حُسم الأمر في واشنطن بإبقاء قواتها العسكرية في سورية، وفي شرقي الفرات بالتحديد، إلى أجل غير مسمى، وأصبح الحضور الأميركي في سورية خارج النقاش وخارج التأويلات والتوقعات. “نحن باقون وقواتنا لن تغادر سورية” هذا ما قاله مجلس الأمن القومي الأميركي. ولتأكيد هذه الجدّية، شحن الجيش الأميركي منظومة صواريخ متطوّرة (هيمارس) إلى شرقي الفرات، بعد أن كانت في نهاية عام 2017 قد نقلت أجزاء من تلك المنظومة من الأردن إلى قاعدتها في التنف التي تسيطر عليها قوات التحالف الدولي، بمشاركة فصائل من الجيش الحر. وجاء استقدام المنظومة الصاروخية الجديدة ليدعم منظومة أخرى سبقتها “M777S” التي منحت قوات التحالف الدولي نوعاً من الأمان من هجمات مفاجئة، لكن شحن منظومات الصواريخ لم يكن منفرداً وترافق مع شحناتٍ أخرى، حوّلتها وزارة الدفاع الأميركية والقيادة المركزية الوسطى من الأردن إلى سورية بعد سحبها من العراق، ولوحظ في الأشهر القليلة الماضية زيادة كمية ونوعية في شحنات السلاح الأميركي لقواتها في سورية، آخرها قبل أيام عبر قافلة عبرت من العراق في معبر الوليد في أقصى الشرق السوري قرب بلدة اليعربية، وضمت القافلة 35 شاحنة ضمّت تجهيزات عسكرية ومصفّحات أميركية ومواد لوجستية. وترافق هذا التحرّك أيضاً مع وصول سرب طائرات أميركية هجومية إلى منطقة الخليج العربي من نوع A-10 وانضمام الغوّاصة النووية الأخطر “يو إس إس فرجينيا” التي تحمل 154 صاروخ توما هوك لجهود الأسطول الخامس العامل في الخليج العربي، وقيل حينها إن الهدف من حضورها دعم القوات الأميركية في كامل مناطق الشرق الأوسط، ومن ضمنها دعم القوات الأميركية الموجودة في سورية. ولم يتوقف الأمر عند الدعم العسكري، بل ترافق مع تحضيرات ومناورات وتدريبات مشتركة مع الحلفاء في المنطقة.
في التحضيرات، كانت هناك جهود أميركية بدأت منذ أشهر مع زيارة رئيس الأركان الأميركي، مارك ميلي، لشرقي الفرات، ولمرّتين متتاليتين بفارق زمني بسيط، وفيها طرح مشروعاً أميركياً لإعادة هيكلة قيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وجناحها السياسي مجلس سوريا الديمقراطي (مسد)، وإيجاد نوع من التوازن للمكوّنات السورية في شرقي الفرات، بحيث تتخلى القيادة الحالية لـ “قسد” الخاضعة لهيمنة حزب العمال الكردستاني عن أجزاء من صلاحياتها وقرارها لصالح المكوّنات العربية من العشائر ومن مجلس دير الزور العسكري ومن لواء ثوار الرقّة وقوات الصناديد التي يقودها بندر حميدي الدهام (من آل الجربا وعشيرة شمّر). واستطاع التحالف الدولي وبرعاية أميركية توحيد جهود قوات الصناديد مع قوات جيش سورية الحرّة الموجود في قاعدة التنف، وإيكال لهما مهمة بجناحين، شمالاً وجنوباً، على الحدود العراقية – السورية تتضمن عدم تسلل مليشيات تتبع لإيران أو لبقايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لمناطق شرقي الفرات وقاعدة التنف.
من حيث المناورات، شهدت قاعدة التنف وقواعد التحالف في شرقي الفرات (حقل العمر، معمل غاز كونيكو، الشدادي، الرميلان) مناورات وتدريبات مشتركة بين الحلفاء، لكن مما كان ملاحظاً عليها أنها شملت مهام وتدريبا على عتاد يزيد عن مهام قتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ويؤشّر بطريقة ما إلى أن العدو قد يتغير، وأن المهام والأهداف قد تتبدلان، وأن مليشيات إيران الموجودة في أرياف دير الزور ومدينتي البوكمال والميادين والبادية السورية قد تكون من ضمن الأهداف القادمة للتحالف الدولي والشركاء من القوات السورية المتحالفة معه.
الإعلان عن البقاء في سورية وزيادة حجم الشحنات العسكرية، والسعي إلى تغيير هيكلية الشركاء، ونوعية التدريبات والمناورات التي حصلت، كلها مؤشّرات ودلالات تترافق مع حملة التطبيع العربي والإقليمي، وتترافق مع تصريحات إيرانية تجعل من القوات الأميركية أهدافاً لهجمات مليشياتها في سورية، في وقت كشفت فيه صحيفة واشنطن بوست عن تسريبات استخباراتية تؤكّد تطوير روسيا وإيران عبوات ناسفة متطوّرة خارقة للدروع، قادرة على التأثير على العربات المصفّحة الأميركية وعربات التحالف الدولي، وأنه تم التدريب عليها من مليشيات إيران، وتم تسليمها بالفعل، وبات خطرها وشيكاً، وأن مليشيا حزب الله اللبناني استقدمت شاحنتين تقلان صواريخ متوسّطة المدى إيرانية الصنع ومنصّات إطلاق صواريخ، بالإضافة إلى معدّات لوجستية وذخائر من مواقعها قرب الحدود “السورية – اللبنانية” في ريف دمشق إلى منطقة “العليانية” قرب قاعدة التنف، التابعة لقوات “التحالف الدولي” في منطقة الـ55.
في أبجديات السياسة الأميركية وبتصريح كبار المسؤولين، هناك لازمة لا يفتأ يردّدها هؤلاء أن لا خطط ولا نيات أميركية لحرب مع إيران، رغم أن مصادر صحافية كشفت منذ أشهر عن خطة حرب عسكرية احتياطية تعدّها وزارة الدفاع الأميركية بالتعاون والتشارك مع إسرائيل، وأنها تنتظر انقطاع آخر آمال التوافق بالملف النووي الإيراني عبر المفاوضات على الجبهة الأوروبية، وأن الخطّة ستوضع موضع التنفيذ بمجرّد الفشل في التوصل إلى اتفاق نووي، بعد استكمال بعض الترتيبات النهائية التي تحتاجها الخطة ولم تنته بعد، لكن تلك الخطّة لا تستثني اعتماد السيناريو الإسرائيلي “حرب بين الحروب” أو “معركة بين الحروب” الذي قد يقع في أي لحظة، كما حدث عند مقتل متعاقد أميركي في قاعدة الرميلان (أقصى شمال شرق سورية) عن طريق مسيّرة إيرانية، استدعى حينها معركة خاضتها الطائرات الأميركية يومين متتاليين، دمّرت من خلالها مستودعات ومخازن ومواقع تتبع لإيران في البادية السورية وأرياف دير الزور.
في الحديث عن حرب مع إيران في سورية، لا يمكن تجاهل الدعم الروسي لإيران نوعا من الانتقام لما تفعله الولايات المتحدة وحلف الناتو في أوكرانيا ضد الجيش الروسي عبر دعم الأوكرانيين، ولا يمكن أيضاً إغفال الانزعاج التركي من نقل كل تلك الأسلحة المتطوّرة ووضعها على مقربة من الحدود التركية، لدى قوات تعدّها أنقرة معادية وتخضع لهيمنة عدوها اللدود حزب العمال الكردستاني، وأن تصريحات المسؤولين الأميركيين بعدم وجود نية أميركية إلى إنشاء كيان كردي في سورية لن تعطي الطمأنينة للأتراك.
في توجهات “قوات سوريا الديمقراطية” لا مكان للقتال ضد جيش الأسد وإيران، بل تفاهماتها مع التحالف الدولي تحصر قتالها فقط في مناطق شرقي الفرات وحماية حدودها، ووجود المربّعات الأمنية للنظام داخل مدينتي القامشلي والحسكة يؤكّد على تلك التفاهمات. لكن ماذا لو اتخذ الأميركان قراراً بطرد إيران من البوابة العراقية السورية ما بين التنف والبوكمال، أو قرّر التحالف إنهاء القواعد الإيرانية التي تمارس تحرّشات شبه دائمة ضد الوجود الأميركي في شرقي الفرات (قاعدتا الإمام علي وعين علي) في أرياف دير الزور، فهل ستشارك “قسد”؟ أم أن التحالفات وإعادة الهيكلة الأميركية التي تجريها غايتها تشكيل قوات بتركيبة جديدة تتجاوز فيها القرار العسكري الكردي لقوات سوريا الديمقراطية لصالح قواتٍ عربيةٍ لا تمانع قتال الإيرانيين؟ أم تتراجع “قسد” عن رفضها، وتدرك أن تخلي واشنطن عنها يعني تركها فريسة سهلة المنال لروسيا وتركيا وجيش الأسد؟
تقول واشنطن إن التحرّشات والتصريحات الإيرانية لن تُجبرها على إعادة السيناريو العراقي والانسحاب من سورية، رغم أن الأرقام التي ذكرها وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، تحرج الإدارة الأميركية عندما أكد حصول 83 هجوما وتحرّشا إيرانيا على قواته في سورية، في عهد الرئيس بايدن فقط، وأن الولايات المتحدة ردّت على أربع هجمات فقط.
يؤكّد التحرّك الأميركي في شرقي الفرات (عسكرياً وإمداداً وتدريباً) وفي منطقة الخليج العربي أن الهدف ليس قتال تنظيم داعش الذي بات خطره بحكم المنتهي عسكرياً، وأن مليشيات إيران قد تكون الوجهة الأميركية الجديدة بالتعاون مع إسرائيل التي تعهَّد وزير دفاعها يوآف غالانت، بالعمل على طرد إيران وحزب الله اللبناني من سورية، عندما وجَّه حديثه إلى جنود من لواء “جفعاتي”، قائلاً: سنطردهم من سورية ونرسلهم إلى حيث ينبغي أن يكونوا … أي إيران. أم أن كل تلك الحركة الأميركية ستبقى بلا بركة وغايتها زيادة ضبابية الاستراتيجية الأميركية الغائبة أساساً عن كامل منطقة الشرق الأوسط، وخصوصا في سورية؟
المصدر: العربي الجديد