
يبدو أن إيران والمنطقة برمتها باتت على صفيح ساخن، إبان بدء العملية العسكرية الإسرائيلية المسماة “قوة الأسد”. وكما يبدو، فإن إسرائيل باتت مقتنعة، بعد الذي حققته في قطاع غزة والجنوب اللبناني، وحالة الانتعاش التي وصلت إليها من جراء ذلك، بأنها قادرة على إعادة إنتاج المنطقة برمتها على أسس جديدة، تكون لها فيها اليد الطولى في الاشتغال على تكوين جديد للشرق الأوسط، لتكون فيها قوتها العسكرية الإسرائيلية القادرة، ولوحدها، على الهيمنة والسيطرة، ومنع أي إمكانية أبدًا لبناء قوة عسكرية ما قادرة سواها.
وإذا كان قد ظن بعضهم سابقًا أن التهديدات الإسرائيلية، التي تم الإعلان عنها أو سماعها مؤخرًا عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية والقادة الصهاينة نحو إيران، هي مجرد ضغوط سياسية ليس إلا، من أجل نجاح جولة المفاوضات القادمة والمزمعة بين أميركا وإيران، على طريق إنهاء حالة التخصيب النووي الإيراني، والتوافق على اتفاقات جديدة تنهي حالة الصراع النووي وتهديداته، إلا أن ما جرى صبيحة يوم الجمعة الموافق لـ13 حزيران/يونيو 2025 كان مسألة أخرى في الميدان والممارسة العملية، وهي – كما يقال – مفاوضات بالنار. وهذا ما تعوّدت عليه إسرائيل في حروبها مع المحيط العربي والإقليمي، وفي التعاطي المباشر مع هذا المحيط، عبر الاستمرار بالضغط العسكري الممارَس وصولًا إلى أهدافها المبتغاة.
إيران اليوم، وضمن هذه الظروف والمتغيرات، لن يكون بإمكانها الصمت عما جرى ويجري، كما لن يكون باستطاعتها تدمير إسرائيل كما تدّعي دائمًا.
لكن يبقى السؤال: بعد كل هذه الضربات الموجعة لإيران، ومقتل كبار القادة الإيرانيين المهمين لديها، على مستوى “حسين سلامي” قائد ما يسمى “الحرس الثوري الإيراني”، وتدمير أهم منشآت عسكرية للتخصيب النووي الإيراني، هل تبقى إيران صامتة؟ وهل ستستمر في العض على الأصابع، وتتجرع كأس السم مرة أخرى من أجل الحفاظ على ما تبقى؟ أم أن فتح باب المعركة على مصراعيه سيكون مخرجًا مباشرًا أو مؤجلاً أمام دولة إيران، وهي التي أضحت تلاطم نفسها بنفسها، وتفقد أعصابها مع هذه الضربات الموجعة والمحرجة أمام الداخل والخارج؟
يبقى أنه لا بد من القول أيضًا إن الإيرانيين يدركون أنه لا قدرة لديهم على خوض حرب كبرى في المنطقة، قد يكون طرفها معهم ليس إسرائيل فحسب، بل الإدارة الأميركية الترامبية، التي كان الإيرانيون قد حرصوا أشد الحرص منذ عدة أشهر على مد اليد من أجل ما أسموه “السلام في المنطقة”، ومن ثم التنازل عن كثير من المحددات التفاوضية النووية، على طريق نسج علاقة أكثر هدوءًا معها، ومع إسرائيل، إبان خسارات إيران غير المسبوقة والضخمة في المنطقة، وبعد خساراتها المتتابعة، بدءًا من مقتل “حسن نصرالله” زعيم ميليشيا حزب الله، وتقويض وجود ميليشيات إيران – ومنها حزب الله – في لبنان، ثم كنس الوجود الإيراني الاحتلالي من سورية، الذي فاق عديده المئة ألف أو يزيد، ثم فرار رأس النظام السوري بشار الأسد وأتباعه وأدواته، وانفراط عقد ما كان يعرف بمحور “المقاومة والممانعة”.
إيران اليوم، وضمن هذه الظروف والمتغيرات، لن يكون بإمكانها الصمت عما جرى ويجري، كما لن يكون باستطاعتها تدمير إسرائيل كما تدّعي دائمًا. وليس هناك من عاقل داخل حدود إيران السياسية، في هذه الفترة من تاريخها، من يمكنه المقامرة بوجود كيان دولة النظام الإيراني بقضّها وقضيضها، أمام كل هذا الصلف لرئيس وزراء إسرائيل “بنيامين نتنياهو”، مع توفير دعم الرئيس الأميركي “دونالد ترمب” له، حتى لو أعلنت أميركا مرارًا وتكرارًا غير ذلك، وأنها لا تريد حربًا مع إيران.
التخلي عن فكرة وقرار تخصيب النووي الإيراني، الذي يقول قادة إيران جهارًا نهارًا إنه لا تراجع عنه أبدًا، قد يكون هو الأسهل من الوصول إلى حالة ضياع الفرصة وفوات الوقت.
المنطقة كلها اليوم، وبلا استثناء، باتت على صفيح ساخن، وهناك تغيرات دراماتيكية باتت قاب قوسين أو أدنى من الحصول. وإيران، التي كانت تصول وتجول في المنطقة قبل سنوات، وتسيطر على خمس عواصم عربية هي صنعاء، ودمشق، وبغداد، وبيروت، والأحواز، لم تعد موجودة أبدًا في المحيط العربي. والشارع الإيراني، الذي ما زال يغلي ويفور، ويعاني كل المعاناة من سياسات الفساد والإفساد، والنهب والسيطرة من قبل الحرس الثوري الإيراني وأتباعه، وحالة المعيشة والاقتصاد المتدهور، والهبوط المستمر في سعر العملة الإيرانية (التومان)، وحالة التضخم الكبرى التي تعيشها اقتصادات إيران، هذا الوضع الذي لم يسبق أن وصل إلى هذا الدرك من الانحدار والانحطاط، كل ذلك قد يدفع شعوب إيران إلى ثورة عارمة تقتلع جذور النظام الإيراني، وتعيد إنتاج الحالة الداخلية الإيرانية بكليتها.
وهو ما قد يجعل من إيران أشبه ما تكون بحالة الذئب الجريح، لكن رغم كل ذلك، لا بد من القول إن إيران باتت عاجزة حقًا وفعلاً عن فتح أو متابعة أي حرب حقيقية غير شكلانية، كما تمارس عادة ضد إسرائيل. فالحرب المفترضة ضد إسرائيل وأميركا لا قدرة لإيران على فتحها أو الوصول إلى خواتيمها المفيدة لها، كما أنها لم تكن أصلًا ضمن سياساتها الاستراتيجية الحقيقية، أو حتى في عقل حكّام دولة النظام الإيراني، التي ما برحت تحارب أميركا وإسرائيل كظاهرة صوتية ليس أكثر، ومنذ عقود.
لكن إيران، بالفعل والممارسة، تساير أفعال إسرائيل وأميركا، وتضحي بالكثير (كما سبق وضحّت بقاسم سليماني) من أجل بقاء دولة النظام الإيراني التي صنعها آية الله الخميني، ويبدو أن خامنئي اليوم لا يودّ تدميرها، عبر سياسات غبية، لم تدرك بعد ماذا يعني الانجرار إلى حرب كبرى ومفتوحة ضد إسرائيل وأميركا. إذ إن التخلي عن فكرة وقرار تخصيب النووي الإيراني، الذي يقول قادة إيران جهارًا نهارًا إنه لا تراجع عنه أبدًا، قد يكون هو الأسهل من الوصول إلى حالة ضياع الفرصة وفوات الوقت، وانهيار الدولة المتخيلة والمأمولة إيرانيًا، أي إعادة “مجد” إمبراطورية “كسرى أنوشروان”، كما يقولون، وبناء الدولة الحديثة والعصرية (الإيرانية) الإمبراطورية، التي تقتص وتثأر من العرب، وتهيمن على المنطقة العربية برمتها، في ظل غياب أي مشروع عربي قوي وقادر على لجمها.
المصدر: تلفزيون سوريا