لبنان منتظر أن تلفحه الرياح السورية

صهيب جوهر

رغم كل ما يُشاع عن انكفاء إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الملف اللبناني، إلا أن الوقائع الدبلوماسية والسياسية تشير إلى العكس تماماً. فلبنان لا يزال يشكّل بنداً دائماً في محادثات ترامب الإقليمية، سواء في اتصاله الأخير برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أو خلال زيارته إلى الخليج، حيث طُرح الوضع اللبناني مراراً وبتفصيل لافت. وعلى الرغم من تصدّر الملف السوري أولويات الإدارة الأميركية، لا يزال لبنان موضوعاً حيوياً ضمن استراتيجية الضغط القصوى التي تنتهجها واشنطن في مواجهة النفوذ الإيراني.

والتحول الاستراتيجي الأبرز في المنطقة تمثّل في الانقلاب السياسي الذي شهده الداخل السوري، مع سقوط النظام الأسدي وصعود أحمد الشرع إلى سدة الرئاسة، بدعم خليجي–تركي، وبتفاهم غير مباشر مع واشنطن. هذا التغيير، الذي ترافق مع رفع تدريجي للعقوبات الغربية والعربية عن سوريا، لم يكن منعزلاً عن المعادلة اللبنانية، بل انعكس مباشرة على موازين القوى في بيروت.

واشنطن باتت ترى في “حزب الله” ليس فقط تهديداً إسرائيلياً بل معرقلاً لمسار التحول العربي في سوريا ولبنان معاً.

فالنفوذ الإيراني، الذي لطالما تمدّد في لبنان عبر الحلف العضوي بين طهران ودمشق، بات اليوم في موقع دفاعي، نتيجة انكفاء الحليف السوري وتبدّل أولوياته. ومع استدارة دمشق الجديدة نحو العواصم العربية، خصوصاً الرياض والدوحة، وفتح كل قنوات التنسيق مع أنقرة، برزت دعوات متجددة لإعادة ضبط التوازن اللبناني عبر تحجيم “حزب الله”، ودفع بيروت نحو تنفيذ التزاماتها السيادية، بدءاً من نزع السلاح الثقيل المنتشر خارج مؤسسات الدولة.

هذه المتغيرات فرضت على إدارة ترامب مقاربة مزدوجة: من جهة دعم النظام السوري الجديد باعتباره واجهة سنية معتدلة تتماهى مع المصالح الإقليمية؛ ومن جهة أخرى تسريع وتيرة الضغط على لبنان باعتباره آخر خطوط الدفاع الإيرانية على المتوسط، وخصوصاً في ظل فشل التفاهمات الكبرى مع طهران.

في قلب هذه الاستراتيجية، يُشكّل سلاح “حزب الله” المحور الأساسي للضغوط الأميركية. وتُظهر المواقف التي حملتها نائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، أن واشنطن باتت ترى في “حزب الله” ليس فقط تهديداً إسرائيلياً بل معرقلاً لمسار التحول العربي في سوريا ولبنان معاً.

وقد برز هذا التوتر خلال زيارة أورتاغوس إلى بيروت، بالتوازي مع زيارة الرئيس اللبناني العماد جوزيف عون إلى القاهرة. هناك، سعى عون إلى حشد دعم اقتصادي عاجل، خاصة في ظل تعثر مشروع نقل الغاز المصري إلى لبنان عبر الأردن وسوريا. إلا أن المشهد أخذ منحى لافتاً مع دعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لعقد اجتماع ثلاثي ضمّه مع الرئيس اللبناني ومسعد بولس، الموفد الرئاسي الأميركي إلى أفريقيا. وقد عبّر اللقاء عن مخاوف متنامية من أن يؤدي أي تصعيد في الجنوب اللبناني إلى نسف المسار التوافقي الذي تُبنى عليه الترتيبات السورية–اللبنانية–الخليجية الجديدة.

رغم محاولات مصر وباريس التوسط لفصل مساري سلاح الحزب والإصلاحات الاقتصادية، أصرت واشنطن ومعها الرياض على اعتبار المسارين متلازمين. فبالنسبة لإدارة ترامب، لا يمكن تبرير أي دعم مالي أو استثماري للبنان دون ضمان تفكيك البنية الأمنية التي يسيطر عليها الحزب، والتي تتناقض مع مسار التسوية السورية الجديدة. وفي هذا السياق، تؤكد مصادر أميركية أن الجيش اللبناني قام فعلاً بتفكيك أكثر من 500 موقع تابع لـ”حزب الله” جنوب الليطاني، لكن هذه الخطوة تبقى رمزية ما دام السلاح النوعي لا يزال منتشراً شمال النهر وفي البقاع.

إيران لن تتخلى عن نفوذها بسهولة، لكنها مضطرة للتكيف مع واقع جديد يعيد رسم خريطة الشرق الأوسط

وفي واشنطن، لا يخفي صقور الإدارة قناعتهم بأن الحزب يستخدم الوقت لتأجيل الحسم، ويواصل تهريب السلاح عبر الحدود السورية، ما يضع دمشق الجديدة في موقف محرج أمام حلفائها الجدد في الخليج والغرب.

وإسرائيل، من جهتها، ترى في هذا التعقيد فرصة ذهبية لإعادة صياغة شروط الاشتباك في الجنوب. فالضوء الأخضر الأميركي لعمليات الاستهداف النوعي، كما حصل مؤخراً في الضاحية الجنوبية، يشير إلى مرحلة مقبلة من الضربات الوقائية، لا سيما في مناطق البقاع التي يُشتبه بأنها ممرات رئيسية لنقل الصواريخ الدقيقة.

في موازاة ذلك، باتت القيادة العسكرية الأميركية، كما عبّر عنها قائد القيادة المركزية الجنرال مايكل كوريلا، تُعدّ سيناريوهات عسكرية واضحة في حال فشل التفاوض مع إيران. وفي ظل تصاعد الضغوط الداخلية على ترامب، تبرز خشية جدية من أن يلجأ الأخير إلى خيار عسكري إقليمي في سياق محاولته ترميم صورته داخلياً، بعدما تعثرت وعوده في ملفات أوكرانيا وغزة والاقتصاد.

وسط هذه التحولات، يبقى لبنان ساحة الفرز الأخيرة بين مشاريع متضادة: مشروع الدولة الوطنية المتكئة على الدعم العربي والدولي، مقابل مشروع المقاومة المستند إلى معادلات ما قبل سقوط دمشق القديمة. فالعاصمة السورية لم تعد على ما كانت عليه، وطهران نفسها تعاني من أزمات داخلية وضغوط اقتصادية خانقة، أما واشنطن فتضع سقفاً واضحاً: لا مساعدات دون إنهاء سيطرة الحزب على مفاصل القرار اللبناني.

وزيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى بيروت، وإن أتت بصيغة ديبلوماسية، لم تُخفِ الرسائل المشفرة: إيران لن تتخلى عن نفوذها بسهولة، لكنها مضطرة للتكيف مع واقع جديد يعيد رسم خريطة الشرق الأوسط… من دمشق إلى بيروت.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى