قراءة في كتاب : سجن صيدنايا – الإضراب الكبير – رواية معتقل علوي

أحمد العربي

عن دار موزاييك في اسطنبول صدر كتاب سجن صيدنايا . الإضراب الكبير . رواية معتقل علوي. وهو شهادة عن ما عايشه الكاتب فراس سعد في ذلك الإضراب في سجن صيدنايا عام ٢٠٠٨م. حيث كان معتقلا فيه.
يتحدث فراس سعد في كتابه عبر فصول متعددة بدءا من موضوع مهم عن علاقة الطائفة العلوية بالسلطة الاستبدادية في سوريا:
يتحدث عن ولادته في قرية علوية في الساحل السوري. وان المذهب العلوي غير متاح بشكل علني لكل العلويين. وأن المتعارف عليه أن يبدأ الأهل والمشايخ العلويين في تشجيع أولادهم على الدخول في الدين بعد وصولهم إلى سن الشباب عبر لقاء خاص مع المشايخ بحضور شهود . حيث يلقّن الشاب دينه. ويبقى ما حصل وما عرف ضمن الأسرار التي لا يعرفها الا من دخل الدين أو المذهب العلوي.
كان فراس ومنذ طفولته ذا عقلية نقدية تجاه كل المحيط به. لم يقبل واقع حياته مسلّما بها كما أغلب المحيطين حوله. كان لخاله المثقف دور كبير في توسع وعيه واطلاعه. مكتبته الكبيرة وشغف فراس للقراءة جعلته يزداد نفورا مما يراه تزمتا دينيا وانكفاء اجتماعيا. فقد قرأ الكثير وأدرك حقائق الحياة والسياسة وواقع سوريا. لم يقبل هيمنة نظام الأسد على سوريا ولا واقع حال الاصطفاف العلوي وراء النظام واعتباره عند أغلبهم وكأنه نظامهم الذي يحميهم ويؤمن مصالحهم…
دافع فراس عن ان نظام الاسد الاب والابن ناتج عن مصالح ذاتية للعائلة ركبت على الطائفة و استغلتها. يعود الى جذور عائلة الاسد وانها ليست عريقة وأنها تشعر بالدونية تجاه بقية عائلات العلويين. وان سعي الأسد الأب أن يصل للسلطة بأي شكل جعله يلتحق بحزب البعث وأن يدخل سلك الجيش ويضع يده بيد علويين آخرين أكثر عراقة منه محمد عمران وصلاح جديد وإبراهيم ماخوس… الخ. وان يصفّيهم ويخرجهم من السلطة عندما يتمكن من ذلك. وأنه بعد عام ١٩٧٠م وعندما صار الحاكم المطلق لسوريا، عمل على إلحاق العلويين المقربين منه بالجيش والأمن. وما أن مضت سنوات حتى أصبح اغلب قادة الجيش والأمن علويين. وزاد على ذلك بناء فرق عسكرية بقيادة اقربائه بأغلبية علوية. مثل سرايا الدفاع بقيادة أخيه رفعت الأسد التي أصبحت الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد الاخ الاصغر لبشار الأسد وكذلك سرايا الصراع والوحدات الخاصة… الخ.
يؤكد فراس ان النظام هو نظام عائلة الأسد وليس نظام العلويين. ورغم أن هناك شبه انتماء كامل للنظام من قبل العلويين. الذين رفضوا الثورة السورية في ربيع عام ٢٠١١م. وانهم قدموا أولادهم وولائهم للأسد الابن ضد الشعب السوري. يقول فراس أن العلويين تخلفوا مجتمعيا وفي التعليم وفي بناء الحياة وكانوا وقودا في معركة الأسد الأب والابن في التشبث في السلطة وظلم الشعب السوري. بقوا أدوات للاستخدام وقدموا مئات الآلاف من القتلى في حربهم على الشعب السوري. وان اغلبهم مازال يعيش في مناطقهم المتخلّفة على كل المستويات. وان اغلب من خرج من الساحل سكن العشوائيات حول المعسكرات والمدن والبلدات السورية. وأنهم تعلموا على نمط الحياة المستغل والمستثمر للمنصب والموقع، الانتهازي والمستغل والظالم والمستبيح لحقوق السوريين، كل حسب موقعه ودرجة مسؤوليته. الذين يأخذون الملايين لتسيير أعمال التجار مثلا والذين يسرقون خبز العسكر، والذين اصبحوا في عهد الأسد الابن مسيطرين على الاقتصاد وكل مفاصل الدولة السورية …
نعم يمكن أن نقبل ما طرحه فراس ان النظام ليس علويا بل أسديا نسبة لعائلة الاسد. لكن واقع الحال حصل التماهي والترابط المطلق بين النظام والطائفة إلى درجة يستحيل معها فصل مصلحة النظام عمّا يراه أغلب العلويين انه مصلحتهم الذاتية….
يتابع فراس في فصل الرغبة بالاعتقال ومن ثم الاعتقال التحدث عن نفسه وبيئته.
نعم نشأ فراس في بيئة علوية مؤيدة للنظام ولكن وعيه المبكر و قراءاته الواسعة ومتابعة الاخبار عالميا عن سوريا ومعرفة واقع المظلومية المجتمعية من النظام المستبد على الشعب السوري. وأنه غير معني ان يكون جزء من الانتماء القطيعي العلوي للنظام. على العكس من ذلك وفيما بعد الألفين ومجيء الأسد الابن للسلطة ولعبة الديمقراطية المدعاة وربيع دمشق الموؤود فقد أعلن فراس بينه وبين نفسه أنه غير منتمي لهذا النظام ورفض التقية والإخفاء الديني في الطائفة وأنه مسلم ويحترم الامام علي وأنه لا يحتاج لشيوخ يدخلونه المذهب سريّا.
بدأ بالكتابة في الانترنت وباسمه الصريح منتقدا النظام وأفعاله وبدأت كتاباته تزعج النظام واهله وأقربائه فهم أغلبهم ضباط ومسؤولين حزبيين وفي السلطة السورية. حاول والده أن يثنيه عما يكتب وينصحه بأن ذلك ضد مصلحة البلد والنظام والطائفة. لكنه لم يرتدع. فانتقل التهديد والوعيد للاجهزة الامنية حيث استدعي أكثر من مرة وأظهروا له أن صبرهم عليه قد نفذ وانهم يرحمونه لأنه منهم، لأنه علوي . لكنه استمر يعيش احساس الانفصام عن هذه البيئة، فقد حاربه اهله واغلب المحيطين به، وتعاملوا معه كخائن للسلطة والطائفة. لقد أحس بأنه سيعتقل عن قريب وبدأ ينتظر اعتقاله، وبالفعل اعتقل فراس… وتأكد له أن لا عقلية نقدية ضمن العلويين عموما تجاه النظام. باستثناء بقايا القوى السياسية التي كان بعض العلويين منضويا فيها: المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري بقيادة رياض الترك، و رابطة العمل الشيوعي، وبقايا حزب البعث الديمقراطي من كان قريبا من صلاح جديد وتياره…
يتحدث فراس عن التعذيب الذي لقيه في الأفرع الأمنية في اللاذقية وبعد ذلك في دمشق. كانت التجربة مرّة وندم على كونه تمنى الاعتقال يوما.
لم يعد هناك امكانية للتراجع، لقد تجاوز في كتابته وسخريته ونقده في الانترنت خطوطا حمر عند النظام عن الرئيس الأسد والجيش والطائفة العلوية. شاهد بالمعتقلات التعذيب الذي لحق بالآخرين وأدرك أن جمهورية الرعب السورية تتمظهر بشكل أساسي في فروعها الأمنية…
نُقل فراس بعد ذلك إلى سجن صيدنايا الذي كان مصنعا حقيقيا للجماعات الاسلامية المتطرفة.
كان اعتقال فراس في عام ٢٠٠٤م وذلك بعد عام عن احتلال العراق، حيث الصراع على أشدّه بين النظام والقوى الدولية التي رعته في يوم ما… اختلفوا على الدور السوري في لبنان. وقرار النظام تصفية رئيس وزراء لبنان الحريري في تفجير كبير أودى بحياته وكثير من مرافقيه. مما دفع امريكا لترغم النظام للخروج من لبنان. خرج النظام من هناك لكنه ترك امتداده متمثلا بحزب الله الذي سيكون القوة الفعلية المهيمنة في لبنان خاصة بعد خطف الجنود الاسرائيليين والحرب في الجنوب عام ٢٠٠٦م وتجميد الصراع إلى أجل غير مسمى. بوساطة أمريكية. إعادت تموضع النظام وحزب الله في لبنان بصفتهم الحكّام الحقيقيين له .
بالعودة الى عام ٢٠٠٣ والاحتلال الأمريكي للعراق. فقد كان ذلك فرصة ذهبية استثمرها النظام السوري بكل دراية. سقط النظام العراقي الأخ العدو للنظام السوري. وبدأ النظام يجييّش عبر مشايخ تابعين له للذهاب للعراق للجهاد ومحاربة الأمريكان. وكانت القاعدة قد حضرت من أفغانستان وكل دول العالم لذلك. يدعم النظام تسلسل الذاهبين للقتال هناك. بذهابهم وايابهم . يعرفهم والبعض منهم مرتبط أمنيا معه. وعندما وصل الحال الى مستوى التوافق مع الأمريكان على هذا الملف، قدم له بعض المعلومات وبعض المطلوبين وأعاد اعتباره وكيلا معتمدا لدى الأمريكان في المنطقة…
في ذات الفترة كان اعتقال فراس في سجن صيدنايا الشهير الذي كان يحوي الكثير من الشباب المعتقلين في ذهابهم وإيابهم للجهاد في العراق. وبعض ضباط عراقيين وبعض من القاعدة… وكثير من الشباب العاديين. هذا الخليط التقى به فراس في سجن صيدنايا في أقسامه كلها تقريبا عبر أربع سنوات. كان محسوبا على العلمانيين الديمقراطيين. يهابونه كونه علوي، ولا يأمنون جانبه. كان ودودا وغير عدواني مع الكل مما جعله يعيش بينهم حوالي الخمس سنوات رغم خطورة ما مرّ على سجن صيدنايا…
في صيدنايا جامعة حقيقية لتدريس الفكر الديني عموما. وبالاخص السلفي التكفيري. كان الكثير من المعتقلين غير مرتبطين فكريا وغير مؤطرين تنظيميا. في صيدنايا أصبحوا من الجهاديين. هناك تم خلق كادر ديني جهادي وصل إلى الألفين انسان. كانت سوء المعاملة من إدارة السجن. والتوجيه لمزيد من الضغط عليهم، جعلهم أكثر جذرية وتطرف. كانوا مخترقين من اجهزة امن النظام. كانت هناك مجموعة تابعة لـ غول اغاسي الشيخ الحلبي الذي دفع الالاف من الشباب للذهاب للجهاد في العراق وتبين أنه عميل للنظام وقُتل. كذلك شاكر العبسي الذي أخرجه النظام من السجن مع مجموعته ليذهب الى لبنان ويعلن دولته الاسلامية ، التي شكلت مشكلة وصراع عسكري في لبنان. في صيدنايا تواجد اغلب القادة والجماعات الذين سيخرجهم النظام من سجنه بعفو غريب في بداية الثورة السورية عام ٢٠١١م. بعضهم نفذ خطة النظام مثل نديم بالوش الجهادي خريج صيدنايا والمتعامل مع الامن الذي أعلن مسؤوليته عن ضرب الكيماوي على الغوطة الشرقية بصفته من المعارضة… ليبرئ النظام.
خرج هؤلاء بعفو رئاسي أول الثورة عام ٢٠١١م ليصنعوا نواة العمل العسكري الإسلامي الجهادي ضد النظام. منهم زهران علوش الذي سينشئ جيش الإسلام وأحمد عيسى الشيخ وغسان عبود قائد أحرار الشام. الجولاني قائد جبهة النصرة وغيرهم كثير. لقد افرج عن ألفين من الاسلاميين المتطرفين و المتنوعين فكريا والمختلفين في بعض المسائل مما يعني أنهم يعيشون صراعا داخليا في صيدنايا قبل خروجهم وبعد خروجهم أيام الثورة السورية…
هل كان النظام يعرف بالثورة السورية وأنشأ سجن صيدنايا ليخلق هؤلاء لضرب الثورة ؟.
الجواب برأيي أن النظام صنع هؤلاء المتطرفين الجهاديين حتى يستخدمهم عند الحاجة كما حصل في العراق ولبنان قبل الثورة السورية وعندما حصلت الثورة السورية كانوا ورقته الاهم والاقوى…
لقد قتل النظام أغلب الناشطين السلميين ابناء الثورة السورية وصنّاعها. وأفرج عن الإسلاميين الجهاديين الذين سيطروا لاحقا على
العمل العسكري المواجه للنظام. وألبسهم النظام الثوب الجهادي المتطرف. وأعاد إقناع العالم بأنه النظام الاكفأ لمحاربة إرهاب الإسلاميين الجهاديين. خاصة بعدما ولدت القاعدة “النصرة” في سوريا وجاء بعدها الدولة الاسلامية في العراق والشام “داعش”. وهكذا تحول الاهتمام الدولي عن مساءلة النظام والتفكير بتغييره الى محاربة الارهاب وخاصة داعش. وانه لا يوجد اكفأ من الأسد ليكون ربان المركب السوري الغارق…
يتحدث فراس بالتفصيل عن تصنيع الجهاديين الإسلاميين في سجن صيدنايا تحت نظر النظام وبدعم ضمني منه. بحيث وصلوا الى مرحلة قوة بطش ذاتية التفجير لم يعد قادرا النظام على ضبطها. وما أن جاء عام ٢٠٠٨م حتى بدأ استعصاء سجناء صيدنايا الإسلاميين. الأول والثاني والثالث. وكان في كل مرة يزداد قوة واندفاعا. كان المعتقلين الديمقراطيين والعلمانيين على قلتهم يشكلون موقفا مختلفا في هذا الجحيم لكن تأثيرهم أقل، كانوا على الحياد ومن واجه منهم النظام ممثلا بمدير السجن وقتها او الاسلاميين المتطرفين يكون مصيره القتل، وهذا ما حصل مع نزار رستناوي الحقوقي الذي حاور الإسلاميين وحاججهم، وفضح رئيس السجن بعد الاعتصام أدى لمقتله، يرجح فراس انه قتل على يد رئيس السجن وعناصره…
كانت الاحتجاجات مطلبية وكان عنف النظام وردود أفعاله القاسية مبررا للتصعيد وحصول الإضراب الكبير. لقد عاش سجناء صيدنايا أياما قاسية في أجواء حرب حقيقية بين النظام والإسلاميين الجهاديين داخل السجن نفسه بين المتطرفين والأكثر تطرفا…
سيفصّل فراس بشهادته كثيرا عن الأحداث الموثقة منه ومن غيره عما حصل. وسيعيد سرد شهادة الآخرين في كتابه هذا. ومن أهم الاستنتاجات عن ما حصل في صيدنايا أنه كان مقصودا صناعة هؤلاء الاسلاميين الجهاديين المتطرفين لزجهم بما يريد لهم النظام أن يعملوه باندفاعهم الذاتي حسب برمجتهم ذهنيا أو بمن اخترقوهم من قادتهم وعناصرهم وأنه نجح في ذلك . لقد تبادل الأدوار الامن وادارة السجن بين عنف واذلال وسماح بتداول الكتب الدينية السلفية الجهادية. وكانت النتيجة هذه الاضطرابات وما صاحبها من عنف وقتل وتخريب للسجن…
ستمر الأيام وسيخرج هؤلاء من السجن بعفو من النظام و سيكونون قادة العمل العسكري الذي وجد من يدعمه من القوى الدولية والإقليمية كل لحساباته الخاصة. ولتكن سوريا كما أصبحت بين نظام يستبيح حياة الشعب يقتل ويعتقل ويهجر الناس وبين قوى عسكرية اصبحت اسيرة عقائدية متطرفة وقوى دولية توافقت على إعادة إنتاج النظام بتوافق دولي أمريكي روسي إسرائيلي. وتعاون مع إيران والميليشيات الطائفية التابعة لها مثل حزب الله اللبناني…
في التعقيب على الكتاب المهم والثري اقول:
نعم إن نموذج فراس سعد الشاب العلوي السوري المعتز بعلويّته. وباسلامه والرافض للنظام السوري بالمطلق ، هو النموذج المطلوب لسوريا المستقبل السوري الوطني الديمقراطي يعيد استثمار أصوله الدينية والمذهبية والمجتمعية ليكون منتصرا لحقوق الشعب بإسقاط الاستبداد والفساد والظلم والطائفية وتحقيق الحرية والعدالة والديمقراطية والحياة الافضل في سوريا ولكل السوريين.
في الكتاب اتهام موثق بالأدلة للنظام الذي استخدم كل الأساليب ليحافظ على السلطة. قتل الناس واعتقلهم وهجرهم ودمر بلادهم. صنع الارهاب المتطرف الإسلامي في سجونه. وتاجر به مع كل العالم. توافق مع كل الأعداء وبقي عدو لشعبه كل سنوات حكمه…
الحساب الختامي لسوريا الآن بلد مقسم فية الروس والايرانيين والميليشيات التابعة لها والامريكان محتلين لسوريا كأمر واقع، وحزب العمال الكردستاني روج آفا وقوات سورية الديمقراطية يحكم جزء من سوريا ويؤسس لدولة كردية انفصالية. وبعض سوريا محرر ادلب والشمال الغربي لسوريا تابع للادارة التركية. الناس كل الناس في سوريا يعيشون جحيم الفقر والفاقة ونقص الأساسيات في الحياة هذا غير القمع واضطهاد النظام والمحتلين الذي يتفاقم مع الوقت…
نعم سوريا وشعبها الآن في اسوأ حالاتهم…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى