يُحكى أن صديقين، كان قد فرّقهما خلافٌ عميق، التقيا يوماً في برّية خالية والأمطار الربيعية تهطل بغزارة، فتتشكّل الفقّاعات من قطراتها الكبيرة المنهمرة بقوة. أحدهما كان يحمل سلاحاً، والآخر كان أعزل. ويبدو أن المسلح كان قد اتخذ قراره بقتل صديقه السابق وغريمه الراهن، بل صارحه بنيّته، فحاول الأعزل منعه من ذلك، محذّراً إياه أن جريمته سيُكتشف أمرها مهما طال الزمن. فأجابه صاحب السلاح بكل غطرسة: ومن الذي سيشهد على ذلك، فلا أحد سوانا في هذه البرية؟ فردّ عليه الأعزل: هذه الفقّاعات المائية ستشهد عليك.
وكان القتل. ودارت الأيام والسنوات، وشاءت الأقدار أن يكون القاتل جالساً مع زوجته في البيت، يراقب المطر الربيعي الغزير من النافذة، ويشاهد الفقّاعات المائية التي كانت تتشكل على الأرض، فابتسم، وكأنه يسخر من كلام المغدور. انتبهت الزوجة إلى ذلك، وأصرّت، بمختلف الحيل، على معرفة سر الابتسامة الغريبة، فأخبرها، بعد أن أكّدت له أن سره سيبقى في بئر مهجورة، بما حدث. ومرّت الأعوام، وتعكّرت الأجواء بين القاتل وزوجته. وفي يوم، اعتدى عليها بالضرب، وهدّدها بالقتل، فذُعرت لذلك، سيما أنه قد سبق له أن قتل صاحبه بعد الخلاف، فخرجت إلى الشارع لتصرُخ بأعلى صوتها، وتعلن أن القاتل المجهول الذي ارتكب جريمة البرّية قبل سنوات هو زوجها.
مناسبة هذه الحكاية، التقرير الذي نشرته صحيفة الغارديان البريطانية أخيرا، ويمثل حصيلة جهود باحثيْن يعملان في مركز “الهولوكوست والإبادة الجماعية” التابع لجامعة أمستردام؛ أصرّا على معرفة سرّ الجناة، وهو تقرير صادم بكل المقاييس، يوثّق بصورة مهنية المجزرة التي ارتكبتها أجهزة سلطة بشار الأسد في حي التضامن الدمشقي عام 2013، عبر عناصرها، من بينهم المعروف باسمه أمجد يوسف، وهي مجزرة من بين مئات ارتكبتها السلطة المعنية، وتلخص بكثافة المأساة السورية المؤلمة المفتوحة المستمرة منذ أكثر من 11 عاماً، وما زالت تنتظر الحل العادل، الذي يبدو راهناً أنه لا يعدّ أولوية بالنسبة إلى المجتمع الدولي، لانشغاله حالياً بتطوّرات الحرب التي أعلنها الرئيس الروسي بوتين على أوكرانيا، وتفاعلاتها الدراماتيكية التي تُنذر بجميع الاحتمالات. بل لا يعدّ الوضع السوري اليوم ضمن أولويات دول شقيقة وصديقة عديدة وقفت إلى جانب الشعب السوري في بدايات الثورة، ثم تغيرت أولوياتها بعد أن تلمست وقائع التفاهم الأميركي الروسي في الموضوع السوري، خصوصا بعد ضربة السلاح الكيميائي التي أقدمت عليها سلطة بشار في منطقة الغوطة صيف 2013؛ وساد اعتقاد في ذلك الحين أنها ستؤدي إلى تدخل دولي بقيادةٍ أميركيةٍ للمحاسبة بناء على وعود الرئيس الأميركي أوباما.
ولكن يبدو أن أمراً ما قد حدَث، وعلى الأغلب أن إسرائيل تدخلت، وكان التوافق الروسي الأميركي عن ضرورة تسليم السلطة المعنية مخزونها من السلاح الكيميائي، الأمر الذي فتح الباب أمام مزيد من التفاهمات والتوافقات بشأن مناطق النفوذ تحت شعار محاربة الإرهاب، والتخلي عن فكرة محاسبة السلطة. وهكذا حتى وصلنا إلى مسار أستانا، ولقاء سوتشي، واللجنة الدستورية، وبقية الخطوات التي لم، ولن، تساهم في تقديم أي حل للسوريين، في غياب إرادة دولية جادّة ترمي إلى وضع حد للمأساة السورية الناجمة عن إصرار سلطة مجرمة فاسدة مفسدة على التحكّم بمصائر السوريين ومقدّرات بلدهم وبأي ثمن.
مجزرة حي التضامن دليل جديد يؤكد أن “الأسد أو نحرق البلد” ليس مجرّد شعار، وإنما هو المحور الذي تتمفصل حوله سياسة سلطة بشار الأسد. والصور الصادمة التي وثقها التقرير المهني المشار إليه لا تعد الأولى في هذا المجال، فقبلها كانت صور مجزرة البيضا والغوطة والتريمسة ومعرزاف وصور القيصر وغيرها كثير كثير، ولكن جميع تلك الصور جاءت في غياب توجّه دوليٍّ فاعل نحو إدانة بشار الأسد وزبانيته، وإلزامهم بتحمّل نتائج جرائمه. لذلك، كانت الضبابية والغموض ملحوظيْن، حتى في تقارير اللجان الدولية المعنية بقضايا حقوق الإنسان التي كانت تكلف بتوثيق المجازر، خصوصا مجازر الكيميائي، في حين أن مجلس الأمن كان، وما زال، مشلولاً بفعل الفيتو الروسي.
ملف حقوق الإنسان، على أهميته وأولويته بالنسبة إلى الشعوب، لا يؤثّر في تحديد سياسات الدول، خصوصا الكبرى منها، بكل أسف، إلا في الإطار الذي ينسجم مع توجّهاتها وحساباتها ومصالحها. ولدينا أمثلة سابقة كثيرة في هذا المجال، سواء في العراق أو ليبيا أو السودان وإيران ولبنان وفلسطين ودول أفريقية وأميركية لاتينية، وفي الصين وروسيا، فهذا الملف يُحرّك عادة لتسجيل النقاط، وتسويغ السياسات. وهذا هو ما يحظى في هذه الأيام بأهمية خاصة في الحالة الأوكرانية، إذ يجري تسليط الضوء على جرائم الحرب التي ترتكبها القوات الروسية في أوكرانيا؛ فيما القوات نفسها ارتكبت جرائم أفظع في سورية، وقد مدّت روسيا السلطة هناك بكل أنواع الأسلحة، وساعدتها على ارتكاب الجرائم والمجازر بحق السوريين، وغطّت عليها سياسياً في مجلس الأمن. ومع ذلك، جرى تجاهل ذلك كله، بل كان التوافق الأميركي الروسي حول تقاسم المواقع، والتنسيق بين التحرّكات والعمليات، وأدّى ذلك كله إلى التشكيك في مصداقية المؤسسات الدولية المعنية بقضايا حقوق الإنسان، هذا مع ضرورة تقدير الجهود الكبرى التي تبذلها تلك المنظمات في ميادين توثيق الانتهاكات من حيث الزمان والمكان والحجم، وتحديد هويات الفاعلين، إلا أن ذلك كله يُوضع على الرفّ، طالما أن الحسابات السياسية لا تسمح بإثارتها، أو بناء المواقف والقرارات عليها. ولكن ذلك كله لا ينبغي أن يكون باعثاً على اليأس، بل لا بد من الاستمرار في جهود التوثيق والبحث في كل الانتهاكات التي ارتكبتها السلطة والمليشيات ضد السوريين على الأرض السورية، حتى الوصول إلى الأدلة القاطعة التي تدين المجرمين، رغم كل محاولات الإخفاء.
لقد أدّت جرائم السلطة، خصوصا المجازر المدروسة التي أقدمت عليها في المناطق المختلطة مذهبياً إلى تهجير أكثر من نصف السوريين، وقتل نحو مليون، وتغييب مئات الآلاف؛ هذا بالإضافة إلى تصاعد التوتر المذهبي البغيض في البلاد، وأتى ذلك كله، ويأتي، في سياق سياسة السلطة الخاصة بتفجير العلاقة الوطنية بين مختلف المكونات المجتمعية السورية، لا سيما بين السنّة والعلويين؛ وهي استمرارية للسياسة التي اعتمدتها هذه السلطة بالتنسيق مع حليفتها إيران في العراق بعد سقوط حكم صدّام حسين، إذ جرى تبادل الأدوار بغرض دفع العراق نحو الحرب الأهلية بين السنّة والشيعة، عبر تدبير العمليات الإرهابية الكبرى التي استهدفت المدنيين العزّل من الطرفين، ومن خلال تقديم الأسلحة والأموال والمساعدات اللوجستية للإرهابيين من الطرفين، وذلك لوضع العالم أمام بديلين سيئين: الاستبداد أو الإرهاب.
الوثائق التي نشرتها “الغارديان” بخصوص مجزرة حي التضامن في دمشق مؤلمة، وهي مبنيةٌ على جهد بحثي معرفي تقني شجاع صبور؛ والأمل اليوم معقود على مئات، إن لم نقل آلاف، السوريين المختصين بقضايا الانتهاكات الموزّعين في مختلف أنحاء العالم، فهؤلاء قد اكتسبوا، خلال الأعوام المنصرمة، خبراتٍ كثيرة، وأتقنوا اللغات، وبنوا العلاقات مع المنظمات المعنية بقضايا حقوق الإنسان في سائر أنحاء العالم، وكذلك أقاموا العلاقات مع المؤسسات الإعلامية الكبرى، وذلك كله يوفر أرضية مناسبة لمتابعة البحث التوثيقي في كل جرائم سلطة بشّار الأسد بحق السوريين.
ولكن ما لا بد أن ننتبه له، ونحذّر منه، هو الوقوع في أحابيل لعبة السلطة ذاتها من جهة تعميق الانقسام في المجتمع السوري على أسسٍ مذهبية أو قومية أو مناطقية؛ فهذه لعبةٌ قديمةٌ جديدةٌ تمارسها هذه السلطة منذ بداياتها قبل خمسين عاماً، فالخطاب المذهبي البغيض يولّد الأحقاد، ويقطع الطريق على المشروع الوطني السوري الذي يظل الملاذ إذا كّنا نريد وحدة الوطن والشعب. أما أن ننساق خلف الأهواء والنزعات والهيجانات التي تحرص السلطة على إثارتها واستغلالها، والاستفادة منها، فهذا فحواه أن نضع حواجز جديدةً بين السوريين، تمنع التواصل والتفاهم، وتقطع الطريق أمام أي إمكانيةٍ للتفاعل والعمل المشترك، وسيكون ذلك كله في مصلحة بشار الأسد وسلطته وراعيه الإيراني الذي اتخذ من موضوع إثارة الأحقاد المذهبية ركناً محورياً في سياسة زعزعة الاستقرار في جواره الإقليمي، وذلك ليتمكّن من التمدّد، والتغلغل، والتحكّم بمفاصل مجتمعات المنطقة ودولها.
المصدر: العربي الجديد