متلازمة اليد الغريبة … ربما توحي هذه التسمية (أو التعبير) بمجاز أدبي أو دراسة في علم الاجتماع، لكنها في الواقع هي تسمية لأحد الأمراض العصبية التي تنجُم عن إصابات متنوعة على مستوى المراكز العليا في الدماغ، بشكل خاص، تصيب البالغين في العادة، مع تسجيل حالاتٍ نادرةٍ عند الأطفال على أبواب المراهقة، أكثر ما يميّز هذه الحالة المرضية أن اليد المستهدفة تنفصل عن إرادة الدماغ، وتصبح مستقلّة الإرادة، وهذا فظيع، لأن اليد ستتصرّف بلا عقل، بلا قيم، بلا عاطفة، بلا مشاعر، فهل يمكن إدانتها بما تقترف؟ أم تُحاكم على أنها فاقدة للأهلية القانونية، أو غير مسؤولة عن تصرّفاتها؟
أثارت أسئلة امتحان واردة بمقرر اللغة الإنكليزية لطلاب السنة التحضيرية في جامعة دمشق موجة من التعليقات والاستهجان والسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، والسنة التحضيرية هذه تضمّ المتقدّمين لامتحان مفاضلة القبول في كليات الطب البشري وطب الأسنان والصيدلة، وكانت الأسئلة تدور حول أمور مثل: انفصال لاعب نادي برشلونة الإسباني المعتزل جيرارد بيكيه عن المغنية الكولومبية شاكيرا، ولون فستان “الفانشيستا” ماريا، بالإضافة إلى أسئلة عن جواز السفر السوري، وعن مدى شهرة رواية لمؤلف أميركي صدرت منذ أيام (لم تتعرف كاتبة هذه السطور إليها بعد)، وأيضاً عن كتاب الأمير البريطاني هاري الذي صدر أخيراً.
وأمام موجة السخرية والاستهجان، قال مسؤول في وزارة التعليم العالي، رداً على الأمر، لصحيفة الوطن، إنّ اللغة الإنكليزية الموضوعة كمقرّرات في السنة التحضيرية الطبية هي في مستوى الثانوية العامة نفسها أو أعلى منها بقليل! مضيفاً: بالطريقة نفسها، تشمل الأسئلة في اللغة بالثانوية مواضيع عامة كأن تكون عن ممثلين وفنانين. وتابع: من الطبيعي انتقاء نصوص عامة لقياس مهارة الطالب التي اكتسبها خلال الفصل، والتي كان هدفها الأساسي اكتساب القدرة على فهم الأفكار واستخلاصها من النصوص، ليستطيع بعدها الاستفادة من “الكتب المرجعية” بالشكل الأمثل.
فهل هذه هي الكتب المرجعية التي ينتظر طالب الطب أو الصيدلة، الرجوع إليها؟ وهل هذه المواضيع من الأمور المهمة بالنسبة إلى طالبٍ يصل إلى الجامعة وكأنه ما زال في سباق المسافات الطويلة، لا يعلم غير الله كيف مرّت الشهور عليه وعلى أسرته، وكم كابد أبواه وعاشا الحرمان، كي يسانداه في طريقه المليء بالأشواك والحجارة. من يقف خلف هذا القصور والتردّي، بل والعجز في إدارة أمور الناس، والذي يعتبر التعليم والعناية بالطلاب وتوفير ما يلزم العملية التعليمية من أدواتها ومتطلباتها الأساسية، حقًّا من حقوقهم؟ لمن تلك الأيادي المتخفّية في قفّازات، تعبث بكل القيم والقواعد؟ ليتها مصابة بمتلازمة اليد الغريبة، ربما كان علاجها أسهل وأجدى، لكنها أيادٍ خاضعة لإرادات فاعلة تسطو على المجال العام وتديره وفق أجنداتٍ وعملياتٍ دماغية أكثر تعقيداً وتركيزاً واستهدافاً.
أوشكنا على دخول السنة الثالثة عشرة من عمر الأزمة السورية، بغضّ النظر عن التسمية، ورغم كلّ العثرات والفشل والانزياح الذي وقعت فيه الثورة، يبقى الفعل الثوري مطلباً ومتغيّراً باستمرار، كما قال جيل دولوز: “فشل الثورات سيشعل شرارة صيرورة ثورية من جديد” لكنّ الحديث المجدي هو تسليط الضوء باستمرار على التغيّرات الدراماتيكية التي تحصل في بنية المجتمع/ المجتمعات السورية، وفي منظومة القيم والمعارف، وفي هبوط المؤشّرات كلها باتجاه الحضيض، مؤشّرات لها علاقة بالمعيشة والتعليم، والحريات، والثقافة، والاقتصاد، وكل ما يميز نشاط الشعوب وإنتاجها، فالوعي العام في تراجع، وإذا كان الشعب قد انقسم في بداية الانتفاضة على نفسه، بين مؤيّد ومعارض للحدث الكبير، فإن ما وقع في السنوات الماضية سلب القدرة على التفكير، بما أغرق الناس في مستنقعات الهموم المعيشية، وما تم من ممارساتٍ طمرت جمر الفتنة تحت رماد الواقع المحروق.
ليست أيادي مصابةً بمتلازمة الغربة والانفصال عن إرادة الدماغ، بل هي إرادة جبّارة أطلقت أياديها بكل خبراتها المكتسبة والمبتكرة لتقضي على ما بقي من واحاتٍ يمكن أن ينبت فيها العشب في أرواح شرائح المجتمع كافة، هي أيادٍ مرتبطة بالخارج، أيادٍ استباحت حياة هذا الشعب ونفوسه وكرامته وبلاده، قتلت فيه حتى روح التضامن، ماذا لو كانت النصوص المطروحة في الامتحان حول ما يجري في فلسطين المحتلة اليوم، هل يمكن لإنسان سليم المشاعر والعواطف أن يشيح النظر عنها؟ أليست فلسطين هي البوصلة، كما جرت العادة في تجريع هذا الشعب شعاراتٍ جوفاء حولها؟ ماذا لو كان نصّاً يحكي عن مراكب الموت التي تحصُد السوريين الهاربين من موت محقّق إلى موت شبه محقّق؟ ماذا لو كانت النصوص عن رغيف الخبز، والبرد وأحلام الأطفال؟
أي أيدٍ هذه العابثة بأمن الناس وعقولهم وكرامتهم؟ في الطب، تتصف متلازمة اليد الغريبة بانفصال الإرادة، حدّ أنها يمكن أن تشلّ اليد الأخرى عن أداء وظيفتها، فتعاكسها فيما تنوي القيام به، وهي أيضاً، يمكن أن تمتدّ إلى عنق صاحبها وتخنقه، ربما أصبح معظمنا لا يملك غير الدعاء مثل العجائز المقعدات، فندعو ليتها تفعل، لكن غربة الأيادي العابثة بمصير هذا الشعب من نوعٍ آخر، إنها أياد جبارة، تحرّكها إراداتٌ أكثر جبروتًا، إنها محصّنةٌ ضدّ أنواع العواطف والمشاعر النبيلة، ضدّ الرحمة، ضدّ الرأفة، ضدّ الحكمة، ضدّ العطاء، ضدّ كل ما هو نبيلٌ من صفاتٍ يمكن لليد أن تتباهى بها، محصّنة أيضًا ضدّ كل أشكال الأوساخ والجرائم، فتغوص فيها بنشوة مصّاصي الدماء، هي أيادٍ تجيد الخفاء مثلما تجيد الصراحة والفجور، تعرف متى تكشّر عن “مخالبها”، ومتى تلبس القفّازات، أياد تعرف ما تريد، وتفعل ما تريد، تعبث هذه الأيادي بأمن الشعب وأمن البلاد منذ عقودٍ خلت. ازداد جبروتها وازدادت جرأتها على اللعب المكشوف في العقد الأخير، والمصيبة الكبرى أنها صارت، بتعدّدها واختلاف أدواتها في الداخل، مباركةً لدى الشعب المنقسم أو المقسّم، الخاضع لاحتلالاتها، بل هناك، في كلّ المناطق من يتمسّكون بها وينحنون لتقبيلها، في أبشع صور الولاء الرخيص. هي ليست متلازمة اليد الغريبة، بل هي أيادٍ مصابةٌ بالثآليل التي تتكاثر وتتورّم مثل السرطان، تشيع المرض في جسد هذا الشعب المهجّر، المفقر، الرازح تحت الجوع والحرمان حدّ شلّ قدرته على التفكير، وأيديه عن العمل.
المصدر: العربي الجديد