من الناحيتين النظرية والعملية، لا يمكن في ظل الشتات الجغرافي للشعب الفلسطيني، والانقسام السياسي الذي يطبع واقعه الوطني منذ سنوات عديدة، النظر إلى الفلسطينيين ككتلة مجتمعية وسياسية واحدة موحدة، فلا ريب أن اعتماد أية مقاربة تنطلق من هذا المنظور، سواء حيال القضايا الداخلية الفلسطينية، أو ما يشهده المحيط العربي من أحداث تاريخية مفصلية، لهو ضربٌ من الوهم، تبدده حقائق فلسطينية صلبة، تؤكد بصورة جليّة، مستويات التباين والاختلاف، في علاقة الفلسطينيين بين بعضهم البعض من جهة، وما كشفته الثورات العربية من احتدام الجدل الفلسطيني حول كل ما يقترن بها، من رؤى، ومواقف، واتجاهات من جهةٍ أخرى.
تثور هذه الإشكالية في بعديها الفكري والأخلاقي، مع تراكب عاملين أساسيين، أولهما: المأزق الداخلي البنيوي، الذي أودى بالقضية الفلسطينية إلى خسارات متتالية، في إدارة الصراع مع المشروع الصهيوني، وفشل مزمن في تصحيح بوصلة المشروع الوطني، بسبب فساد وفوات النخبة السياسية الفلسطينية، والتي تحولت بعد اتفاق أوسلو، إلى أذرع سلطوية متصارعة على مكاسب حزبية وفئوية، كما أصبح عليه حال؛ الضفة الغربية وقطاع غزة منذ قرابة العقدين ونصف الفائتين. وثانيهما: إفرازات العامل الأول، وتداعياته على ربط القضية الفلسطينية، بالمسار الرسمي العربي والدولي، وإبعادها وشعبها في الداخل والخارج عن موجات الثورات العربية، التي انطلقت واتسع نطاقها خلال العقد الجاري.
كلا العاملين من حيث النتيجة، يوضحان مفارقة كبرى: هي انتقال فلسطين في تجربتها التحررية من كونها قضية عادلة، ألهمت الشعوب العربية للدفاع عنها، ومقاومة مشاريع طمسها وتصفيتها، إلى تساؤل تلك الشعوب بعد اندلاع ثوراتها المتنقلة – بكثير من الاستغراب والمرارة- عن معنى انحياز غالبية الفصائل الفلسطينية، وتحول العديد من الوجوه الفلسطينية المثقفة، إلى أبواق لرواية النظام الأسدي، الذي لم يسبق لنظام عربي أن تاجر بالقضية ونكل بأهلها، كما فعل منذ عهد الأسد الأب، وصولاً إلى جرائم وريثه بشار بحق فلسطينيي سوريا، بما لا يقل عن جرائمه حيال السوريين !؟.
لم يكُ ذاك التساؤل المشروع، حصرياً بالسوريين الأكثر تعاطفاً مع الوجع الفلسطيني منذ النكبة الأولى، فقد تكرر التساؤل نفسه بأوجه عدة على ألسنة الأحرار العرب، لا سيما من أخذت القضية الفلسطينية حصةً كبيرةً من تجاربهم وأعمارهم. ولم يغب بدوره عن أذهان الكثيرين من شباب الانتفاضات والثورات العربية.
إغفال وتجاهل مثل تلك التساؤلات، من جانب كتلة لا يُستهان بها في الوسط الفصائلي والثقافي الفلسطيني، والانتقادات الحادة التي كانت تثيرها، مواقف من يقومون بالتطبيع مع نظام الأسد، ومغازلة الثورات المضادة، عدا عن ولاء البعض لحكم الملالي في إيران، كل ذلك أدى إلى تباعد المسافة بين قوى تُهيمن على القرار الوطني والسياسي الفلسطيني، وقطاعات شعبية عريضة وفاعلة في مسيرة تحرر تلك الشعوب، ترى الأخيرة أن المؤتمنين على قضية فلسطين، خانوا رسالة الحرية التي لا تقبل التناقض في الرؤية، ولا تحتمل الازدواجية في المواقف، وتأبى التضحية بالحقوق على حساب المصالح، ولا يستوي فيها المطالبة بدعم الحق الفلسطيني، حين يصدر عن ألسنة تستسهل التنكر لحقوق الشعوب العربية.
على ضفاف هذا الجدل المُلتهب، بانت أيضاً حجم التناقضات الفلسطينية الحادة، لاسيما بعد انفضاح تورط فصائل فلسطينية، مع النظام الأسدي في صناعة مأساة فلسطينيي سوريا، وتواطئ بعضها الآخر في السكوت على جرائمه المروّعة، وليس آخرها استكمال تدمير مخيم اليرموك عن بكرة أبيه، في شهر أيار 2108، وتهجير ما تبقى من أهله. أبعد من ذلك كانت واحدة من كشوفات الثورة السورية المريرة، هي تقوّض أعمدة الثقة التي كانت تربط فلسطينيي سوريا، بالمرجعيات الفصائلية والأطر التمثيلية الوطنية، وعنوانها الأبرز: منظمة التحرير الفلسطينية.
فاقم من القطيعة بين الفصائل، وقطاع كبير من الشعب الفلسطيني، ما كشفته أيضاً رياح الموجة الثانية للثورات العربية، لاسيما في العراق ولبنان، ففي الوقت الذي كان ثوار البلدين، يواجهان قمعاً شديداً من حلفاء وأدوات إيران والأسد، لم يخجل مراد السوداني رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين، من زيارة دمشق وحضور ذكرى تأسيس اتحاد الكتاب العرب، وهو يتغنى “بصمود دمشق ودعم قيادتها للشعب الفلسطيني”، وقبل هذه الواقعة لم يتوانَ قادة سياسيون ومثقفون وباحثون من الداخل الفلسطيني، على زيارة حضن الطاغية، والثناء على حروبه الوحشية ضد السوريين والفلسطينيين على حدٍ سواء.
يستحضر نشاز أولئك الفلسطينيين عن مسارات التغيير العربية، مَثل فلسطيني يقول:” درت ظهرك يالي بحبوك ولحقت يالي شخ عقبر أبوك”. فهذا الرهط لم يُدر ظهره لسنده الحقيقي فحسب، وهي الشعوب العربية، بل سبق وأدار ظهره لشعبه الفلسطيني، ووضع على عاتقه مهمة إبعاد الفلسطينيين، وبقائهم بمنأى عن التأثر والتأثير بالتحولات الكبرى في الواقع العربي، مع أنهم المستفيد الأكبر من سقوط أنظمة الاستتباع والارتهان، وأصحاب المصلحة الأساسية في تحرر الشعوب العربية، وبناء دول حرة، تحترم حقوق مواطنيها، وتكون ضمانة الدفاع عن القضايا العادلة، فكيف وقضية فلسطين تحتل في وجدانها المكانة الكبيرة حد القداسة.
في ضوء ذلك بوسعنا القول: إن الضرر الناجم عن استثناء فلسطين من مسارات التغيير العربية، ومنعكساته الخطيرة على ضياع هوية فلسطين التحررية، يطرح مسؤوليات كبرى على أحرار فلسطين قبل غيرهم، وفي صلبها، مواجهة خطاب فصل فلسطين عن شرطها الوطني والعربي، وتفكيك النظريات والمقولات الغاشمة، التي تريد اختزال الترابط الجدلي بين كفاح الفلسطينيين من أجل التحرر الوطني، وكفاح الشعوب العربية من أجل الحرية والكرامة. لا مناص من تعرية العلاقة المشبوهة بين القيادات الفصائلية والسلطوية الفلسطينية من جهة، وأنظمة النهب والقمع والطغيان العربية من جهةٍ أخرى، والعمل على دحض خطابهما المكشوف، الذي يتستر تارةً بالدفاع عن محور المقاومة، وتارةً أخرى بتشويه الثورات العربية على أنها مؤامرة كونية، تستهدف ضياع فلسطين والأمة.
في ضوء ذلك، ثمة واجب فكري وأخلاقي، يحتم على كل فلسطيني ينتمي إلى معسكر الحرية والديمقراطية والعدالة، أن يقوم بدوره في دعم حراك الشعوب العربية بكافة الوسائل والأشكال المتاحة. بالتوازي مع تجميع وتنظيم جهود الأحرار الفلسطينيين، لإحداث تغيير جدي في الواقع الفلسطيني، بما يستجيب لمهام استعادة أطروحة التحرر، وتصحيح بوصلة الكفاح الوطني، بفكر تجديدي وديمقراطي خلّاق. في المقابل تقع مسؤولية كبيرة على عاتق قوى ونشطاء الثورات العربية، في التمييز بين معسكر الفلسطينيين المحازبين للاستبداد وأنظمة العار، والفلسطينيين المنخرطين في مسارات التغيير العربية، وقد دفعوا في سوريا ضريبة باهظة، لا يجوز إنكارها أو التقليل منها، لأن تعميم الموقف من الكل الفلسطيني، وإدراجه في معسكر الأنظمة كما يحلو لبعض الأصوات الشائهة، لهو تزييف للوعي، وافتئات على الحقيقة، لا يخدم سوى تضييع تضحيات خيرة الشباب الفلسطيني، خلال محطات الثورة السورية. وخطورته أنه يتلاقى مع طبقة فلسطينية متواطئة مع معسكر التسلط والإجرام في البلاد العربية، ومع مشايعي كذبة (محور المقاومة والممانعة)، وهم يتهافتون جميعاً لقطع شرايين أهل القضية، عن ثورات وانتفاضات شركاء المصير.
إن الانقسام في الوضعية الفلسطينية، ليس استثناءً عربياً كما يحلو لأصحاب منطق التعميم والإسقاط تصويره، فلولا وجود انقسامات وتناقضات جذرية بين قوى الفساد والاستبداد والفئات المستفيدة منها، وقوى الشعب الداعية للحرية والتغيير، لما اندلعت الانتفاضات والثورات العربية أساساً.
يكمن الرد البليغ على محاولات عزل فلسطين عن المناخ العربي الناهض، في تعميق جدليات التشابك والترابط بين المهجوسين بالحرية، والعمل على إحياء فلسطين من خارج سياقات المزايدة والمتاجرة، والبحث في ممكنات بزوغ ربيع فلسطيني، على خطى الربيع العربي.
المصدر: موقع مصير