رواية “تفسير اللاشيء”.. كيف ننتصر بالتاريخ لذواتنا المتهتكة؟

حمزة المصطفى

لم تعد الكتابة الروائية عن الثورة، في ظل الانفجار الكتابي والمبالغة المضطرة في البيوغرافيا تحظى بالجاذبية ذاتها قبل سنوات لأسباب عدة لا تتحملها هذه المادة، وهو ما حدا بكثيرين لرسم صورة غير متفائلة لمستقبل الرواية السورية. لكن “تفسير اللاشيء” لفواز حداد تدحض الفرضية السابقة لما تكتنفه من تشويق وإثراء للذائقة والمخيلة بمشاهد أقرب ما تكون إلى دراميةٍ تتصاعد ذروتها وتهبط في مواقع مختلفة تاركة القارئَ أمام احتمالات متعددة وسيناريوهات متشابكة عن مآلات سير الأحداث وخاتمة الحدُّوتة التي يقول صاحبها إنها واقعية.

زجُّ مفردة “اللاشيء” في العنوان بهذه الطريقة يدفع فوراً للتساؤل عن المغزى، هل سيقدم الكاتب تحليلاً سيكولوجياً تخصصياً تتجنب الكتابة الروائية الغوصَ فيه بهذه العلمية المفرطة أم له مآربُ أخرى؟ على أهمية إيلاء الجوانب النفسية للفرد والذات السورية تنشغل الرواية -كما يوحي فصلها الأخير- بمسألة السردية والصراع على كتابة التاريخ بعد الثورات وتمترسات المثقفين السياسية والانتهازية من هذه العملية. هذا المنحى ليس جديداً على فواز حداد الذي اختص بالرواية السياسية وخصص جلَّ جهده ووقته في سبيل ذلك من خلال أعمال عدة أهمها “خطوط النار”، و”السوريون الأعداء” و”الشاعر وجامع الهوامش”. لكن ما يميز “تفسير اللا شيء” أنها تُكتب -كما تقول ضمنياً- في زمن الهزيمة العسكرية والتراجع السياسي للثورة، فكيف نكتب خيباتنا البنيوية روائياً وكيف ننتصر لذواتنا المتهتكة أمام هذا الخراب؟ الجواب يكمن في كيفية تقديم الحكاية لكي لا تعيش في الماضي ولا في تكرار الرواية والسرد.

أتخيلك أبي في فراشي

ينجح صاروف، بطل الرواية والمثقف الكبير في إهمال سؤال الثورة عند نشوبها، حدث لا يعنيه بعد أن استقرَّ مادياً ومعيشياً بحصوله على وظيفة محاضر في إحدى الجامعات الخاصة التي تكاثرت كالفطر بداية الحرب. أضحى منشغلاً بزوجته الشابة، طالبته السابقة، وبالفلسفة التي أمَّنت له مريدين ومعجبين يرتادون مجلسه لينهلوا منه ثقافة باتت تتعمق، هروباً ربما، في مسائل فكرية لا يدركها الواقع. كلُّ ما جرى في سوريا من أهوال ليس حدثاً عنده، تكفي إجابات من قبيل: تسلّحت، تأسلمت، وتطيّفت… للهروب من الإجابات المكلفة ووجع الرأس.

تنقلب الدنيا رأساً على عقب عندما تقرر زوجته سهير الانفصال عنه، ويعجز بكل وسائله الإقناعية وتحليلاته الفكرية وقدراته عن إعادتها إلى بيتها. هي إنجازه الوحيد في هذه الدنيا خارج مشروعه الفكري غير المنتهي الذي سيحقق خرقاً معرفياً عندما يُنشر، حتى وإن تأخر.. لا وساطات تنجح، ولا تعهداته بتدارك أخطاء الماضي، غير المعروفة بالنسبة له أصلاً، تقنعها.. ونظراً لمكانته وصورته التي يرسمها لنفسه المحمّلة بإطراء معجبيه، يُسخِّر صاروف كل قدراته التشخيصية والتنبؤية لمعرفة دوافعِ سهير لتركِه، وهو الذي فعلَ معها من المعروف والصنائع ما يحتاج إلى عُمرٍ لتقدره.

“أتخيلك أبي في فراشي” تقول، فينفجر صاروف في شقلبة “زنى المحارم” وإسقاطها على حالته مع أنها لا تصحّ، ويَحارُ بين الدخول في منافسة مع والدها المتوفَّى ومشاجرة مع صورته الباقية في صالونه أو يفكر فيما هو أبعد. تحرّش بها وهي طفلة، الحوادث كثيرة في المجتمعات المتخلفة، السجل الجنائي حافل بجرائم لآباءَ مخمورين اغتصبوا محارمهم فقتلوهم أو قُتلوا. لكن سيرة الأب الرزينة لا توحي بذلك، لا شك أن سهير انقلبت مثلية، تحدث هذه الأيام، لا بد أنها استسلمت للجسد الأنثوي الرقيق وفضّلته بديلاً عن جسده.

ولمعالجتها، ينشغل بتحضير ملف تفصيلي خالَه فتحاً معرفياً في علم النفس قبل أن يزور صديقه الطبيب طالِباً منه العلاجَ بعد أن اخترقَ، من وجهة نظره، عوالمَ لا يُدركها الطبيب ذاته في التشخيص النفسي ليتلقى الردَّ البارد: حالة عادية، وتحصل عند كثير من النساء نتيجة البرود الجنسي والإهمال الزوجي، وعلاجها سهل؛ الزمن، الاهتمام، والانتباه.

تمرين على الحرية بقتل البطل

ليست مُغتصبة ولا مثلية، تريد أن تكون حرة منه، دافع مباشر وبسيط يدلل عليه إعلان سهير نيَّتها الارتباط بصديق صاروف في الجامعة في تمثيلية اتفق عليها الطرفان لإقناعه بانقضاء الأمر علَّه يخفف المراقبة والتطفل الذي بلغ حدَّ التجسس الهوَسي بكل تفاصيل حياتها قبل انعقاد جلسة الطلاق في المحكمة.

سهير حرة، تزوجت بسرعة، عن حب أو بدونه. لم يعد صاروف الذي أُعجبت به وبأفكاره يصلح لأن يكون شريكاً على طول الحياة، الاستقلال بالذات لا سيما بعد توفر الاستقلال المادي مُغرٍ ويشغل بال كثيرين وكثيرات، ظاهرة نشخصها بمعدلات الطلاق المرتفعة، لكننا لا نبوح علناً بأسبابها لأنها تلامس مكتسباتنا، وربما تقاليدنا، ومناطقنا الآمنة الانتقائية المتمثلة بالعُرف.

يذبل صاروف -الشخصية المتفجرة بالأفكار- أمام توهج سهير في حياتها الجديدة، ينعزل ليعيش اللا شيء، سهير، في وعيه أو لا وعيه، يراوده الانتحار ويجربه ليجده خياراً صعباً يتطلب شجاعة حتى وإن فُسّرتْ طائشة.

تسوء الحالة كلما تألقت سهير والتفَّ حولها المعجبون بمشاريع زواج تتقاطر إليها من مثقفين كثر، انتهازيين بغالبيتهم، عرفوا بقصتها وبمنصبها في وزارة الثقافة التي لم تخضع لضغط في النفقات شأنها شأن الوزارات المعيشية الأخرى، فالنظام يحتاج إلى المثقفين في الحرب، وإن لم يجدهم إلى جانبه، كما في سوريا، يصنعهم ويمنحهم ويسبغ عليهم ألقاباً لا يستحقونها.

تظهر شخصية ماهر الانطوائية، الرسام التشكيلي الذي اجترح فناً تجريدياً أو “مفشكلاً” كما تصفه الرواية، يجسد في لوحاته جسد زوجته التي لا تقبل بجسد آخر أو استحضار موديل لاستلهام جسدها ثم التهامه. الزواج من امرأة غنية حيلة كثير من الشباب في الماضي والحاضر، وقد شاعت كثيراً بحيث صارت واقعاً لا يمكن إغفاله خلال الحرب.

يتقرب ماهر من سهير، يريدها عشيقة إلى جانب زوجته، لا يمتلك شجاعة التخلي عما تؤمّنه الأخيرة من مصروف ورعاية… سهير مطلقة حديثاً، فلماذا تمانع؟.. الرجال بغالبيتهم يميلون إلى الاستسهال في قضايا المطلقات والأرامل، استسهال ضاعفه التناقص المطّرد في عدد الشباب نتيجة اللجوء والهروب من جيش الوطن.

العمر، والمنصب، وكذلك الوقت لا يسمح بتجارب جديدة قد تفشل أو بمغامرات قد تودي بك، ثمّ إنّ سؤال الإنجاب صعب، وهو يساور كثيرات بعد تمرين الحرية. يظهر سبب الانفصال أو التعجيل به.. لقد أخفى صاروف عن سهير تحليلاً طبياً يُظهر عُقمه وصعوبة حالته، تعاهدا سابقاً ألا يلجأ إليه أحدهما، كانت تخشى أن تكون هي السبب، ولمّا عرفت أنه العقيم، بدأت تفكر بفطرة الأمومة.

تريد أن تكون أمّاً.. نعم، لكنها متحررة عن صاروف الذي لم يشاركها في مستقبلهما الإنجابي وهيمنَ عليها بكل شيء حتى بأفكارها، تريد أيضاً التخلص من حبّ أحادي الجانب لشابّ لمّا يُعرها أي اهتمام، كان يشاطرها صاروف.. تريد زوجاً إذن، ماهر لا يناسبها، ويجب أن تختار من الوسط حتى يكون ندّاً لها، تخلت عن مثقف له اسمه فهل تقبل بمن هبّ ودبّ.

التاريخ يتقدم إلى الخلف

تندم سهير على ما فعلته بصاروف كلما زادت حالته فتقرر الاهتمام به مجدداً، يتجاوب معها وحدها بلا كلام، لكنه لا يغادر ما هو فيه وإن بادر إلى بعض التصرفات الجديدة.. يقرر صاروف بوعي أو بيقين أن يعيش لا شيئية تامة، حالته التي حددها لنفسه هي الشيء الذي يرتضيه، وهي عالمه الذي لا يشبه شيئاً خارجه.

تظهر شخصية الكاتب، صديق صاروف وسهير المقرب، الوحيد الذي لم يتخلَّ عنه في مرضه، لقد حاول على مدار فصول الرواية التوسط بينهما وإعادة الأمور إلى نصابها، ليكتشف هو الآخر حبّاً دفيناً يتدفق تجاه سهير المتوهجة ثقافياً، وفكرياً، وجمالياً أيضاً، عشق ممنوع لن يغادر درفات القلب بعد أن ملكته أسرارها وخططها في البحث عن زوجها المستقبلي المناسب.

تبقى الأمور مع صاروف على حالها بين عيادة سهير واهتمام صديقه به حتى يحصل المتغيّر الأهم بدخول سالم، المنظّر السياسي اللامع، إلى حياتهم جميعاً، يتقدم للزواج منها بعد أن سحرها بكلماته وتحليلاته وأسرها بأخلاقه الحميدة بحثّها على العناية بزوجها السابق، فهو من الانفتاح ما يجعله يسمو على ماضيها وما يجلبه من غيرة ومشكلات، هو أكبر من أن ينافسه أي شخص.. لكن هل ينطبق الأمر على صديقها المقرب؟ ربما عرف بذكائه وخبرته أيضاً ما لم يعرفه صاروف خلال حياته، سهير غارقة في حب صديقها، ومنذ زمن!

يجهد سالم في حثّ سهير للتعرف بصديقها المقرب الذي يعرفه، يريد أن يهزم خصاله الجميلة التي تكررها زوجته المستقبلية في كل حديث، امتهن هزم المثقفين أو هكذا يعتقد، بلاغته وأفكاره في بساطتها ألهمت كثيراً من الشباب ودفعتهم للمشاركة في المظاهرات لتطبيقها قبل أن يتخلى عنها للتأقلم مع الواقع.

تحضر الثورة هنا بعد أن غيّبت بذكاء عن الحضور الفجّ في فصول الرواية لصالح طغيان الذات والذاتية وأولوية الفاعل على البنية.

من سيكتب التاريخ؟ المنتصرون طبعاً! النظام الذي افتتح مؤسسة لهذا الشيء أو اللا شيء، فالمنتصرون بالدم لا يعرفون الكتابة التاريخية، كانوا خارج التاريخ عندما ارتكبوا جرائمهم، يحتاج المنتصرون إلى كتَبة، فتاريخ الملوك إن لم يكن مطعَّماً بسردية وذاكرة يصبح بروباغندا وقتيّة لا تعيش.

الثورة بات لها سرديتها، وذاكراتها، وشهودها، لولا الصمود السردي لانتصرَ النظام من زمن، السردية هي الأمل وهي تمنع حسم المعركة بغضّ النظر عمّن يربح الجولات اليوم.. يجادل صديق سهير خطيبها المتلون بعد لقاءٍ شاءت الرواية أن يجمعهما في بيت صاروف، القاسم المشترك بين الجميع.

التاريخ يتجاوز النظام كما تجاوز المعارضة المهزومة، إنه شأن العالم الذي يجب أن يُحضر لكم رواية تناسبكم، يجيب سالم باستخفاف امتهنه عمّا قيل أمامه: “لا مكانَ للشعب ولا للإنسانية، في دورة التاريخ، الحقيقة الوحيدة؛ القوة هي التي تتحكم بالعالم، ذلك هو التاريخ”، يجيب سالم كعادته باستخفاف لينهيَ الحديث بانتصار وهمي.

الانتصار بـ”تسقيط” النظام

على خلاف ما توقعه الجميع، لم يدخل صاروف في مرحلة اللا شيء كردة فعل، كان واعياً بلا وعيه، وقد ألمَّ بجميع تفاصيل حديث المنظّر المحتال الذي سرق زوجته وجاء إلى بيته، بذريعة الواجب الأخلاقي، ليهزمَ منافسه الحالي في شأن امرأة يحتاج إليها أكثر من أن يحبّها في ما ستؤول إليه عملية كتابة التاريخ التي بدأ المتحاربون معاركها.

يقرر صاروف أمام هول المشهد الانتحار من دون أن يُقدم على الفعل بنفسه، يختار الالتحام بالموقف السياسي ليحصلَ على غايته، ينتصر للثورة، يشتم الرئيس ويسقط النظام خلال ركوبه مع سائق سرفيس فسفوس، يبدأ رحلة طويلة بين الفروع تنتهي بصيدنايا وحكم إعدام أولي.. تنجح سهير بحكم موقعها في الحصول على استثناء وعفو رئاسي بعد شرح حالته وغيابه عن الوعي، يُبرِّئه القاضي، لكن صاروف يُصرّ بوعي وعنادٍ على اعترافاته ويرفض التنازل عنها!.. ربما يريد أن يكتب التاريخ على طريقته، بالموت من أجل قضية عادلة عوضاً عن أن يموت لأنّ حبيبته تركته.

تخسر سهير صاروف، وزوجها المستقبلي، وتعترف أمام جثته المسجَّاة بحبها لصديقه المفضّل لسنوات، من دون أن تخونه أو يلتفت إليها. يرفض أن يبادلها حبّه أو يمتنع، يعيش الجميع في الانفجار الذاتي بانتظار “مؤامرة” التاريخ على الظالمين التي قد تطول لكنها تأتي.

روايةٌ مفتوحة أو غير منتهية تعكس صدى حياتنا وتلامس ذواتنا المتهتكة في معاركها الصغيرة والكبيرة، تصوّر فجائعنا وهزائمنا، لكنها ترسم أملاً لم يَحن، السردية المهيمنة تنتصر مهما كانت النتائج، ولا يوجد أقوى من سردية الثورة.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى