
خلال العامَين الماضيَين، وطوال حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على غزّة، وطاولت رحاها لبنان واليمن وسورية وإيران بشكل مباشر، وتجاوزت تبعاتها ذلك بكثير، برز تفاعلان عالمي واسع، وإقليمي كثيف الحركة، كانا قليلي الإنجاز، ضجيجاً بلا طحين. وتكثّف تواصل كلٍّ من مصر وتركيا، ثنائياً وجماعياً، كالقمم العربية الإسلامية والمجموعة المصغّرة التي انبثقت منها، وضمّت وزراء خارجية خمس دول من بينها مصر وتركيا بالإضافة إلى قطر والأردن وإندونيسيا والسعودية. ولطالما جدّد الرؤساء والوزراء من ممثّلي المجموعة، عبر عشرات الاجتماعات، مطالبتهم بأهمية اتخاذ المجتمع الدولي الإجراءات الفاعلة كافّة لضمان تأمين الممرّات الإغاثية لإيصال المساعدات الإنسانية العاجلة إلى قطاع غزّة، مؤكّدين رفضهم القاطع لكلّ أشكال الاستيطان السافر والتهجير القسري للشعب الفلسطيني، وذلك منذ اجتماعاتهم الأولى ولقاءاتهم ممثّلي المجتمع الدولي في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وحتى قادة أميركا، والدول الكبرى التي زاروها ضمن مهامّهم، لكن ماذا كانت النتيجة ونحن أمام خطّة عملية لاحتلال غزّة تضرب بعرض الحائط كلّ المساعي الدبلوماسية العربية والإسلامية؟
مع اختلافاتٍ ليست هينة في التفاصيل، تقدّر بعض الأجهزة السيادية في كلٍّ من مصر وتركيا بأن إسرائيل عدوّ حالي ومحتمل. ومع ذلك، أيّ إجراءات واقعية لمجابهة هذا العدو والتقليل من خطورته لم تتّخذ بالفعل، صحيحٌ أن النظام التركي بكلّ مستوياته يتّخذ موقفاً أكثر حدّية (وإنْ على المستوى اللفظي) من الكيان الصهيوني، ويصف حركة حماس والفصائل الفلسطينية بأنها حركة تحرّر وطني، ويرفض تسميتها بالحركات الإرهابية، لكنّ الأمر لا يتجاوز هذا كثيراً، وهذا تقصير في الرؤية الاستراتيجية، إذا كنت تتّخذ إسرائيل عدوّاً أو تراها عدوّاً محتملاً، خصوصاً بعد تدميرها القدرات الدفاعية السورية بالكامل عشيّة هروب نظام بشّار وانهياره. الأمر نفسه في مصر، ولكن على استحياء، إذ تذكّرت بعض القيادات الأمنية والعسكرية والسياسية أن إسرائيل عدوّ، وأن الهدف التالي بعد غزّة ودمشق وطهران هو القاهرة، لكن من دون جدّية في التعامل مع تقديرٍ كهذا، ومن دون أن يبدو أن هناك توجّهاً رسمياً حقيقياً ومؤسّسياً يعطي هذه الرؤية مصداقية.
تتيح اللحظة الراهنة بناء تحالف عالمي واسع ضدّ السياسات الإسرائيلية
في لقائه وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، أخيراً، خرج الرئيس المصري، عبد الفتّاح السيسي، بتأكيد رفضه إعادة الاحتلال العسكري لقطاع غزّة، وبالتشديد على رفض تهجير الفلسطينيين، باعتبارهما ضمن موقف مشترك للدولتَين. وتأكيد (والتشديد على) هذا موقف شفوي جيّد، لكن المواقف الشفوية المُعلَنة تتطلّب أن يصدقها ما بعدها، وربّما ما قبلها. وإذا نظرنا إلى ما قبل هذا الموقف الشفوي، والكلام الذي يلوكه الدبلوماسيون، فإننا إزاء قوَّتَين إقليميتَين شديدتي الأهمية في العلاقات الدولية تاريخياً، وشعبَين يرفضان في غالبيتهما الساحقة الاحتلال، بل وجود إسرائيل نفسه، لكنّ السياسات لا تترجم هذا واقعاً، فواحدة من الدولتَين (تركيا) لا تزال رغم إعلان قطع العلاقات التجارية تصدّر بترول أذربيجان عبر أراضيها لإسرائيل، وتشتري الثانية (مصر) غاز إسرائيل المسروق فعلياً من حقول مصرية أو فلسطينية في صفقات تاريخية، وصفعات متتالية للشعوب العربية والإسلامية والقضية الفلسطينية، وما خفي كان أعظم مع شديد الأسف! قد يقول قائل وماذا تمتلك تركيا عضوة حلف شمالي الأطلسي (ناتو)، المنكوبة اقتصادياً بعيد كورونا والزلزال وغيرهما، ومصر المرتهنة للغرب الأميركي، والمثقلة بالديون، لتفعلاه لتنفيذ مطالبهما وتأكيداتهما الشفوية؟… تعالوا بنا نستكشف ما الذي يمكن أن تفعلاه عملياً، حتى يأخذهما العالم على محمل الجدّية.
