رابعا: ملامح إشكاليات كليات الشريعة.
يعود د.ساري الى صلب مشكلة كليات الشريعة التي درسها، مع اختلاف نوعي بين بعضها.
حدد سماتها في:
١ – التأرجح بين رفض وتأييد تداخل المعارف الدينية والعلمية ، وتأكيد البعض على الترابط والتكامل العلمي والمنهجي خاصة المدرسة المقاصدية والماليزية وجامعة حمد بن خليفة.
٢ – ظهر أن اغلب الطرح الديني مصاب بمعضلة الرتابة والتقليد الاعمى والحشوية التي لا تنتج وعيا ولا معرفة.
٣ – وجود الكثير من الطروحات المخالفة للعقل والمنطق وهذا ينعكس سلبا على قدرة الطرح الديني أن ينغرس مجتمعيا، وأن يكون مطية لأصحاب الأهواء والمستثمرين للدين بما هو نقيض لجوهره ودوره.
٤ – بروز التخصص المفرط في موضوعات أغلبها يدور داخل الحلقة الداخلية المفرغة لإعادة إنتاج ذات المعلومات داخل الدين الإسلامي، هوامش على الهوامش.
٥ – بروز ظاهرة القطيعة مع النص القرآني ذاته لصالح قراءات وتفسيرات غطّت عليه وحجبته كحقيقة ومعنى ومقاصد وتنوير وعمق روحي؛ عند جيل كامل من الدارسين والمتخصصين الإسلاميين.
٦ – بروز ظاهرة الضعف الأكاديمي في مستوى الماجستير والدكتوراة، وهذا يعني أن من يقع على عاتقه حمل راية التنوير الديني مصاب بأمراض الواقع الإسلامي بكل عيوبه. وهؤلاء يعيدون إنتاج هذا العطب كل الوقت.
٧ – تبين محدودية القدرات العلمية والتأهيل لطلاب كليات الشريعة، حيث كانت الكليات الاقل درجات في القبول لطلابها وهم غالبا ممن يبحث عن فرصة عمل. في التعليم او الامامة، هذا غير استثمار السلطات الحاكمة لهذه الكليات وللخريجين ليكونوا من جيوش فقهاء السلطان المروجين له والملمعين لمواقفه.
٨ – ازياد نسبة التأنيث في عدد المنتسبين لكليات الشريعة، مع عدم انعكاس ذلك على أدوارهم وحضورهم في مجالات الحياة كافة، بحيث تنتهي الدراسة عندهم إلى ثقافة إسلامية عامة.
خامسا: الخاتمة: بدائل منهجية في ربط علوم الشريعة والعلوم الاجتماعية.
يركز د.ساري في هذا الفصل على أطروحاته الأساسية من كتابة بعد جهد كبير .
١ – ضرورة تبني منهجية معرفية قائمة على مقولة الفصل – الوصل، والتي فصّل الحديث عنها؛ بأن يأخذ المجال الديني حقه من الدراسة والتعمق في كل أبعاده، وكذلك في في مجال العلوم الاجتماعية والانسانية كاملة، مع التمييز بينهم حيث يتطلب التمييز، والربط بينهم حيث يتطلب الربط والتكامل على كل المستويات.
٢ – اعادة تفعيل المنهجية المقاصدية في كل ما يتعلق بالمستجدات الحياتية حيث نص قرآني ثابت وقضايا الحياة المتغيرة، وأن تفعيل المقاصدية يعني أن يكون الاجتهاد مفتوحا دائما لتناول أي مستجد موائما ومحققا مصلحة الناس وفق الرؤية المقاصدية.
٣ – المقاربة الأخلاقية للدين . تم التأكيد على البعد الأخلاقي الذي جاء متحققا في الإسلام، وتم تغييب بالعبادي والسياسي و عبر تاريخ مديد. اعادة احياء الجانب الاخلاقي في الاسلام، هو إعادة إحياء روح الإسلام الحقيقية.
٤ – إعادة الاعتبار لأخلاقيات الإقناع والمسؤولية، تجاوزا لعقلية الأوامر والنواهي دون مبررات عقلية، عقلنة التدين وفهمه، ووضع المسلم أمام مسؤوليته الانسانية عن نفسه ومحيطه والعالم، دوره الرسالي الانساني.
الى هنا ينتهي الكتاب.
أما رأينا فهو:
١ – لا بد من التأكيد على الجهد الكبير الذي بذله د.ساري حنفي في هذا العمل المهم، سواء للمتابعة الميدانية، والقراءة البحثية، والرصد المجتمعي والديني في كثير من البلاد العربية، لا سيما مراجعة وقراءة الكثير من المصادر التي اعتمد عليها للوصول إلى نتائجه البحثية المهمة. هذا عن الأسلوب المعتمد في الدراسات العلمية. أما الموضوع فهو من الموضوعات المهمة في مجالنا الثقافي والديني المجتمعي العربي. إن لم تكن الأهم؛ أنها العلاقة بين الحضور الديني والحضور العلمي بمعناه العام الشامل داخل الجامعات والقوى الحية المجتمعية والسياسية والسلطات الحاكمة والمجتمع بكل ألوانه وأطيافه. انها مهمة عقلنة النظرة للدين وإعادة طرحه في العالم و تجسير الهوة بين الرؤية الدينية الإسلامية والعلوم الاجتماعية والانسانية على تنوعها، حسب المنهج الذي اقترحه د.ساري منهج الفصل الوصل. انه بحق موضوع يحتاج لجهود كبيرة وما قدمه د.ساري نموذجا يحتذى ويبنى عليه.
٢ – كنّا ننتظر أن يغطي عمل د.ساري المجال الديني الإسلامي الشيعي في البلاد العربية، بما هو حاضر كوجود اجتماعي مجتمعي، وبما هو مغيّب عن الدراسات البحثية إلا ما ندر. وحيث أن الموضوع مهم إلى درجة اقرارنا أن هناك حواجز معرفية ونفسية بين أبناء الدين الواحد والواقع الواحد من المسلمين السنة والشيعة، وينطبق ذلك على الدروز والإسماعيلية بشكل نسبي مع محدودية حضورهم وغياب مآزقهم المجتمعية. اضافة للزيدية في اليمن واستثمارها سياسيا من ايران ليكونوا وقودا في حرب هم كشعب يمني بكل مكوناته المذهبية والقبلية ضحاياه. لا سيما أن هذا الاختراق الإيراني للمجال الشيعي العربي، وهو بهذا المعنى ليس بمشكلة دينية أو فكرية فكل الحقول المعرفية تتلاقح وتتخاصب، لكن منعكسها السياسي هو المهم حيث تحوّل بعض الشيعة العرب ليكونوا وقودا للأنظمة المستبدة ضد الشعوب التي تحركت بثوراتها من أجل الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، خاصة في سورية ولبنان واليمن نسبيا. وكيف تم استغلال ذلك في العراق ليكونوا أدوات بيد المستعمر الامريكي وذراعا ممتدا لإيران في العمق العراقي، ادى ويؤدي لدوام المأزق العراقي ومزيد من هدر الدم والإنسان في العراق وسورية، والهيمنة المطلقة على لبنان أرضا وشعبا، وتسعير الصراع في اليمن.
٣ – كنا نحتاج أن يتحدث د.ساري عن الحقل الديني في لبنان وسورية، خاصة أن فهم ما يحصل اليوم في كلا البلدين مرهون بمعرفة الفاعل الاجتماعي والسلطوي عبر الخمسين السنة السابقة. لا نستطيع فهم الحالة في سورية دون أن نتحدث عن سيطرة حزب البعث منذ ١٩٦٣م وتحوله بعد عام ١٩٧٠م ليكون له حاكما مطلقا هو حافظ الأسد، وما فعله في سورية حيث صادر المجال الديني ليكون تابعا بالمطلق للسلطة وتحويل الدين لحقل فعل السلطة وتحويل المشيخات لفقهاء السلطان، ومحاربة المختلف وابادته كما حصل مع الإخوان المسلمين، وتحول السلطة لتكون واجهة لسيطرة طائفية علوية في الجيش والأمن وكل مفاصل الدولة الاساسية. ودور النظام السوري في لبنان وتحويله لدولة تابعة للنظام السوري والقضاء على كل قواه السياسية الحية، هذا غير ضرب قوى الثورة الفلسطينية واجبارها على المغادرة إلى المنافي تونس وغيرها. وخلق حزب الله الشيعي اللبناني ليكون اداة احتلال وقهر داخلي لبناني يدفع الشعب اللبناني ثمنه للآن… الخ.
إن تذكيرنا بذلك لا يبخس الدراسة حقها لكنها كانت مهمة لانارة الوضع اللبناني والسوري وأن أي تفكير عملي بمعالجة الحالة الدينية في البلدين لا تتم إلا من باب التحول السياسي الديمقراطي وانتصار ثورات الربيع العربي بما تعني من أفق تغيير يحتاجه الناس ويخدم مصالحهم فعلا.
٤ – أعتقد أنه كان من الضروري أن يعطي للجانب السياسي لحضور انظمة الحكم في البلاد العربية المدروسة وكذلك ماليزيا بما هي دولة ديمقراطية. حيث العلاقة طردية بين دوام الحضور الديني المتخلف والسلبي وبين الإستبداد والدكتاتورية، كما هو بين التنوير الديني وتطور علاقته مع العلوم الاخرى ومواكبته للعصر وكون الانظمة ديمقراطية وتعمل وفق مصالح شعوبها. هناك فرق بين ماليزيا مثلا كدولة ديمقراطية جعلت شعبها في مصاف الدول المتقدمة، وبرامجها لاستعادة دور معرفي تنويري ايجابي للإسلام. وبين النظام المستبد القاتل للشعب والمدمر للمجتمع والبلاد كما يمثله كنموذج النظام السوري. إنه مثال صارخ لنظام يريد استمرار حال الدين وحضوره المجتمعي، بأسوأ صوره؛ الطائفي والتكفيري والاستئصالي والارهابي من النظام، وما جاء ردا عليه من إرهاب القاعدة وداعش والنصرة. ونؤكد أن النظام هو من خلق ظاهرة المتطرفين الإسلاميين في سجونه و معتقلاته؛ مدارس لتخريج الأصوليين والمتطرفين…الخ.
أخيراW:
أود أن اختم قراءتي للكتاب بالحديث عن صديقي الأصيل والمثابر والمجّد د.ساري حنفي الذي اعرفه منذ عقود، اعتز به نموذجا للإنسان الرسالي الذي يحمل قضية وطنه فلسطين هماً وطنياً، عمّق انتمائه له بحصوله على اختصاص متعلق به. وكذلك مواظبته في علم الاجتماع ليكون في الريادة، ومدرساً في الجامعة، وأن يقدم مساهمته في كثير من الكتب، وأهمها هذا الكتاب مقدما من خلاله رؤيته لقضية تشكل مأزقاً وجودياً ومعرفياً ومجتمعياً وسياسياً للبلاد العربية عموماً.