١ – إن نظرة مستعجلة انفعالية للواقع العربي الراهن، تبدي ما يعتريه من ضعف وهوان وإسفاف وما يشهده من خلافات وصراعات متنوعة على مستويات متعددة. رسمية أحيانا وشعبية إقليمية حينا.
ما يدفع إلى الاستنتاج المتعجل بصعوبة الوحدة العربية أو أية وحدة بين العرب إن لم يكن باستحالتها.
ولقد بلغ مأزق الوحدة والدعوة الوحدوية أنها صارت تصنف في عداد الأحلام المستعصية أو العصية على التحقيق. حتى أنه تمت إشاعة كلمة واحدة في مواجهة أي حديث وحدوي أو يدعو إلى الوحدة أو حتى يحلم بها: مستحيل …فصارت كلمة مستحيل وكأنها صفة ملازمة تتبادر الى الأذهان حين ورود كلمة الوحدة. فكان هذا إيذانا بمدى توغل العقل الإقليمي في وجدان كثير من المواطنين العرب الذين صاروا يرددون كالببغاوات استحالة الوحدة فقط لان المشهد العربي العام لا يبشر بالأمل المتفائل المترقب للوحدة؛ ناهيك عن ضراوة هجوم أعداء الوحدة عليها وحشو عقول الناس بعبارات كالشعارات القطعية التي تصب جميعا في استحالة تحقيق أية وحدة بين العرب. ولعل الجملة الشهيرة التي جعلوها على كل لسان: ” اتفق العرب على ألا يتفقوا ” تبين مدى التأثير الفكري المعادي للوحدة في الإنسان العربي المعاصر إلى درجة جعلته لا يصدق إمكانية الوحدة حتى لو كان وحدويا راغبا متمنيا لها لكنه مقتنع باستحالتها.
بلغ ولوغ الفكر المعادي في الذهن العربي في الخمسين سنة الأخيرة درجة استطاع فيها محاصرة الفكر الوحدوي مما حجم الدعوة الوحدوية وحاصر أنصارها فصاروا متهمين بالطوباوية في أحسن الأحوال أو الحالمين عبثيا.. أكثر من هذا فقد تم ربط الفكر الوحدوي بالعقم الإيديولوجي واعتباره من مخلفات مرحلة منقضية تجاوزتها البشرية وأسقطتها الحداثة أو ما فوق الحداثة من متغيرات ومستجدات. علاوة على إنكار فكرة الوجود القومي ذاته واستنكار تعبيراته ومتطلباته حتى بلغ الأمر حد اعتبار القومية العربية والانتماء القومي من مخلفات الماضي الشوفيني الذي انهار تحت ضربات الليبرالية والديمقراطية.
فضلا عن الترويج لشكل وحدوي إندماجي يطمس أية خصوصيات محلية او وطنية ويصادر مواردها، ثم ربط الفكر الوحدوي بالعنصرية من جهة او الشوفينية ومعاداة الديمقراطية.. وجميع هذا بهدف إسقاط الوحدة من الوجدان العربي.
اللافت أن مثل هذه الأفكار السلبية قد انتشرت في أوساط نخب عربية وطنية إنما وقعت تحت ضغط الغزو الليبرالي الغربي وحربه على الهويات الوطنية والقومية، فراحت تتنكر لانتمائها وتنزع عنها هويتها القومية خوفا من اتهامها بالشوفينية أو العيش في الماضي؛ أو انسياقا مع توجهات الغزو الفكري إياه وما يملكه من مقدرات هائلة تجعل الوقوف بوجهه أمرا خاسرا لا فائدة منه ولا قدرة عليه.
2- وإذا ما تمعنا في المشهد العربي المأساوي بموضوعية وعمق نظر بعيدا عن الانفعالية السطحية وردات الفعل القاصرة؛ لوجدنا أن أكثر ما يدل على ضرورة الوحدة والحاجة الماسة إليها؛ هو تلك المأساوية الراهنة في الواقع العربي. وبعيدا عن أية عواطف قومية أو أفكار وحدوية تاريخية؛ فإن الواقع الراهن يطرح نهج الوحدة كطريق لا بديل عنه للتخلص من عبء الواقع وتداعيات ما فيه من ضعف وهوان وتراجع ينذر بعواقب كارثية على الوجود العربي برمته فلا يبقي أحدا في مكانه أكان قوميا وحدويا أم إقليميا أم لا مباليا. فضلا عن كونه الطريق الوحيد لصياغة المستقبل على أسس التحرر والتقدم والعدل.
