الجهل عدوّ الكرامة

   جورج كعدي

يلحّ على كُثرٍ، ومنهم صاحب هذه السطور، سؤال الانكفاء العربيّ عن مأساة غزّة، شعوباً ونظماً وحكومات وهيئات اجتماعية ونقابات وغالبية مفكّرين ومثقّفين، باستثناء قلّة من هؤلاء قياساً بحجم أمّة عربية وإسلامية هائلة تعداداً. ولتهدئة نفوسنا حيال هذا المشهد المهين والمملوء خذلاناً وانعدام إحساس بالكرامة العربية والإسلامية والمسيحية والإنسانية المنتهكة، نحاول أن نجد أعذاراً ومبرّرات للانكفاء والخمول والتهاون، لدى الشعوب أولاً وبخاصّة، فنظنّ بحسن نيّة أنّ القمع والعَوز وهمّ تحصيل العيش هي أسباب مخفِّفة ربّما، إلّا أنّنا لا نقتنع تماماً بمبرّرات كهذه، ولا نراها كافيةً للإقفال على السؤال. وأيّ من تلك الافتراضات لا يوفّر إجابةً مقنعةً، فالقمع يمكن تجاوزه والتصدّي له بحجم الاحتجاج الشعبي الضخم الذي يُحرج السلطات وأجهزتها العسكرية والأمنية، ويشلّ فعلها.

تستحقّ مأساة غزّة (وفلسطين) تظاهرات مليونية في مصر (في أول القائمة) وسورية (رغم انهماكها بصراعاتها ومجازرها الطائفية) والعراق (رغم تناقضاته الكثيرة وانقساماته الطائفية والإثنية) والأردن (رغم موقعه الصعب وواقعه الحرج) ولبنان (الغارق أيضاً في تناقضاته وانقساماته)، ولو هبّت هذه الشعوب هبّة رجل واحد لزلزلت الأرض تحت أقدام كيان الإبادة، ولشعر نتنياهو وعصابته المتوحّشة وجمهوره الدموي بتردّدات الزلزال تحت أقدامهم، ولأُرغم على وقف مقتلته الفريدة بوحشيتها في التاريخ. هذا عذرٌ أوّل يسقط. أمّا عذر الجوع ولقمة العيش، فلا أحد يُحمّل نفساً وِزراً أثقل من طاقتها على الاحتمال، إذ يكفي الفقراء في مجتمعاتنا العربية (وهم الأكثرية الساحقة) أن يخرجوا بعد صلاة الجمعة من مساجدهم إلى الشارع ويشكّلوا لساعات قليلة جمهوراً مليونياً يُطلق عالياً صراخ الاحتجاج من أجل غزّة. هل هذا كثير؟ وهل يسلب تحصيل لقمة العيش وقتاً طويلاً؟ بالتأكيد لا، فالمشكلة على ما يبدو هي في مكان آخر عنوانه الجهل.

أقصد بالجهل (سبباً للانكفاء) عدم المعرفة الكافية والضرورية بالعدوّ، وقد سبق لزميلنا رئيس تحرير “العربي الجديد”، معن البياري، أن أفاض في مقالته “في تذكُّر اعرف عدوّك” (2/6/2025) في شرح المعرفة والضرورة، مكرّراً الدعوة إلى معرفة العدوّ، وإلى اكتشاف “إسرائيل” التي لا نعرفها، واكتشاف “جهلنا الطويل بها”، وفق تعبيره، وإلى التعريف بتاريخ القضية الفلسطينية ومساراتها ضمن مناهج التدريس العربية. والدعوة هذه فيها كثير من الحقيقة والنباهة، ووضع الإصبع على جرح الجهل الذي تشكو منه مجتمعاتنا، وعدم معرفة الخطر الذي تمثّله الصهيونية في أرض فلسطين وأرضنا العربية وفي العالم كلّه. أليس جهلاً عدم التنبّه إلى أن الخطر الصهيونيّ مقبل نحو الشعوب والأوطان العربية كافّةً بعد فلسطين؟ أليس جهلاً الاستخفاف بخطر الكيان الإسرائيليّ المحتلّ لأرض عربية على المسلمين والمسيحيين تحت راية اليهودية، المعادية بعمقها اللاهوتي والعَقَدي لباقي الأديان؟ أليس جهلاً الدخول مع عدوّ مجرم وطامع في شراكات اقتصادية أو تطبيعية أو إبراهيمية، وهو طرفٌ خبيثٌ لعينٌ غير مأمون الجانب الآن ومستقبلاً؟ أليس جهلاً ترك غزّة المنكوبة والمتألمة والمذبوحة لمصيرها، وعدم التحرّك لنصرتها التي هي نصرة للذات وللدين وللانتماء إلى الأمّة ذات المصير والإيمان المشتركَين؟… إن لم يكن هذا جهلاً من النظم والحكومات العربية والإسلامية، وفئات شعبية واسعة، فهو تواطؤ وخيانة واستسلام أحمق لعدو فاجر سيجتاح في يوم قريب العروش والكراسي وثروات الأرض، ولأمّة الإسلام بعد ذلك بئس المصير! إن بقيت على خذلانها وتفرّجها على المأساة وانعدام شعورها بالكرامة. تكونُ أمّة جاهلة في هذه الحال، والجهل عدوّ الكرامة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى