حملني الفضول على تتبع أخبار رمز من رموز المعرفة في القرن العشرين وهو الموسوعي الفلسطيني نيقولا زيادة لأتفاجأ بأنه قد رحل عام 2006.
ما كتبه تلامذة جيله في نعيه دلَّ على أن رحيله، كحياته، لم يحظ باهتمام الإعلام وتذكرت كيف شيّعت روسيا في 2007 ابنها عازف الموسيقى تشييع الزعماء وكيف أبنّه العالم.
ولد زيادة في دمشق عام 1907 وتوفي في 2006 ويقول عن نفسه: أنا من جيل السلطان عبدالحميد الثاني. ما يجعله بهذا العمر شاهداً حقيقياً على العصر لكن شهادته لم تسجّل!
فرز اجتماعي
ليس هذا تأبيناً متأخراً لنقولا زيادة بل فرز اجتماعي، فإبن الأقلية المسيحية المهمل إعلامياً كان أكثر تأدباً مع النبي ﷺ وأمهات المؤمنين والصحابة من مراجع الشيعة الذين يملأون الشاشات، فلا يأتي على ذكر الرسول ﷺ إلا وألحقه ب ﷺ وما ذكر عائشة وأبا بكر أو عمر إلا أتبعهم ب “رضي الله عنهم”.
كما أنه كتب عن التاريخ العربي الإسلامي وعظمائه، وأسهب في تفصيل خصائص مجتمع الحضارة العربية الإسلامية وكيف انها وعاء اجتماعي يتّسع للجميع، ولو أن صفحة اقتطعت من احد كتبه لظن قارئها انها لكاتب مسلم.
أنموذج لثقافة العربي غير المسلم
كان زيادة أنموذجاً لثقافة العربي غير المسلم في مجتمع الحضارة الإسلامية، وجد في النظم الإسلامية الراشدية والأموية والعباسية والعثمانية مأمناً للأقليات، وعبّر عن خوفه من المد الطائفي الشعوبي القادم من الشرق والشاتم لقيم هذه الحضارة، وهو بذلك يجسّد أنموذجاً لشريحة اجتماعية من غير المسلمين تعرف أين مصالحها ومأمنها.
يلخص زيادة ذلك بقوله “أأمن على كنيستي تحت النظام الراشدي والأموي والعباسي والعثماني وأخشى عليها من النظام الصفوي“.
بهذا المفهوم لا يمثل المسيحي نقولا زيادة أقلية وإنما يمثل حلقة في مجتمع أهل السنة المتعدد الحلقات، الأقلية هم الذين يختلفون مع الأمة في قراءة تاريخها حتى وإن ظهرت اسماؤهم في قيد النفوس باعتبارهم (مسلمين).
“السنة” مرادف المواطنة
بهذا المفهوم فإن “السنّة” هي مرادف “المواطنة” لدى كل من اطمأن في هذا الكيان الاجتماعي على نفسه وولده وماله، ومن أبدع صور متانة هذا المفهوم أنه مرّ بعقود بل قرون غابت عنها الدولة، فلا حكومة ولا شرطة ولا قضاء، ورغم ذلك لم تُصَب كنيسة بأذى، أي أن الأديان تعيش في حماية المجتمع وليس بحماية الأنظمة السياسية.
هذا المفهوم أبدعته مدرسة “أهل السنة” في منطقة من أكثر مناطق العالم فسيفسائية وهشاشة، وينبغي أن يكون شغلاً شاغلاً لمعاهد الاستراتيجيات وتطوير المجتمعات في زمن سقطت فيه الدولة ويحتاج الناس فيه إلى نظام اجتماعي ذاتي للتعايش.
المصدر: وجهات نظر