في منتصف شهر نيسان (أبريل) الماضي، قامت المؤسستان البريطانيتان وور أون وونت المهتمة بالكفاح السياسي ضد الفقر وتيبينغ بوينت العاملة في مجال العدالة المناخية، بالتعاون مع هونته هنته البورتوريكية المناهضة للرأسمالية وبودكاست فاير ذيز تايمز الذي يقدّمه الكاتب والناشط اللبناني جوي أيوب، باستضافة محادثة متعددة اللغات عبر الإنترنت جمعت مجموعة من قادة الرأي في سوريا وأوكرانيا للحديث عن تداعيات الحرب الروسية الحالية.
شارك في المحادثة الكاتب السوري والسجين السياسي السابق ياسين الحاج صالح، وهو زوج سميرة الخليل التي اختطفها جيش الإسلام في كانون الأول (ديسمبر) 2013. والناشطة والصحفية السورية والناجية من الاعتقال وفا مصطفى، التي غادرت بلادها يوم 9 تموز (يوليو) 2013، بعد أسبوع بالضبط من إخفاء النظام السوري لوالدها قسرياً في دمشق. ويوليا يورتشنكو، الباحثة الأوكرانية والمحاضرة في مجال الاقتصاد السياسي. والمؤرخ الأوكراني تاراس بيلوس، الناشط في منظمة الحركة الاجتماعية. أدار هذا الحوار جوي أيوب. وقد تحدَّثَ ثلاثة من الضيوف بالانكليزية، فيما تحدث تاراس بيلوس بالأوكرانية، لكن الحوار كلّه كان مترافقاً مع ترجمة فورية إلى اللغات الإنكليزية والأوكرانية والروسية والإسبانية والعربية.
تقاطعات وتباينات
ثمة تبيانات عديدة بين الحكايتين السورية والأوكرانية، غير أن هناك خيوطاً عديدة تربطهما بصرف النظر عن الوقائع السياسية المباشرة والمآلات المحتملة للصراع في البلدين، كما أن هناك جسوراً يمكن بناؤها على طريق الكفاح من أجل عالم أفضل. وقد تناول الحوار هذه الجوانب تباعاً، على نحو يشرح مقدار التشابك بين سائر قضايا عالم اليوم.
عن الصراع في سوريا، شرح ياسين الحاج صالح المسار الذي سلكته الأحداث مبيناً كيف واجه النظامُ المظاهرات بالحرب منذ اللحظة الأولى، وكيف تحولت المواجهة بين النظام ومعارضيه من صراع سوري-سوري إلى صراع دولي تشارك فيه دول عديدة بشكل مباشر، وكيف تسبَّبَ كل هذا بعدد هائل من الضحايا ونزوح ملايين السوريين إلى 127 دولة في العالم: «لدينا إذاً خمس دول داخل سوريا، وسوريون في كل مكان في العالم. لا أعتقد أن العالم شهد مثالاً مشابهاً… يقول كثيرون إن الوضع في سوريا مُعقَّد، وهذا صحيح. ولكنه، في الوقت نفسه، قابل للتحليل، والنقطة الأهم لتحليله هي الحديث عن مُعقِّداته (العناصر والجهات التي تجعله معقداً). حين تُرتَكب مجزرة مروعة بالسلاح الكيماوي، وعوضاً عن معاقبة المجرم، يُطبَّق القانون الدولي بشكل مثير للسخرية، يصبح الوضع معقداً حقاً».
وفي سياق شرح الأوضاع الراهنة في سوريا أيضاً، قالت وفا مصطفى إن جهات عدّة قدّمت تقديرات لأعداد الضحايا: «سمعنا العديد من الأرقام، بعضها وصل إلى مليون قتيل في سوريا. وهذا من أصعب ما في المأساة السورية: لا أحد يعرف حقاً». وتحدثت أيضاً عن الأوضاع الإنسانية والكارثية في سوريا اليوم، وعن الآلام الرهيبة التي يتسبب بها الاختفاء القسري: «أخفى نظام الأسد والدي قسرياً منذ 8 سنوات و9 أشهر و12 يوماً. لا نعلم إنْ كان على قيد الحياة أم لا. هذا ما يعنيه الاختفاء القسري في سوريا: لا مكالمات هاتفية ولا رسائل ولا أي شكل من الاتصال. يتعرض أفراد العائلات التي في ظرف كظرف عائلتي لتعذيب النظام، فهم يمضون أيامهم وهم يتساءلون ما إذا كان أحباؤهم على قيد الحياة أم لا».
بشأن أوكرانيا، تحدثت يوليا يورتشنكو عن «التشابهات المخيفة» بين ما يجري في سوريا وما يجري في بلدها: «ناسٌ يرزحون تحت معاناة قاسية، دمار المدن، اختطاف، تعذيب، قتل، وفوق ذلك كله، حين نبحث عن تلبية الاحتياجات الإنسانية والعسكرية الملحة للبلاد، نضطر إلى مصارعة من يُشكّكون فيما يحدث في البلاد. ولا أتحدث هنا عن بروباغاندا الكرملين وحدها، بل عمّن يسمّون أنفسهم اليسار الغربي أيضاً، أو أياً تكن الأسماء التي يختارونها لأنفسهم… نسمع كثيراً أنه صراع بين قوى إمبريالية، وأن القوى الكبرى تتصارع فيما بينها، وأن أرضنا وشعبنا مجرد بيادق بأيديهم. نعم، هذا واضح جداً. ولكن القصة أعقد من ذلك. أين الأفراد؟ أين إرادتهم ورؤيتهم؟ أين هي قصصهم؟ أين هي رغباتهم وأحلامهم».
هذا إذاً جانبٌ من التشابه بين القضيتين، إذ ينكر كثيرون المعاناة الهائلة التي تتسبب بها روسيا في البلدين، ويمتنعون عن دعم الكفاح ضد روسيا تحت غطاء من خطاب العداء للإمبريالية، ويعطون شرعية لخطاب الكرملين. وقد تحدثت يوليا يورتشنكو عن البروباغندا الروسية لتبرير غزو أوكرانيا، مبينةً أن المخاوف الروسية المزعومة هي مخاوف فقدان السيطرة على الاقتصاد الأوكراني وموانئ البحر الأسود في سمفربول وسيفاستوبول، و«هذه مخاوف إمبريالية، وليست محاولة تغيير وصفها إلا سُخفاً». تقول أيضاً إنّ «علينا القيام بمهمة صعبة جداً، وهي مواجهة هذه السرديات غير المنطقية، وتبيان أن القصة أعقد من ذلك. لا يصح أن تؤدي المواقف المعادية للولايات المتحدة أو لحلف الناتو إلى تبرير حرمان الأوكرانيين من سلاح يدافعون به عن أنفسهم، أو حرمان السوريين من السلاح نفسه. ليس في هذا أي منطق. حدث أن نقابات عمالية في اليونان وإيطاليا رفضت تحميل السفن بالسلاح لأنها متجهة إلى أوكرانيا، وتم التباهي بذلك على أنه فعلٌ بطولي لأنهم غامروا بوظائفهم. فليكن! فليحافظوا على عملهم. لا نريد دعم مثل هؤلاء».
وعن مزيد من التشابهات بين الحكايتين السورية والأوكرانية، قال تاراس بيلوس: «في حالتنا، بدأ الأمر بثورة ميدان عام 2014، التي شكّلت جزءاً من الاحتجاجات الشعبية حول العالم، مثل الربيع العربي والثورة السورية. ولكننا كنا أكثر حظاً، لأن ثورة ميدان انتصرت، وعلى عكس الحال في سوريا، سقط نظام يانوكوفيتش. ولكننا وُوجِهنا بعد ذلك مباشرة بالعدوان الروسي. أتذكّر أننا كنا نخشى أن تصل الدبّابات الروسية إلى كييف، ولكن، لحسن الحظ، اكتفت روسيا حينها بضمّ القِرَم وغزو دونباس، ومعظم المناطق الأوكرانية الموالية لروسيا… خلال هذه السنوات، رأينا الفظائع في سوريا، وخشيتُ في فترات معينة أن يحدث ذلك لنا. ولكنني ظننت أيضاً أن الحرب الشاملة لا يمكن أن تندلع إلا إذا عصفت بأوكرانيا أزمة سياسية خطيرة، أو إذا اندلعت ثورة ميدان ثالثة (وكان كثيرون يتحدثون عن ذلك) يمكن لروسيا أن تستغلها. ولكنني كنتُ مخطئاً تماماً».
يؤكد ياسين الحاج صالح على وجود تشابهات: «ما يذهلني أكثر من أي شيء آخر، هو قدرة الروس على الكذب، ومحاولة إقناع العالم بأسره بكذبهم، بأن السلاح الكيماوي لم يُستَخدم قط في سوريا، وبعدم وجود ضحايا من المدنيين، وبأن السوريين جميعاً إرهابيون، كما يصفون الجميع في أوكرانيا اليوم بأنهم نازيون»، وعدا عن ذلك، «ثمة شعور بأن القضية واحدة… هدف روسيا هو سحق الديمقراطية في أوكرانيا ومنعها في سوريا». إلا أن الاختلاف الرئيسي بحسب الحاج صالح هو أن «الولايات المتحدة، في أوكرانيا، تقف ضد روسيا. (أما) في سوريا، لطالما كانت الولايات المتحدة روسيا أخرى. لم يلقَ التدخل الروسي إدانةً من الولايات المتحدة، أو أي من القوى الأوروبية. وهذا مصدر إضافي للتعقيد في سوريا، لأن القوى الديمقراطية لم تكن ديمقراطية مطلقاً في سوريا أو في الشرق الأوسط بشكل عام. هذه قصة طويلة، قصة طويلة وقبيحة ومزعجة ويصعب سماعها».
في هذا الشأن قالت يوليا يورتشنكو إن إسرائيل والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا أقدموا مراراً على انتهاك القانون الدولي، بحيث أنهم عجزوا عن الاعتراض على أفعال بوتين: «على أي أساس يمكن لهذه الدول أن تعترض؟ يمكنه الآن أن يجلس في مجلس الأمن بابتسامة صفراء ويقول: لم نفعل ما لم تفعلوه أنتم قبلنا، وهو محق في ذلك. لا يبرر هذا ما تفعله روسيا. ولكن المنظومة معطلة منذ زمن بعيد، وهي تعيد إنتاج الهَرَميات السلطوية في النظام الدولي منذ تأسيسها، وذلك لأسباب بنيوية». وقال تاراس بيلوس: «ستتردد الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على الأرجح في دعم محاكمة بوتين ومجرمي الحرب الروس دولياً، لأن محكمة كهذه يمكن أن تحاكم المسؤولين في هذه الدول أيضاً عن الجرائم التي ارتكبوها. رأينا روسيا تستخدم حق الفيتو في مجلس الأمن، وأنا واثق من الولايات المتحدة لا ترغب في تغيير منظومة الفيتو لأنها هي أيضاً تستخدم حق الفيتو، وتريد أن تحتفظ بهذا الحق». لكن رغم ذلك، يرى بيلوس أنّ «أمامنا فرصة حقيقية لإصلاح الأمم المتحدة، مثلاً، ولفعل شيء بشأن الدول التي لها حق الفيتو في مجلس الأمن. ولتحقيق ذلك، نحتاج إلى ضغط دولي».
القضايا المتشابكة
قالت وفا مصطفى إن «عدم الوقوف في وجه روسيا عام 2015، وعدم الوقوف في وجه نظام الأسد، كان رسالة واضحة لبوتين والأنظمة الديكتاتورية حول العالم: من فضلكم، افعلوا ما تشاؤون، اقصفوا مواطنيكم، استخدموا السلاح الكيميائي ضدهم، اقتلوهم، اعتقلوهم، حاصروهم، لا بأس في ذلك. ستظلون رؤساء وسنرحب بكم… هذا يزيدني غضباً. ولكنني لهذا السبب ازددتُ إصراراً أيضاً. أعتقد أن معركتنا حول العالم واحدة. يقول لي البعض إن الصراع من أجل الحرية فكرة رومانسية. للأسف، أثبتت أوكرانيا أنها ليست رومانسية، بل عملية وواقعية. ما كنا لنرى ما نراه في أوكرانيا اليوم لو أن روسيا أوقِفت عند حدها قبل بضع سنوات».
وقال تاراس بيلوس إن «ثورة ميدان في أوكرانيا والثورة السورية كانا جزءاً من موجة الاحتجاجات الشعبية نفسها حول العالم. المهمة في أوكرانيا كانت، بأشكال متعددة، أبسط من المهمة التي واجهها السوريون. بشكل أو بآخر، كان الدرس السوري هو لمحة مما كان يمكن أن يحدث لنا لو فشلنا، لو لم يسقط نظام يانوكوفيتش، الذي هرب، ولو دعمته روسيا علناً كما دعمت الأسد، لو حاولوا إعادة يانوكوفيتش إلى السلطة. هذا هو الدرس الذي تلقيناه. أصيب كثير من الأوكرانيين بعد ثورة ميدان عام 2014 بخيبة أمل من إنجازاتها. فقد شعروا بأن تطلعاتهم التي خرجوا من أجلها، وخاضوا صراعهم ضد يانوكوفيتش من أجلها، تعرضت للخيانة ولم تتحقق. ولكنني أعتقد أن المقارنة يجب أن تتم لا مع الوضع في أوكرانيا قبل الثورة، بل مع احتمالات ما كان يمكن أن يكون».
تحدَّثَ بيلوس أيضاً عن البروباغندا الروسية التي تحاول تصوير السوريين جميعاً على أنهم إرهابيون، والأوكرانيين جميعاً على أنهم نازيون. لكنه يقول بالمقابل إنه في البلدين «شاركت قوى لا يسرّنا وجودها في الاحتجاجات. فيوجد في أوكرانيا فعلاً يمين متطرف، ويوجد في سوريا جهاديون. ولكن ما علينا إدراكه هو أن روسيا تستغل الفرصة دائماً لتزيد من حجم هذه القوى وتركز عليها، وتقول إن الجميع ينتمي إليها، وبمجرد وجود مشارك واحد من هذه القوى، يوصَف الجميع بأنهم مثله».
بناء على كل الوقائع والآراء التي ذكرها الضيوف، سألَ جوي أيوب عن إمكانيات التعاون في المستقبل، وعن هذا قالت يوليا يورتشينكو: «علينا أن ننظر إلى التقاطعية والعمل متعدد الاختصاصات كما يجب. عندما ننظر إلى السياسات التي تتبعها القوى الاستعمارية والإمبريالية، القائمة على قناعة بأن من حقها أن تفعل ما تريد، نجدها مشابهة لحالات العنف المنزلي من الناحية النفسية. فهذه حرب نفسية، قائمة على تحقير الآخر وكسر روحه المعنوية ولوم الضحية. رأينا ذلك في سوريا، ونراه مراراً في أوكرانيا. حسب الرواية الروسية، الأوكرانيون هم من أجبروا الروس على مهاجمة بلادهم وقصف مدنهم. إنها علاقة تعنيف… أدركُ أيضاً أن هذا صراع وجودي. إذا لم نُخرِج جيش بوتين، فلسوف تستمر الحرب والمعاناة. أتفق معك يا وفا، لقد أصبتِ عين الحقيقة بما قلتِ: لو أوقِف جيش بوتين عام 2014، لما كنا نتحدث عن الحرب الآن، لأنها لم تكن لتحدث».
يعتبر تاراس بيلوس أن أكبر مساعدة يمكن للأوكرانيين تقديمها للسوريين اليوم هي الانتصار في هذه الحرب، لأن «من شأن هذا أن يغير الوضع الدولي ويمنح فرصة لشيء من التغيير في سوريا. في الوقت نفسه، يتمثل دورنا الآن، في الوقت الذي يتركز فيه الاهتمام على أوكرانيا على المستوى الدولي، في تعزيز ورفع أصوات السوريين، وتذكير العالم بما يجري هناك في كل فرصة». وتقول وفا مصطفى إن التواصل بين الأوكرانيين والسوريين الأمر ليس مهماً فحسب، بل« إنه الخيار الوحيد المتاح أمامنا، أن نتواصل ليدعم بعضنا بعضاً… آمل ألا يبدو ما سأقوله تشاؤماً، ولكنني إذا تعلمتُ درساً واحداً خلال أحد عشر عاماً، فهو أن النضال طويل. وصلتُ إلى تقبّل فكرة أنني لن أرى سوريا دولةً حرةً وديمقراطية. وقد لا يراها الجيل المقبل كذلك. فليكن، لأنني أعلم أننا نقاتل الوحشية والإجرام… وجودنا هنا اليوم معاً هو من الوسائل الممكنة ليعرف كل منا بما يجري، ولنحارب ضد السرديات المختلقة… معركة الحقيقة مستمرة، وأقل ما يمكننا فعله هو الوقوف في وجه البروباغاندا ورواية الحقيقة المخالفة لسرديات روسيا وغيرها من الدكتاتوريات».
يؤكد ياسين الحاج صالح على ما قاله تاراس بيلوس بشأن ضرورة انتصار الأوكرانيين: «أرجوكم انتصروا في هذه الحرب. سيساعدنا ذلك. قبل كل شيء، سيكون من مصلحتكم الانتصار في الحرب. وسيكون من مصلحة روسيا أيضاً. هناك العديد من الشجعان والشرفاء المناهضين لبوتين ونظامه، وآلة الحرب والأكاذيب والبروباغاندا الروسية. وستكون هزيمة نظام بوتين من مصلحتهم… كلما ازددنا تعارفاً ولقاءً، اتسع الفضاء الذي نتقاسمه… أقرأ اليوم عن السوريين الذين ذهبوا إلى أوكرانيا في حافلة، وأخذوا معهم بعض الطعام والدواء، واصطحبوا معهم لاجئين. هذا نشاط رائع، ومفيد جداً. صحيح أنه نشاط رمزي، ولكننا بحاجة إلى هذه الأنشطة، وإلى مواصلة اللقاء والحديث والإصغاء».
المصدر: الجمهورية.نت