عن طفولة تحت القصف في غزّة

أنور الجمعاوي

في زاوية منسية من الجغرافيا العالمية، يُكابد أطفال غزّة من أجل الحقّ في الحياة. وذلك منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي الغاشم على القطاع بعد موقعة 7 أكتوبر (2023). ولا يعرف هؤلاء من الطفولة سوى اسمها، فقد غابت عنهم ملامح البهجة والطمأنينة، والإحساس بالراحة والامتلاء بالأمل، واقترنت طفولتهم بالدمار والجوع والخوف، وانتظار موت عاجل أو بطيء في ظلّ حصار طويل، وحروب متكرّرة، وانهيار مستمرّ في الأوضاع المعيشية، حتّى تحوّلت غزّة إلى مساحة مغلقة ومدينة مهشّمة، يعاني فيها جيل كامل من الأطفال انتهاكاتٍ إسرائيليةً يومية، مسّت حياتهم النفسية والجسدية، وكينونتهم الوجودية، وسط تخاذل عربي مُريب وصمت دولي يكاد يكون متواطئاً. ولمعاناة أطفال غزّة في ظلّ حرب لم يختاروها ولم يساهموا فيها تجلّيات شتّى، تستصرخ الضمير الإنساني، وتستدعي معالجةً جادّةً واستجابةً فاعلةً من العرب والمجتمع الأممي.

أفرزت الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزّة آثاراً صحّية كارثية على الأطفال، فانهارت البنية الصحّية الأساسية في القطاع بشكل شبه كامل، ما جعل الأطفال أكثر الفئات عرضةً للمرض والموت. لقد أدى الحصار المتواصل وتدمير المستشفيات والمراكز الصحّية إلى انعدام الرعاية الصحّية الأولية والطارئة، وغياب الخدمات الوقائية والتطعيمات الأساسية، وهو ما تسبّب في تفشّي أمراض معدية مثل الإسهال الحادّ والتيفوئيد والتهاب الكبد الوبائي وشلل الأطفال. كما يعاني أطفال غزّة من نقص في الأدوية الحيوية لعلاج أمراض مزمنة، إضافة إلى ندرة أدوات التشخيص والعناية المركزة. وفي ظلّ الحصار الغذائي وتراجع جودة المياه، بات سوء التغذية أحد أخطر التحدّيات الصحّية التي تهدّد حياة الأطفال. فبحسب تقرير لمنظّمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) احتاج، منذ بداية 2025 وحتى نهاية مايو/ أيار من العام نفسه، 16736 طفلاً للعلاج من سوء التغذية، بمعدّل 112 طفلاً يوميّاً. وبحسب برنامج الأغذية العالمي ارتفعت نسب سوء التغذية بين الأطفال دون سنّ الخامسة إلى مستويات قياسية، فبلغ معدّل سوء التغذية الحاد قرابة 15%، في حين يعاني أكثر من 30% من الأطفال من تأخّر في النمو الجسدي والعقلي. وبفعل نقص الوقود وانقطاع الكهرباء، تعطّلت حضّانات الأطفال في المستشفيات، ما أدّى إلى وفاة رضّعٍ عديدين نتيجة توقّف أجهزة التنفّس والأوكسجين. ويُفاقم هذا الوضع غياب المرافق الطبّية المتخصّصة بالأطفال، وشُحٍّ حادٍّ في حليب الأطفال والمكمّلات الغذائية والمياه النظيفة، ما أنتج أزمةً صحّيةً مركّبةً، لا تُهدد حياة الأطفال آنيا فحسب، بل تنذر بعقود من الآثار الجسدية والتنموية طويلة الأمد، إذا لم يتم التدخّل الإنساني بشكل عاجل ومنهجي.

إجهاض ممنهج لحقّ الطفل الفلسطيني في النمو، وبناء الذات، والمشاركة الفاعلة في مجتمعه ومستقبله