أكثر من هذا فإن فساد وانهيار الواقع العربي الراهن هو الدليل القاطع على مدى صوابية الوحدة كحل شامل وعلى مدى قابليتها للنجاح بل على مدى قربها من التحقيق حيث هي قد أصبحت الحل الوحيد الناجح أو القابل للنجاح في مواجهة واقع سيء ليس فيه أية سلطة للوحدة أكانت سياسية أم ثقافية أم اقتصادية أو حتى معنوية. إن تدهور الواقع دليل على فشل كل أنماط التنظيم والإدارة والحكم. فما هو فاعل منها إنما يعادي الوحدة ويشارك بقوة واندفاع في تشويه صورتها وتشويش وعي الناس بها بل ومحاربتها على كل المستويات النظرية والعملية.. ومن البداهة القول إن الإقليمية الحاكمة والنزعات الرافضة للوحدة هي صاحبة السلطة والنفوذ في كل ميدان؛ وطالما هي الحاكمة النافذة المتنفذة التي تملك كل إمكانيات البلاد وتتحكم بها وتشغلها وتملك سلطة القانون والتشريع والعقاب والحساب؛ فهي التي أوصلت البلاد إلى هذا المستوى السافل من التدهور والضعف وهي المسؤولة عنه. فهل يبقى غير نقيضها خيارا للخروج من المستنقع الفاسد ومن ذل التبعية إلى فضاء التحرر والقوة والتقدم؟؟
وفي هذا ما يجعل الوحدة قابعة على مفترق الطريق تنتظر من يزيح الأوهام ونفايات الفكر والمصالح المناقضة لها من الدرب لتصبح في المتناول الشعبي بعد أن تستقر مجددا في الوجدان الشعبي.
لم يدرك أعداء الوحدة أنها إن تكن حلما فهذا يعني أنها مطلب مبتغى وامنية مشتهاة حتى وإن كان الوصول إليها دونه عقبات…أن تكون الوحدة حلما يعني أنها وحدها تحمل نقيض الواقع المأساوي الراهن؛ والقادرة على تغييره…وإلا لكانت الفرقة حلما والضعف حلما والهوان حلما وهو ما لم يكن يوما ولن يكون..
فكانت المعادلة البديهية: لو كانت السلطة وحدوية لما تردت حالنا هكذا. ولو اعتمدوا وحدة القوة العربية لتحرروا وتقدموا وتفوقوا..
طالما أن الواقع الراهن كابوس؛ فلا أقل من الوحدة حلما لتغييره..
3- الإقليمية والوحدة:
غداة سقوط الدولة العثمانية؛ كانت القوى الاستعمارية جاهزة لوراثتها والسيطرة على البلدان العربية وتقاسمها فيما بينها. كان مؤتمرها الشهير: كامبل – بانرمان قد أعد الخطط والقواعد والأسس اللازمة لتقسيم الأمة العربية وتشكيل أنظمة مستقلة تحكم أجزاءها المصطنعة.
كانت الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، كافية لتعد القوى الاستعمارية أدوات لها محلية من أبناء البلاد تتولى إدارة شؤون الحكم والبلاد نيابة عنها وبما يكفل استمرار هيمنتها وتسلطها.
فكانت أنظمة سايكس -بيكو التي تسلمت سلطات الحكم المحلية تحت أعلام استقلالات شكلية أوهمت أبناء البلاد أنهم قد أصبحوا أحرارا متحررين من الاحتلال الأجنبي دون أن يتنبهوا إلى أن هذا الاحتلال لم يغادر إلا بعد أن سلم السلطة لجماعات محلية مرتبطة به تنفذ خططه وتضمن له مصالحه. وتنوب عنه في تسيير امور البلاد والعباد. بمعنى أن الاحتلال غادر شكليا موكلا صنائعه في حكم وطني شكلي.
وكان في أول مهام تلك السلطات المحلية منع وحدة أو اتحاد العرب بأي طريقة وبكل وسيلة.
