
بعثتْ قافلة الصمود، التي انطلقت من تونس وتضمّ مساندين للقضية الفلسطينية ومتضامنين مع أهل غزّة من دول المغرب العربي، رسائلَ أمل وشحناتِ تفاؤل وتعاطف، ودعماً لا مثيل له منذ انطلاق الإبادة الجماعية التي تمارسها قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزّة، بتواطؤٍ وإسنادٍ من دول كبرى، وبصمت مريب من حكومات الدول العربية والإسلامية، التي اكتفت بالتنديد والتهديد والشجب، تعلو وتخفت من حين إلى آخر، من دون أن تكون قادرةً على كسر الحصار على شعب يجوع ويباد تدريجياً على مرأى العالم. الزخم الشعبي، الذي رافق هذه القافلة (ورعاها) في كلّ محطّة تتوقّف فيها، وانضمّ إليها في طريقها إلى كسر الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني، وأيّدها بالقول أو بالفعل أو بالقلب والوجدان… هذا الزخم هو الدليل القاطع على أن الضمير الشعبي الإنساني لا يزال حيّاً، ينبض نبلاً وشهامةً ووجعاً وخيبة، لما آل إليه حال الأنظمة الرسمية العربية من تخاذل وتقاعس وتواطؤ ومشاركة في الجريمة النكراء في بعض الأحيان، ويبدو أن حكّاماً كثيرين في الوطن العربي منزعجون جدّاً من هذا المدّ الشعبي الجارف المجسّم في قافلة الصمود، لأنهم إمّا خائفون من تبعاته على أنظمتهم المترهّلة المتهالكة اللاشعبية، أو محرجون من الموقف الرسمي، الذي يفترض أن يتّخذوه تجاه هذه القافلة، لكي يكون متناسقاً ومتناغماً مع ما يشهرونه من خطابات وبيانات وتصريحات رنّانة. الشرخ المنكشف بين ما يُبطَن وما يُعلَن كبير وفاضح، وقد تكون له نتائج وخيمة على بعض الأنظمة التي احترفت الكذب والنفاق وازدواجية الخطاب.
الشرخ المنكشف بين ما يُبطَن وما يُعلَن كبير وفاضح، وقد تكون له نتائج وخيمة على بعض الأنظمة
لم تخرج القافلة إلا لأنها يئست من الحكومات، ولم تعد تثق في مواقفها وخطاباتها، وتجلّى لها زيف ما تتشدّق به، وأدركت القافلة عجز الحكومات العربية عن الفعل المؤثّر والحاسم في مصير غزّة، وأهلها الذين تجرّعوا العذاب والموت والجوع والفقد والدمار ألواناً وصنوفاً لم يشهدها بشر من قبل، فالحصار والدمار والإبادة والتطهير العرقي المستمرّ منذ ما يقارب عامين لم تتصدَّ لها الدول والحكومات بالشكل المطلوب، الذي يسمح برفع المظلمة عن شعب بأكمله، ولم تتمكّن المنظومة الأممية الدولية، بترسانتها القانونية والقضائية والمؤسّساتية والردعية، من درئها ولجمها ومعاقبة المجرمين الذين تورّطوا فيها، وآلة الإبادة لا تزال رحاها تدور وتقتل وتشرّد، وتفني أعماراً، وتمسح عائلات من السجلات المدنية، من دون أن توقفها العدالة الدولية التي تعطّلت دواليبها، وبان شللها وهوانها.
لذلك، انطلقت قافلة الصمود مغاربيةً متحرّرةً من كلّ الضغوط والقيود السياسية والحزبية والأيديولوجية، فضمّت في صفوفها مختلف الشرائح الاجتماعية والعُمرية، وتخفّفت من عبء الانتماءات والولاءات والحسابات، لتوجّه بوصلتها إلى هدف مشترك واحد: لمّ شمل جميع المشاركين، وجعلهم يؤمنون بقدرتهم على كسر الحصار على أهل غزّة، وعلى الشعب الفلسطيني بأكمله، لأن إرادة الشعوب لا تقهر، مهما تعثّرتْ أو عُطِّلتْ أو ارتهنتْ أو ركعتْ أو مورستْ عليها أشكال الترهيب كلّها، فقد تبيّن للجميع أن العدوّ أيضاً واحد ومشترك، وأنه أوهن من بيت العنكبوت، وأنه لا يزال قائماً لأنه اعتاش من إضعاف الشعوب العربية، وإرباك عزيمتها وإيهامها بقوّته وجبروته، وبجيشه الذي لا يُقهر، وبالدعم الغربي الذي لن يتداعى ولن يتراجع قيد أنملة. ولعلّ الحرب النفسية التي مارسها العدو الصهيوني على الشعوب العربية، على مدى الصراع العربي الإسرائيلي، أشدّ وقعاً ووطأة من الحروب العسكرية الكلاسيكية التي تدار بالسلاح والعتاد والضغط على الزناد، فحرب الترويع وكسر الهمم وبثّ الفرقة وتدمير المقدرات والثروات، والإذلال والإيهام بالضعف والوهن والهوان، سلاح فتّاك ومدمّر لا تدرك أثره إلا الشعوب التي تذوّقت مرارة التخلّف عن ركب التاريخ في محطّات فارقة.
لم تخرج قافلة الصمود لنصرة غزّة إلا لأنها يئست من الحكومات
وقد تمكّنت القافلة أيضاً من تكذيب (ودحض) الرأي الشائع والمغرض الذي حاول العدو و”الصديق” ترويجه، أن الشعوب العربية قد استكانتْ وهُمِّشتْ وتنكّرتْ للقضية المركزية، قضية الأمّة جمعاء، وأهدرت رسالتها التاريخية لتحرير فلسطين، إذ تفاقمت الدعاية المضللة، التي تقول إن لدى الشعوب العربية في أقطارها المتفرّقة من هموم ومشاكل وأوجاع وقمع ما يلهيها عن همّ فلسطين، وإن أقصى اهتمامات هذه الشعوب تتمثّل في توفير لقمة العيش وتدبير أمور الحياة اليومية المتشعّبة، كما أن الشباب غُيّبوا عن ساحات المعارك الحقيقية، ومن النضال وقضايا الأمّة، ليكون شغلهم الشاغل الهروب من الواقع المرّ الذي يعيشونه، إلى عوالم أخرى، مهما كلّفهم ذلك من أثمان باهظة… كذّبت القافلة هذه المقولات وفنّدتها، ونطق لسان المشاركين بما عجز عن نطقه الحكّام، فعبّروا عن الوجع الذي كان يسكنهم منذ اليوم الأول الذي اندلعت فيه حرب الإبادة، وأنهم ملتاعون لحال غزّة، وأنهم يشعرون بالخجل لأنهم انطلقوا بصورة متأخّرة لنصرة إخوانهم، عبّروا عن أن الشعوب العربية متوحّدة متحابّة متضامنة، لكن تفرّقها الحدود والأنظمة الجائرة الخائفة على كراسيها أكثر من خشيتها من ضمائرها، ومن يوم الحساب العسير، فما صاحَب القافلة من ترحيب وهتافات وكرم ومساندة، على مدار محطّاتها الأولى في تونس وفي ليبيا، يشي بذلك. أضف إلى ذلك أن المشاركين فيها ينتمون بنسب مختلفة إلى مختلف دول المغرب العربي، كما أن الأنباء والأصداء توحي بدعم شعبي عربي متعاظم لها، فالشعوب العربية لم تغب يوماً عن المحطّات الفارقة والمصيرية في تاريخها، ولم تترك للحكام دوماً مجالاً لنحت مستقبلها، وتاريخ هذه الشعوب حافل بالتمرّد على الطغيان، وبمقاومة المحتلّين والغزاة مهما بلغت قوّتهم وامتدّ بطشهم.