كان يمكن للدولتين أن تتوقّفا فوراً عن أيّ تعاون اقتصادي وتجاري مع الكيان، بل أن تفرضا حصاراً اقتصادياً كبيراً على إسرائيل، فقد فعل الحوثيون ما لم تفعلاه، ولا يقلّلن أحد من هذا الحصار الاقتصادي، فقد كان سبباً مباشراً في انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وإذا كانت تركيا قد وعدت بقطع العلاقات التجارية مع إسرائيل فلتفعل هي ومصر ذلك الآن وليس غداً، ولديهما الحقّ كلّه في ذلك، باعتبار إسرائيل كياناً معادياً لجميع محيطه وللعالم والإنسانية. فإذا لم تفعلا فنحن ببساطة شديدة أمام أنظمة تقدّم مصلحتها الذاتية في الاستقرار والبقاء، واعتمادها شبه المطلق على القوى الخارجية، وترى هزيمةً للأمّة تصبّ في صالح سردية الاستسلام وإخضاع الشعوب، أهون عليها، وأخفّ ضرراً لها، من أيّ انتصار للأمّة، وبالتالي فلا يجب أن تصدعنا بضجيج بلا طحين، وعليها أن تفسح الطريق لقوى أخرى ترى الأمور بموازينها الصحيحة.
كان يمكن لمصر وتركيا أن تتوقّفا فوراً عن أيّ تعاون اقتصادي وتجاري مع الكيان، بل أن تفرضا حصاراً اقتصادياً كبيراً على إسرائيل
يمكن للدولتين فرض إدخال المساعدات أمراً واقعاً بدلاً من استجداء إسرائيل والمجتمع الدولي لتحمّل مسؤولياتهما وإدخال المساعدات، وما لا يمكن إدخاله فوق الأرض كان يدخل من تحتها في فترات سابقة، كما أن أفكاراً خارج الصناديق يمكن أن تفعّل إذا أخلصت النيّات، فمصر الدولة الوحيدة التي تمتلك حدوداً برّية مع قطاع غزّة، وانتهكت إسرائيل الاتفاقات والبروتوكولات المنظّمة للحدود والمعابر بين غزّة ومصر، وكانت تعدّ حدوداً مصرية فلسطينية خالصة حتى وقت قريب، عندما فرضت إسرائيل احتلالها محور فيلادلفي أمراً واقعاً من دون أن تعترض مصر رسميا لدى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، باعتبار أن هذا تهديد حقيقي للاتفاقات والترتيبات القائمة، وهو تهديد خطير للأمن والسلم الدوليَّين والإقليميَّين بطبيعة الحال، وبالطبع فأيّ حديث عن وقف التهجير من دون فرض إدخال المساعدات هو عبث محض.
تستطيع الدولتان الانضمام لدعوى جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، وقد أعلنتا استعدادهما للانضمام إليها أكثر من مرّة ولم تفعلا، بل تستطيعان رفع دعاوىً جديدة، والسعي إلى انضمام الدول العربية والإسلامية، وغير الإسلامية، كافّة، إلى هذه الدعوى، ما يشكّل ضغطاً شديداً على الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرّفاً في تاريخ الكيان، وبالاستناد إلى الزخم العالمي الشعبي والرسمي يمكن لهذا أن يشكّل ضغطاً هائلاً على الحكومات لكي تتّخذ موقفاً أكثر تشدّداً من إسرائيل، لا يقف عند حدود الابتزاز التاريخي القائم على تخلّي المقاومة عن سلاحها مقابل الاعتراف بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، أو سيطرة عربية مزعومة على غزّة لتحويلها ضفّةً جديدة تعمل فيها قوات عربية لحماية الاحتلال من المقاومة الشرعية له. تستطيعان كذلك الانضمام إلى مجموعة لاهاي، وتستطيعان خلق تحالف دولي واسع يجمع كلّ المناهضين للسياسات الإسرائيلية عبر العالم، وأن تستخدما سفاراتهما حول العالم لتجميع كلّ جهد ممكن في مواجهة هذا الكيان وادّعاءاته، ودعم كلّ مناهضيه وهم كثر، ويزدادون من شوارع سيدني وبلجيكا وبرلمانات أيرلندا وإسبانيا والاتحاد الأوروبي، وهذا كلّه يحتاج جهداً تشبيكياً صادقاً لإحداث أثر هائل يحجّم الادّعاءات بمعاداة السامية التي تستند إلى شبكات مصالح قوية عبر العالم بُنيت عبر قرنين، وليست هناك لحظة تاريخية أفضل من هذه لمناهضتها وفرض الدولة الفلسطينية، بل وتقويض كلّ ادعاءات إسرائيل، وذلك كلّه يعزّز سيادة واستقلال واستقرار النظامين في الوقت نفسه.
المصدر: العربي الجديد