
تعاني الدبلوماسية الأميركية، في نظر المتابعين، من تداعٍ لإرثها، وقوّتها التي بناها كبارٌ من أمثال السياسي والمؤرّخ المفكّر جورج كينان (1904- 2025)، بنوا مجدها خلال سنوات الحرب الباردة، وفيهم من شارك في تعزيز المنظّمة الأممية ومبادئها. ها هي الآن، وبعد أن كانت كياناً قائماً ومستقرّاً بتخصّصه في حماية المصالح السياسية الأميركية، وعبر عقودٍ من الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض (ديمقراطيين كانوا أو جمهوريين) صارتْ أخيراً ملفّاً ساخناً من ملفّات التنافس بين الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة.
يدور سجال بين المتخصّصين والأكاديميين والدبلوماسيين حول إنْ كان ثمة ضرورة لإحداث إصلاح في جسم الخدمة الخارجية، وهي خدمة لا تشمل وزارة الخارجية وحدها، بل عدداً من الوكالات والهيئات الأخرى التي يتّصل عملها ونشاطها بالخارج. هنالك 270 بعثة دبلوماسية أميركية في الخارج، وعدد موظّفيها يقارب ثلاثين ألفاً. إذا أضفنا باقي هيئاتٍ أخرى، سيصل العدد إلى أكثر من سبعين ألف دبلوماسي وموظّف. لقد شهدتْ وزارة الخارجية الأميركية توسّعاً كبيراً، وتكاد تكون لها ممثلية في كلّ بلد في العالم. ولعلَّ أكثر جهود التوسُّع والانتشار قد تمت بيد الإدارات الديمقراطية. من الواضح أن إدارة الجمهوريين تتعامل بحساسية بالغة تجاه مبادرات الإدارات الديمقراطية المتعاقبة كافّة.
لقد اتجهتْ إدارة الرئيس الجمهوري الحالي، ترامب، بقوةٍ إلى إصلاح هياكل وزارة العلاقات الخارجية ومهامها، مدفوعةً بشعارات ابتدعها الرئيس ترامب نفسه، أولها مناداته باستعادة العظمة الأميركية، منطلقاً من هواجس عدائه للإدارة السابقة التي تولّاها الرئيس الديمقراطي السابق جو بايدن.
(2)
في نظر الرئيس ترامب ومشايعيه، تعاني وزارة الخارجية الأميركية تراجع فعّاليتها خلال السنوات الماضية، أو أنّ الديمقراطيين أضاعوا تلك الفعّالية. وذلك ما استدعى ضرورة إصلاح هياكلها ومهامها. كتب أحد كبار محرّري مجلة فورين بوليسي الأميركية، ماثيو كرونيغ، مقالاً (8/8/2025) نقل فيه قولاً لوزير دفاعٍ أميركي سابق شدَّد فيه على ضرورة توفير ميزانية عالية لوزارة الخارجية، وإلا سيكون لزاماً على وزارة الدفاع العمل على توفير المزيد من الذخائر. يقول كرونيغ إن تخفيض عدد الموظفين في وزارة الخارجية لم يتجاوز الثلاثة آلاف من نحو 80 ألفاً، وأشار إلى أن حوالي 25 إدارة تتواصل مباشرة مع الوزير، وذلك يشكّل عبئاً كبيراً على وزير يدير مجلس الأمن القومي وزارة الخارجية معاً، والأمر يتطلّب تقليص بعض المهام، وإلى أنّ الاهتمام بالقضايا الدولية مثل البيئة والمناخ والتنوّع والإدماج حاز قسطاً أكبر من الاهتمام الأساس والرئيس لتطوير العلاقات الثنائية الخارجية، وأن الحاجة للإصلاح باتت واضحةً، وأنّ التوسّع خلال حقب الديمقراطيين كان كبيرا إبّان رئاستَي بيل كلينتون وباراك أوباما، ووصل حجـم موظّفي العلاقات الخارجية العاملة إلى نحو ثمانين ألفاً. قامت وزارة الخارجية الأميركية بتقليص في الوظائف طاولَ ثلاثة آلاف من موظفيها (ودبلوماسييها) في الشهر الماضي. إنْ تولى الوزير الحالي ماركو روبيو إدارة مجلس الأمن القومي، وأيضاً حقيبة الخارجية، فإن ذلك يمنحه ميزة مناسبة لضبط الإيقاع بين أداء الإدارتين، ويُعزِّز الفعّالية، ويعالج الترّهل الوظيفي، عبر تحقيق التوازن بين الإدارتين.
اتجهتْ إدارة ترامب إلى إصلاح هياكل وزارة العلاقات الخارجية ومهامها، مدفوعةً بشعارات ابتدعها الرئيس ترامب نفسه. أولها مناداته باستعادة العظمة الأميركية
(3)
في السجال الدائر حول سياسات التقليص التي تتبعها إدارة ترامب، كتب رئيس اتحاد الخدمة الخارجية الأميركية (AFSA)، جون دينكلمان، رأياً مغايراً، أشار فيه إلى أنَّ ذلك التقليص الذي ألحقته وزارة الخارجية بهياكلها وموظّفيها، هو جرح أحدثته الوزارة بيديها. فقبل نحو شهر تخلّصتْ الوزارة من حوالي ثلاثة آلاف من جملة عناصرها في الخدمة الخارجية البالغ عددهم نحو سبعين ألفاً. ذلك في نظر رئيس اتحاد الخدمة الخارجية الأميركية أضعف فعّالية وزارة الخارجية، خصوصاً بعد أن ظلّتْ العديد من السفارات الأميركية بلا سفراء، وتدار من قائمين بالأعمال. سفارات مهمّة في قارّة خلتْ من سفراء يديرون أعمالها، فيما تواجه الولايات المتحدة اشتباكات حادَّة مع المارد الصيني، وإدارة ترامب تشعل حرباً تجارية تعارضها الصين بشدَّة. نجيل النظر فنرى الرئيس ترامب يبادر إلى إيجاد تسوية توقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، لكن تظلّ السفارة الأميركية في أوكرانيا بلا سفير وتدار بواسطة قائم بالأعمال.
يتواصل السجال ويبقى السؤال: ألا تحتاج البعثات الدبلوماسية الأميركية تعزيز فعّاليتها وتقويتها، أم أن لترامب رأياً آخر؟
(4)
ليس خافياً على من يتابع أوضاع الدبلوماسية الأميركية، أنّ ترامب يراهن على مستشاريه ومبعوثيه الخاصّين، وجلّهم من مشايعيه من رجال الأعمال في الحزب الجمهوري الحاكم. تجد الملياردير ستيف ويتكوف، الخبير في مجالات العقارات، مبعوثاً خاصّاً للرئيس ترامب إلى الشرق الأوسط، وتوم برّاك وهو أيضاً ملياردير في مجال العقارات ويجيد اللغة العربية، عيّنه ترامب مبعوثاً خاصّاً للرئيس إلى سورية ولبنان، أمّا صهر ترامب ومستشاره، رجل الأعمال ذو الأصول اللبنانية مسعد بولس، فصار معنياً بملفّ السودان. هؤلاء كلّهم، وآخرون من المليارديرات والأثرياء، الأقرب بذهنياتهم التجارية إلى ذهنية ترامب في حذق إبرام الصفقات، هم في الدائرة الضيّقة للبيت الأبيض. إلا أن تخفيض القوى العاملة في قطاع العلاقات الخارجية، يترك الدبلوماسية المهنية تترنّح إزاء إعطاء الرئيس ظهره لها. ليس ذلك وحده، فوزير الخارجية ماركو روبيو يُكلَّف رئاسة مجلس الأمن القومي، التي ستكون شغله الشاغل، وهكذا سيُكتب لوزارة الخارجية تراجع أشبه بالتهميش الكامل.
الدبلوماسية الأميركية صارت ملفّاً ساخناً في صراع الحزبَين، بعد أن كانت مؤسّسة مستقرة تحمي المصالح الوطنية
إنَّ تعيينات سياسية من رجالات الحزب الجمهوري في وزارة الدبلوماسية الأميركية، تلقي لوناً من الانحياز الحزبي غير المعهود، الذي قد يلحق ضرراً بطبيعة العمل الدبلوماسي، الذي لا ينبغي أن يتّخذ لوناً حزبياً يناقض المبادئ التي تُلزم الدبلوماسيين بالحياد خدمةً للدولة، وليس لأيِّ حزب سياسي. وهكذا كما نلاحظ، فإنّ الدبلوماسية المهنية تتراجع أمام نوعٍ مِن الدبلوماسية الرئاسية التي يتولّاها دونالد ترامب (ذو التطلّعات غير المحدودة) بنفسه، قاصداً تحقيق شعاره الشعبوي بأن يُعيد للولايات المتحدة عظمتها وعزّتها التي أضاعها الديمقراطيون (بحسب زعمه).
(5)
إنّ دبلوماسيةً طبيعتها قيد تحوّلات رغبوية، من رئيسٍ مثل دونالد ترامب، ستلقي بظلال كثيفة على الأساليب التي يتّبعها الرجلُ إزاء الأزمات الطاحنة التي تدور في أنحاء العالم، فيما هو طامع بالانفراد، مراهناً على إيجاد حلول لها، متجاوزاً بذلك المنظمة الأممية وميثاقها واتفاقياتها، وكلِّ إلزاميتها. لعلّنا لو أحسنّا النظر سنرى الرجل سـاعياً إلى مجدٍ شخصي يحقّقه لنفسه وعينه باتجاه ستوكهولم، علَّه ينال جائزة نوبل للسلام، أمّا أميركا فلتبحث عمّن يعيد لها عظمتها.
في عصرِ الذكاء الاصطناعي، ها نحن ندخل حقبةً عجز فيها المفكّرون والسياسيون والدبلوماسيون عن حلِّ أزمات العالم المتصاعدة، فهل ينجح الذكاء التجاري بعقلية الصفقات والتسويات في تحقيق الأمن والسلم الدوليَّين، فنقول للأمم المتحدة وداعاً؟
المصدر: العربي الجديد