وتكمن أهمية هذه القافلة أيضاً في أنها ستكون ككرة الثلج التي ستجرّ ما بعدها من القوافل الشعبية المتضامنة التي لم تعد ترجو من حكوماتها شيئاً، فستخرج القوافل تباعاً من سورية ومن لبنان ومن الأردن، ومن دول الغرب والشرق، وستجد إسرائيل نفسها، وللمرّة الأولى في تاريخها الإجرامي، محاصرةً من الشعوب، وكأن التاريخ ينتقم منها لأنها حاصرت شعباً بأكمله، ونكّلت به، وسعت إلى إبادته وترحيل من تبقّى منه، وتركيع القلّة القليلة التي مكثت في أرضها، وصمدت في وجه الموت والتهجير والتجويع، فالحصار الحقيقي اليوم من منظورنا، ليس على غزّة، بل على الكيان الغاصب المحتلّ الذي بدا منبوذاً مكروهاً مداناً شعبياً وجماهيرياً في كلّ أصقاع العالم، ولم تعد سردية المظلومية التاريخية تجدي نفعاً لتبييض صورته وطمس جرائمه.
الشعوب العربية لم تغب يوماً عن المحطّات الفارقة والمصيرية في تاريخها
أمر آخر، لا يقلّ أهمية لأنه يكسر جدار العجز والتردّد والخنوع والتخاذل، ويتمثّل في مستوى التنظيم العالي والباهر الذي تميّزت به هذه القافلة، رغم العدد الكبير من المشاركين فيها، والمنضمّين إليها، من ناحية التخطيط والإعداد اللوجستي والمادي والتسويق الإعلامي وتحديد المسارات وتحشيد المناصرين والتواصل مع السلطات الرسمية وتجييش الرأي العام العربي والدولي… فهذه الإجراءات التنظيمية والعملية تمثّل مصدر فخر للقائمين على التنظيم، لأنهم نجحوا في تحويل الفكر منجزاً، والقول فعلاً، وجسّدوا التضامن الشعبي في أبهى حلله، وأقاموا البرهان على أن القضايا النبيلة تحتاج إلى فكر حصيف مستنير، ولا تعوزها السواعد المرابطة والعقول المدبِّرة، فلم نشهد فيها مشاحنات أو فوضى من شأنها أن تشوّه الصور الجميلة والمشرّفة التي نقلتها شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، وجعلت كلّ مواطن عربي يستعيد أمجاد النخوة والشهامة العربية، ويدرك أن النصر قريب إذا توافرت العزيمة، والإرادة الصادقة، وأن المستحيل صنعه الخونة والمتواطئون في مخيّلته ليعيقوا مسيرته نحو الرقي والمجد، وليعرقلوا توقه نحو الحرية والانعتاق من الخوف الذي كبّله عقوداً طويلة.
ستكتمل مسيرة قافلة الصمود، ولن تجهض حتى مع إغلاق الحدود في وجهها، ومع الإجراءات الأمنية لعرقلتها، لأنها ستكون نبراساً لكلّ الشعوب العربية لكسر حاجز الخوف والصمت وإخضاع الحكّام لمشيئتهم، وكانت اختباراً حقيقياً للأنظمة العربية الرسمية. ومن يستخفّ بإرادة الشعوب، ويستنقص من قوتها وقدرتها، سيكون مصيره النسيان والخسران، لأنه لم يقرأ التاريخ جيّداً، ولأن التاريخ لا يصنعه إلا العظماء، فكما غزّة صنعت التاريخ من جديد، وصاغته بدمائها وقوافل شهدائها، ستصنع قوافل الصمود والحرية الشعبية تاريخاً مجيداً لإرادة الشعوب التي لا تقهر، نصرةً للحقّ ورفضاً للظلم، وتصديقاً لقول الشاعر الخالد أبو القاسم الشابي: “إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر”.
المصدر: العربي الجديد