وبعضه وقع على بيانه، واللجنة العسكرية وجدتها فرصتها لتعيد ترتيب أوراقها في الجيش والحزب وتخطط لمستقبل تكون هي مركز الحكم، اما اغلب الشعب فقد اصيب بخيبة أمل؛ بأن الوحدة لم تأخذ الفرصة الكافية لاختبارها واستثمارها لصالح الشعب في سوريا ومصر، وظهر من وقتها تيار شعبي وسياسي ناصري وجد بعبد الناصر نموذجا وبعودة الوحدة هدفا مباشرا، كان تيارا كبيرا لكنه غير مؤطر وغير منظم، سيتم الاستفادة منه لاحقا لإسقاط الانفصال بالتحالف بين الضباط البعثيين والناصريين، ولكن لن يستطيعوا تثمير اسقاطهم للانفصال، حيث سيتم تصفية وجود الضباط الناصريين وقوتهم في الجيش لاحقا و بالتدريج، و يستمروا قوة سياسية سورية منفعلة بالحدث السوري الذي يهيمن عليه البعث بلجنته العسكرية تحديدا.
حادي عشر. لم يستطع الانفصاليين الاستمرار بالحكم. بسبب ضعف التحالف الانفصالي. حيث كان تحالف الاقطاع مع رأس المال قد تحجم كثيرا ايام الوحده، وكذلك ممثليه السياسيين، ولم يستطيعوا أن يشرعوا للشعب السوري اسقاطهم الوحدة إلا أنه لمصلحة الأعداء، ولم يجدوا القوى السياسية الفاعلة التي تعطيهم شرعية وجودهم وأفعالهم، لذلك كانوا بحكم الساقطين سياسيا، وكان البعث بلجنته العسكرية قد رتب أوراقه لاجل اسقاط الانفصال، واستفاد من الضباط الناصريين، ومن الامتداد الشعبي تحت ادعاء إعادة الوحدة مع مصر ناصر، لكن الحقيقة ان اللجنة العسكرية كانت سرية بخططها حتى على قادة البعث السياسيين، وعملت على إسقاط الانفصال ثم مركزة السلطة بيدهم؛ عبر أبعاد الكتلة الناصرية من الجيش ثم دخلت في لعبتها السياسية الخاصة؛ كصراع مراكز قوى داخل الحزب للهيمنة عليه وعلى السلطة والدولة السورية.