وتُعدّ الآثار النفسية للحرب على أطفال غزّة من أخطر تجلّيات الأزمة الإنسانية المستمرّة في القطاع، فواجه الأطفال مستويات غير مسبوقة من الصدمة النفسية، تفوق قدرة التحمّل الفطري لأيّ طفل. فقد كشفت تقارير صادرة عن منظّمات دولية، مثل يونيسف وأطبّاء بلا حدود، أن الغالبية العظمى من أطفال غزّة يعانون اضطراب ما بعد الصدمة، بالإضافة إلى أعراض القلق الحادّ، والكوابيس المتكرّرة، وفقدان الشعور بالأمان. فكثير من هؤلاء الأطفال شهدوا دمار منازلهم، أو تعرّضوا لفقد أحد الوالدين أو الإخوة، أو عاشوا تحت القصف المتواصل أياماً طويلةً، ما عمّق لديهم الإحساس بالعجز والخوف المزمن. وتشير دراسات نفسية ميدانية إلى أن هؤلاء الأطفال يُظهرون سلوكياتٍ انسحابيةً أو عدوانيةً، وتراجعاً في المهارات الاجتماعية والتعليمية، نتيجة التوتّر المستمرّ وغياب بيئة مستقرّة. كما أن تكرار دورات العنف والحصار، من دون أفق واضح للحلّ أو التعافي، يزيد من خطر التحوّل إلى “جيل مصدوم طويل الأمد”، يحمل آثار الحرب النفسية إلى سنّ البلوغ وما بعدها، بما في ذلك الاكتئاب المزمن، والإدمان، أو العنف المعكوس تجاه الذات أو الآخرين. وفي ظلّ انهيار مؤسّسات الصحّة النفسية وشحّ الموارد والدعم، تبقى معاناة أطفال غزّة النفسية جرحاً مفتوحاً، يُهدّد بتداعيات بعيدة المدى على مستقبلهم الفردي والمجتمعي.

كما يشكّل التعليم أحد أبرز الحقوق الأساسية المُنتهَكة في حياة أطفال غزّة خلال الحرب الإسرائيلية الضّارية، المستمرّة، إذ تحوّل هذا الحقّ حلماً بعيد المنال في ظلّ الدمار الشامل للبنية التحتية التعليمية، والظروف الأمنية والمعيشية القاسية. تشير تقارير وزارة التربية والتعليم الفلسطينية ومنظّمة يونيسف إلى أنّ جيش الاحتلال دمّر مئات المدارس كلّياً أو جزئياً، وتحوّلت أخرى ملاجئَ للنازحين، ما أدّى إلى حرمان أكثر من مليون طفل من الالتحاق بالتعليم النظامي. وقد ترافق هذا الانقطاع مع فقدان آلاف المعلّمين، إمّا قتلى أو نازحين، وإلى توقّف شبه تامّ للأنشطة التعليمية الرسمية وغير الرسمية. وتتفاقم هذه الأزمة بسبب انعدام الأمن النفسي والجسدي للأطفال، الذين يعيشون تحت القصف المستمرّ أو في بيئات نزوح مكتظّة وغير مهيّأة للدراسة. ويعني حرمان الطفل الغزّي من التعلّم خسارة سنوات دراسية كاملة، وهو ما يعمّق فجوة اكتساب المهارات المعرفية بينه وبين أقرانه حول العالم. وفي ذلك إجهاض ممنهج لحقّ الطفل الفلسطيني في النمو، وبناء الذات، والمشاركة الفاعلة في مجتمعه ومستقبله.

غابت الإرادة السياسية والضغط الدبلوماسي المؤثّر، وتُرك أطفال غزّة يواجهون القتل والجوع والتشريد في ظلّ تآكل التضامن الرسمي العربي

إلى ذلك، تمثّل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة كارثةً إنسانيةً شاملةً، دفعت آلاف الأطفال نحو متاهات الفقر المدقع والتشرّد القسري. فقد أدّت الهجمات المتواصلة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى تدمير واسع للبنية التحتية المدنية، بما في ذلك المنازل، والمدارس، والمرافق الحيوية، ما تسبّب في تشريد أكثر من 1.7 مليون فلسطيني، يشكّل الأطفال أكثر من %50 منهم. وجد هؤلاء أنفسهم فجأةً بلا مأوى، يعيشون في خيام مكتظّة أو تحت أنقاض المباني، من دون أدنى مقوّمات الحياة الكريمة. وترافق هذا النزوح الجماعي مع انهيار اقتصادي شامل، إذ فقدت آلاف الأسر مصادر دخلها، بعد تدمير جيش الاحتلال الأسواق والمصانع الصغيرة، والمؤسّسات الحكومية، وهو ما جعل أطفال غزّة يعيشون في ضنك، ويعانون ويلات فقر متعدّد الأبعاد.

بناءً على ما تقدّم، أصبحت غزّة في ظلّ الحرب الإسرائيلية الشعواء بيئةً غير صالحة للحياة، خصوصاً بالنسبة إلى الأطفال الذين يُفترَض أن ينمون في أجواء من الأمان والرعاية. فقد تحوّل القطاع إلى أحياء مقطّعة مهدّمة، تتكدّس فيها الأنقاض، والمياه الآسنة، والهواء الملوّث، وتفتقر إلى الخدمات الأساسية، ما جعل حياة المدنيين عموماً، والأطفال خصوصاً، محفوفةً بالمخاطر الصحّية والجسدية والنفسية. وتفيد تقارير صادرة عن الأمم المتحدة ومنظّمة الصحّة العالمية بأن البنية التحتية للمياه والصرف الصحّي قد انهارت بالكامل، ممّا أدى إلى تفشّي الأمراض المنقولة عبر المياه، مثل الإسهال الحادّ، الذي يُعدّ من أبرز أسباب الوفيات بين الأطفال دون سنّ الخامسة. وأمام هول المأساة الإنسانية التي يعيشها أطفال غزّة، فشل المجتمع الدولي والدول العربية في وقف آلة القتل والتدمير الإسرائيلية التي تستهدف الأطفال الأبرياء وعموم المدنيين. فقد اكتفى المجتمع الدولي بإصدار بيانات إدانة من دون اتّخاذ خطوات عملية لوقف القصف أو فرض آليات حماية فعّالة للأطفال. فيما ظلّ مجلس الأمن الدولي عاجزاً عن استصدار قرار يُلزم إسرائيل بضمان سلامة المدنيين والأطفال.

 من دون حماية حقيقية فإن الطفولة في غزّة مجرد انتظار لموت عاجل أو بطيء

عربياً، غابت الإرادة السياسية والضغط الدبلوماسي المؤثّر، وتُرك أطفال غزّة يواجهون القتل والجوع والتشريد في ظلّ تآكل التضامن الرسمي. هذه الحالة من الخذلان المزدوج، عربياً ودولياً، تُخبر بأزمة قيمية عميقة تعتري المجتمع الدولي، وتقوّض ثقافة حقوق الإنسان. إزاء هذا الواقع المأساوي الذي يعيشه أطفال غزّة لا يمكن الاكتفاء بردّات الفعل العاطفية أو المبادرات والمظاهرات الموسمية، بل لا بدّ من بلورة خطّة عملية عاجلة شاملة قوامها وقف العدوان، وتوفير الحماية الأممية لسكّان غزّة، وإعادة الإعمار. فمن المهم تكثيف الجهود الدبلوماسية لفرض وقف فوري لإطلاق النار، تحت إشراف الأمم المتحدة، وتوفير ضمانات قانونية لحماية المدنيين، والأطفال، استناداً إلى اتفاقات جنيف والقانون الدولي الإنساني.

ويتطلب الوضع تأمين الغذاء، والماء، والرعاية الصحّية، والدعم النفسي للأطفال المتضرّرين، وإيجاد ممرّات إنسانية دائمة وآمنة بإشراف دولي، والسماح بدخول المساعدات والمنظّمات المعنية بالطفولة مثل يونيسف وأطباء بلا حدود، للعمل داخل القطاع. كما يجب إطلاق برامج دعم نفسي واجتماعي متخصّصة لمعالجة الصدمات النفسية العميقة التي لحقت بالأطفال نتيجة الفقدان، والتشريد، والخوف المزمن. ومن الضروري بلورة خطّة طويلة المدى لإعادة إعمار المدارس، والمرافق الصحّية، والمساكن، مع إعطاء أولوية قصوى لاحتياجات الأطفال، ومشاركتهم في وضع السياسات المحلّية المتعلّقة بحقوقهم.

إنّ ما يعانيه أطفال غزّة لا يمكن فصله من السياق السياسي العام، فهو نتاج سياسات الاحتلال والحصار، وإمعان إسرائيل في تجاهل القوانين الدولية. وما يجري في القطاع ليس مجرّد أزمة إنسانية عابرة، بل انتهاكات مستمرّة للطفولة، تستدعي موقفاً أخلاقياً وسياسياً دولياً حازماً. فبقاء الأطفال في هذا الوضع، من دون أفق أو حماية، يُهدّد مستقبل المنطقة برمّتها، لأن الطفولة المنتهكة اليوم هي بذرة الغضب والعصيان غداً.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى