قبل يومٍ من نشر وسائل الإعلام مضامين تقرير صحيفة ذا غارديان البريطانية عن مجزرة في شارع دعبول في حيّ التضامن في دمشق، وراح ضحيتها 41 رجلاً وامرأة مدنيين، كنتُ في مشوارٍ إلى الحيّ. راقبت من نافذة السيارة الأبنية والمحلات المتهالكة في شارع الزاهرة، ثم دوّار الفرن، فحيِّ دف الشوك التعيس للغاية، ثم التضامن الذي مِيزته الأساسية التهميش والفقر والتعتير. لا شيء تغيّر هناك منذ سكنتُ فيه عام 1992، لا بنايات جديدة، لا نظافة، وحال الناس وألبستهم من سيئ إلى الأشد سوءاً؛ وهذه دائماً أحوال الأحياء الملاصقة لدمشق، والتابعة لها.
كان حيّ التضامن موطناً للفقراء القادمين إلى دمشق، من طلابٍ وجنودٍ وباحثين عن العمل؛ كُنت من جملة هؤلاء، فنستأجر غرفة، ونتشارك مع آخرين الحمّام والتواليت. شوارع ممتلئة بالزبالة والغبار ومساحتها ضيقة وشتائم ومشاجرات مستمرّة، وأبنية متلاصقة، وغير منظمةٍ وفق أيِّ مخططٍ عُمراني؛ إنّها العشوائيات؛ فتجد بنايةً من طابقٍ، ثم أخرى من أربعة، ثم ثالثة من طابقين، وإحداها بلا واجهة إسمنتية، وأخرى بإسمنت، وثالثة برخام، وإحداها متقدّمة إلى الشارعِ فيضيق، وأخرى متأخرة قليلاً فيتسع، وهكذا؛ لا يمكن العين هناك إلّا أن تتأذّى، وكذلك الروح؛ كان الفقر سبباً للانتقال إلى هناك، ولا شيء آخر.
في الليلة ذاتها انتشر التقرير، لم أستطع مشاهدة الفيديو المرفق به؛ قرأت نسخته المُفصّلة، والأخرى المختصرة، في وسائل إعلامية متعددة. كانت أنفاسي تتقطع، ويتجمّد تفكيري من هول المجزرة وحرق الجثث معصوبة الأعين. لاحقاً، رأيت بعض المشاهد مصادفةً، لكنّني لم أشاهده كاملاً، وهذا ما فعلته من قبل، منذ 2011… نعم، لا يمكنني مشاهدة تلك الفيديوهات، ولا الأقل إجراماً. عشرات الأحياء دُمِّرت، وآلاف البشر قتلوا بأشنع ما قد يفكّر فيه العقل أو يتخيّله؛ حرق الجثث بعد القتل.
تفرض المجزرة الصمت، لكنّها تدفعك إلى التفكير بمَن اجتُث وبنفسك. وبالطبع، لا يمكن البشر الخروج من جلودهم، ولهذا يفكّرون في المجزرة بطرقٍ متعددة؛ فبعضهم رآها مجزرة قامت بها الطائفة العلوية، رغم أنّ من قام بها، وفق التقرير، سوريون علويون ودروز وسنّة، ومن حَمّلَ مسؤوليتها للنظام ليس مخطئاً، وهناك من ركّز على الفاعل فقط، وكأنّه يقوم بإجرامه بشكلٍ مستقل، وهذا ليس صائباً أبداً.
في الليلة التالية، استعادت ذاكرتي بعض أحياء حمص، وكأنّ المجزرة أعادت إليّ ذاكرتي القديمة، واستعاد سِواي الأمر عينه؛ وقد قرأت، وهناك من عايش، كما آخرون، منذ أكثر من عشر سنوات، دمار أغلبية المدن السورية، وحصارها، ومقتل آلاف فيها. كانت ذاكرتي تستعيد الأحياء، والدمار وبعض الناس؛ يبدو أنّ ذاكرة “المجزرة” لا تموت أبداً، وتُستدعى مع أيّ إشارةٍ جديدة تحفزها. ربما كان يجب إجراء معالجاتٍ نفسيةٍ واسعةٍ لإحداث تغييرٍ في عالمنا النفسي المتأزّم بشدّة. المشكلة أنّ السوريين بأكملهم يحتاجون ذلك العلاج. لكن، قبل ذلك، وكي تكون المعالجة ممكنةً، يجب أن تتحقق العدالة الانتقالية، وبعدها يمكن النفس أن تشعر بضرورة التغيير وتتغيّر. قبل ذلك، يستحيل أن يتحقق ذلك؛ فالسوريون لم يحزنوا بعد؛ لم يبكوا أحبتهم، شوارعهم، مدنهم، بلدهم بعد.
مع حرب بوتين على أوكرانيا، وتَكشّف المجازر والدمار هناك، قارن كُثرٌ بينها وبين مدينة حلب والشيشان؛ إنّ الدمار والمجازر يتشابهان. لم ينشغل كبار الدبلوماسيين والسياسة العالميين بتقرير ذا غارديان، وعكس ذلك كلّ ما يخص أوكرانيا، وهذا سبب جديد لألم السوريين، وللشعور بالتمييز ضدهم، بينما هناك دعم كبير لأوكرانيا، التي تدمَّر بشكلٍ كبيرٍ، وتُرتكب فيها المجازر، وقد تذهب نحو التقسيم أيضاً؛ أخطأ بوتين الحسابات هذه المرّة، وما اقترفه هناك أعطى أميركا وبريطانيا خصوصاً، وبقية دول الغرب بشكلٍ رئيسيٍّ، إمكانية اصطياده، وإضعاف روسيا بشكلٍ خطيرٍ، وقد تكون هذه الخطوة من أجل عزل الصين لاحقاً.
إذاً، الكشف عن مجزرة التضامن لا يضيف جديداً إلى الوضع السوري، هو فقط يَنكأ جراح أرواح السوريين. عالمياً تستمر السياسة ذاتها، وأَعلن مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية، غير بيدرسون، جولةً جديدةً من لقاءات اللجنة الدستورية، والتقارب التركي الأميركي أخيراً لا يعني سياسة جديدة لحشر روسيا في سورية، أو فرض منطقة حظر جوي في مناطق الإدارة الذاتية، كما أُشيع، ولن ينفضَّ التحالف التركي الروسي الإيراني. صحيحٌ أنّ تركيا تحاول الاستفادة من حصار روسيا، لكنّها لا تثق بالاتحاد الأوروبي، الذي تقول بعض دوله بعدم إمكانية الاستغناء عن الطاقة الروسية، وراحت تتعامل بالروبل، ولا تثق تركيا بأميركا التي لا تنتهج سياسة جادّة في منطقتنا، وهذا دفع دولاً عديدة إلى البحث عن تحالفاتٍ جديدة، بغضّ النظر عن مدى صلابتها، وأين ستستقر، إلّا أنّها تعبّر، بشكلٍ كبيرٍ، عن عدم ثقةٍ بالسياسة الأميركية. وبالطبع، ليس هناك أيّ معطيات تقول بسياسة أميركية جديدة، وعلى الرغم من تعثر مفاوضات فيينا الخاصة بالنووي الإيراني، ما زالت التقارير تؤكد احتمالية عقد الاتفاق بشأنه.
لم تبدأ العدالة بعد، وهناك بدايات خجولة في أوروبا فقط، والمشكلة أنّه ليس من عدالةٍ انتقالية قريباً في سورية. وليست سورية التالية بعد أوكرانيا على طاولة المفاوضات العالمية، وأميركا وبريطانيا تعملان من أجل إطالة أمد الحرب الأوكرانية. السوريون تعساء جداً، فهم لا يمتلكون شيئاً من أنفسهم في الأعوام الأخيرة، وتنديدهم الواسع، والمُحقّ، بالمجزرة، وبكلّ سياسة النظام، لا يراكم شيئاً في إطار الصراع؛ وبلادهم مقسّمة، ومعارضاتهم خاضعة للمحاور الإقليمية والدولية.
سيُقتل مُرتكبو الجريمة الأساسيون أغلب الظن. لكنّ ملفات الإجرام لن تُفتح قريباً، ولا الفساد، ولا النهب باسم الشعب من النظام أو المعارضة المكرّسة. لم تعد مشكلة السوريين فقط النظام، وهو السبب الأساسي لمشكلتهم، قبل 2011 وبعده. أصبحت المعارضة التابعة والمفلسة من مشكلاتهم أيضاً، فهي التي تعرقل تشكيل معارضة جديدة، وتُكرّس أسوأ المواقف والسياسات الخاصة بأوضاع السوريين، وهذا يعني أنّ من الخطأ اختصار القضية السورية بسيطرة الخارج على “السوريات” المقسّمة بين إيران وروسيا وتركيا وأميركا وإسرائيل، فهناك مصالح قوى الأمر الواقع في مناطق سيطرة هذه الدول، التي تتشدّد أمنيّاً وسياسيّاً ضد “شعوبها” وضد قوى الأمر الأخرى، ومن أجل الحفاظ على مصالحها، والتي ستنتهي بتغيّر الواقع القائم؛ في ظلّ هذا الواقع لن يهتم العالم بقضية السوريين، ولا بالمجزرة البشعة المُكتشفة حديثاً، والتي اختلف السوريون المعارضون في تفسيرها، كما هي عادتهم غير الحميدة في كلّ شيء، وحسبي الله.
المصدر: العربي الجديد