كان مطلوبا منها تحويل مراسيم التقسيم والحدود المصطنعة على الخرائط الورقية؛ إلى وقائع حياتية. فراحت تسن القوانين وتصدر التشريعات وترسم انظمة التعليم والوعي والتربية والمعرفة بما يحقق الانقسام الإقليمي ويثير الحساسيات والتناقضات المصلحية بين أبناء الأقطار وصولا إلى ترسيخ هوية وطنية محلية كنقيض عن الهوية العروبية الموحدة.
ولأنها تملك كل أنواع السلطات والإمكانيات: فقد نجحت خلال المئة عام المنقضية من عمر سايكس – بيكو في زرع كثير من بذور الشقاق وفي تفسيخ كثير من الأفكار والمعتقدات الوحدوية. كما نجحت في زرع أوهام إقليمية محولة إياها الى وقائع حياتية يومية. مرغمة الناس على التعامل بها ومعها.
وهكذا وجدت أنظمة سايكس -بيكو نفسها في موقع واحد مع قوى النفوذ الأجنبي والاستعمار العالمي في مواجهة ليس الوحدة بذاتها فقط بل كل ما يمت لها بصلة من أول الوعي بالتاريخ إلى الفكر التوحيدي إلى الدعوة الوحدوية بل إلى الوجدان الشعبي الوحدوي.
وبدورها راحت أنظمة الإقليمية التابعة للخارج الأجنبي تعمل على تشكيل أدوات محلية من أبناء البلاد العربية ذاتها تحمل قسمات الفكر الإقليمي وروحه الانعزالية وتمتلك من المصالح ما يربطها به وجوديا بحيث صارت مرتهنة بوجودها ومصالحها ببقاء واستمرار هيمنة الانعزالية الإقليمية ضد أي تقارب وحدوي أو تنسيق توحيدي أو مشاركة اتحادية. تشكلت هكذا إذن مجموعات من أبناء بلاد العرب ممن صار عداؤهم للتقارب الوحدوي سببا في استمرار وجودهم وضمان مصالحهم.
وهكذا تتكامل أدوار قوى النفوذ الأجنبي مع سلطات الإقليمية الانعزالية ومع القوى والجماعات الإقليمية الناشئة أو المستحدثة لغايات وأغراض مناهضة للوحدة.
هكذا أيضا تراجعت فكرة الإجماع الشعبي على الوحدة كما قال معلم الوحدة جمال عبد الناصر؛ بحيث أصبحت أقلية شعبية أيضا تعادي الوحدة لارتباطها مصلحيا ووجوديا بأنظمة الإقليمية الانعزالية أو بقوى النفوذ الأجنبي.
فصار لزاما على الوحدويين أن يسيروا في اتجاهات متشعبة الرؤوس بحثا عن مثالب الدعوات اللا وحدوية المرتهنة للخارج. كما لعرض وتدعيم حيثيات الوحدة ومبرراتها وأهمية تحقيقها عمليا.
٤ – الوحدة والتاريخ.
منذ أن تحررت المنطقة العربية من الاحتلال الأجنبي وتوحدت بفضل المسلمين العرب؛ وحتى اليوم كانت الوحدة هي عنوان التقدم وطريق الانتصار.. فما من مرة تغلبت الأمة على عدوان خارجي أو خطر داخلي إلا بالوحدة. وما من مرة انهزمت أمام عدوان أو خطر إلا حينما كانت مشتتة القوة مقسمة إلى دويلات أو أمارات.
ولا يخرج الواقع الراهن عن هذه المعادلة – القانون.. ولعل القوى الاستعمارية التي تشكل النظام العالمي الراهن تدرك تماما هذه المعادلة فتستبق أية محاولة وحدوية مهما كان مستواها ؛ ساعية إلى تخريبها ومنع مفاعيلها من الارتقاء والتطور. أو تشكيل قاعدة -نموذج تشد الانتباه وتبين إمكانيات الوحدة الكامنة وقدرتها على الإنجاز فيما لو تجسدت في الواقع.
إن عداء النظام العالمي لوحدة العرب ينبع من رعب حيالها ومنها؛ لأنه يعلم تماما أن الأمة التي يحاربها بكل وسيلة، لن تشكل تهديدا لمصالحه طالما بقيت مقسمة مجزأة.. ولن تستعيد ذلك النموذج الحضاري الإنساني الرائع المتحضر الذي شكلته وساد العالم طيلة ثمانية قرون مضت؛ إلا إذا توحدت فتحررت فتقدمت. والنظام إياه بعلم ان ذلك النموذج الحضاري سيشكل بديلا عنه قادر على إزاحته إذا ما جسدته أمة عربية موحدة ناهضة. فهو يدرك تماما أبعاد أزمته الوجودية ووصوله إلى مشارف النهاية؛ وما الإستشراس والإفراط في إظهار القوة واستعمالها إلا دليلا على مدى إحساس ذلك النظام العالمي باقتراب نهايته وهو الذي بدأ تدهوره وانحداره منذ سنين.
إن أحد أسباب استماتة قوى النظام العالمي ومن يتبعها من القوى المحلية في محاربة جمال عبد الناصر، يكمن في أنه حقق بسهولة ويسر وحدة الشعب العربي بل أظهر تلك الوحدة العفوية الموضوعية لمجرد أن سار على طريق التحرر والاستقلال والتعبير الأمين عن جوهر الوحدة ومضمونها الإنساني المتقدم القوي المتين.
٥ – إن أي حديث عن وحدة العرب ومصيرهم الواحد، يستدعي مباشرة حديثا عن تجربة الوحدة المصرية – السورية عام ١٩٥٨ حينما كانت الوحدة مطلبا ملحا آنيا لمواجهة خطر ابتلاع سورية بالاحتلال أو بالوصاية الدولية – الإقليمية.
في قبوله لطلب الضباط السوريين الوطنيين للوحدة الفورية مع مصر، صرح جمال عبد الناصر أن أمن سورية من أمن العرب كلهم وامن مصر معهم. إن عرض تحصيل الوحدة ومن ثم قبولها وإقامتها وسط أجواء ملبدة مليئة بالضغوط والتهديد الأجنبي يعبر بدقة عن إحساس عفوي وشعور عميق بأن الوحدة هي الخلاص والنجاة والإنقاذ.
وإذا كانت قوى الانعزالية الإقليمية، المحلية والعربية، متعاونة مع قوى النفوذ الأجنبي كلها، قد أفشلت الوحدة واسقطت نظامها بعد ثلاث سنوات ونصف؛ فإنها لم تخف يوما عداءها للوحدة نظاما وللقومية هوية.. وجميعها تعمل متحالفة في هذا المنحى العدواني..
إن انفصال الوحدة على المرارة الشديدة التي سببها؛ إلا أن نتائجه المباشرة على صعيد سورية والوضع العربي العام وقضية فلسطين بالذات؛ ثبتت معادلة الوحدة والانتصار والفرقة والهزيمة… وبينت كم أن الوحدة وحدها هي التي تشكل جدار الحماية وطريق الإنقاذ …فما لبثت قوى العدوان أن استجمعت قواها وشنت عدوانا على كل العرب بعيد الانفصال. فكانت نكسة ١٩٦٧ درسا إضافيا للعرب عن الوحدة. درس تعيه قوى العدوان فيما لا تزال قوى الإقليمية مصرة على إنكاره فتدفع هي أولا ثمن ذلك الإنكار من مالها ومواردها ومن سياستها وحريتها وسيادتها على أرضها كما من مواردها الاقتصادية.
هذه القوى ادانت الوحدة لذاتها منذ ما قبل قيامها فهي معادية اساسا للوجود القومي وللأمة ذاتها. لا تعترف أصلا بوجودها.
ولو ان الذين وقفوا ضد وحدة مصر وسورية عام 1958 كانوا ضد ” التجاوزات والاخطاء ” التي حصلت اثناء التجربة؛ كما يدعون ويغطون مواقفهم بزعم التصدي لها، لكان بديهيا ان يكونوا وحدويين مؤيدين لفكرة الوحدة ومبدأ الوحدة والأمل بالوحدة، مدافعين عنها متجاوزين لتلك الأخطاء ومفسرين لها بما يخدم الفكرة – المبدأ وإغناء مضمونها وإنضاجه لتكون أية تجربة اخرى مقبلة أكثر امانا واستقرارا ومقدرة على الصمود والاستمرار. أو هكذا كان ينبغي أن يكونوا..
اما وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك لا بل يصرون على موقفهم المبدئي الرافض للوحدة كمبدأ انطلاقا من رفضهم لمبدأ الانتماء القومي الجامع والهوية القومية الموحدة، حتى بعد انفصال الوحدة؛ فقد أثبتوا عداءهم للوحدة ذاتها وليس لتجاوزات سلطة أو مسؤول.
ينطبق هذا على الحركات اليسارية كما على الحركات الدينية التي ترفع شعارات الاسلام فيسمونها خطأ الحركات الاسلامية او حركات الاسلام السياسي.
وما لم يتراجعوا عن موقفهم العقائدي الرافض للهوية القومية والمعادي بالتالي لفكرة الوحدة العربية؛ فإن كل مطالباتهم بالديمقراطية او خروجهم على انظمة الفساد والاستبداد؛ لن يجعل منهم قيادة طليعية شعبية حرة أمينة ومؤتمنة؛ تستطيع الجماهير العربية ان تثق بها وتلتف حولها وتناضل تحت لوائها لتغيير الواقع العربي او رد العدوان على الشعب والارض والوطن…أكان عدوانا خارجيا كالذي يمثله النظام الامبريالي الامريكي الصهيوني المعولم.. او داخليا كالذي يمثله تسلط انظمة سايكس بيكو وامتداداتها وتفرعاتها.
وعلى الرغم مما تبذله هذه الحركات اليسارية والدينية وما تقدمه من جهود وإمكانيات؛ إلا انها ستبقى قاصرة عن اداء دور القيادة الوطنية ولسوف تكون معتبرة في الإطار الوطني ومفيدة للنضال الوطني إذا ما مارست دورها تحت قيادة العروبيين الوحدويين التوحيديين. عندها فقط سوف تتكامل جهودهم في إطار عمل وطني متجانس؛ وتتسق في سياق حركة النضال العربية في سبيل المستقبل الافضل.. ليس هذا لدوافع حزبية أو فئوية بل لأن الإطار الجامع المتسق مع الانتماء الوطني لا يمكن إلا أن يكون عروبيا توحيديا فهو المعبر البديهي عن شخصية الأمة والمجتمع والناس.
وقد دلت التجارب انهم قد يتحولون الى مطايا للنفوذ الاجنبي او لسلاطين الاستبداد والفساد، يستغلونهم للانقضاض على اي تحرك شعبي تحرري وكل انتفاضة شعبية مؤملة.. او لشرذمة الفعالية الشعبية والمزايدة عليها…على اقل تقدير؛ ما لم يتقبلوا الانضواء في إطار مشروع نضالي عروبي جامع تحت قيادة عروبية وحدوية توحيدية حرة.
وما تجربة الأحزاب الدينية مع أنظمة الاستبداد العربية إلا إثبات لهذا.. كذلك تجربة الإخوان المسلمين وغيرهم من التنظيمات ” الإسلامية ” الحزبية في العراق منذ احتلالها عام ٢٠٠٣ ثم في انتفاضة الشعب السوري الثورية. فهم عجزوا عن قيادة حركة وطنية تحررية حتى أنهم عجزوا عن تحقيق ما يريدونه هم لأنفسهم رغم الكثير الذي بذلوه سعيا وراءه.
٦ – كان لغياب القيادة التاريخية لحركة القومية العربية المعاصرة إثر وفاة جمال عبد الناصر سنة ١٩٧٠؛ أثر كبير في إضعاف الحركة القومية والدعوة القومية بل والفكرة القومية ذاتها…فاندفعت موجات التشهير والتشويه والتشويش على كل ما هو قومي عربي بهدف تحطيم مبدأ الوحدة ذاتها.. فهي الرعب الذي يثير الهلع في عقول المعادين والأدعياء معا. وصل الأمر حد التبرؤ من الفكرة القومية بحجج عديدة ثم التنكر للعروبة وتحميلها مسؤولية التدهور فيما هي غير مسؤولة عن شيء مما جرى ويجري على الأرض العربية منذ خمسين سنة وإلى اليوم. ثم طمس فكرة الوحدة من أي مصدر للتوجيه والتربية والتثقيف والتوعية ومن الإعلام أيضا… وقد بلغ العهر الإقليمي الفرعوني لدرجة أن أنور السادات تعهد لهنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية؛ بالقضاء على أسطورة جمال عبد الناصر …والمعني طبعا تجربة عبد الناصر بأبعادها القومية الوحدوية والوطنية الاستقلالية التحررية البناءة.. حتى الأغاني الوطنية والقومية حجبت تماما…وحينما واجهت التنظيمات ” الناصرية ” مأزق الحاجة إلى التمويل لتغطية حركتها السياسية وإثبات وجودها في مواجهة هجمات الردة المستشرسة ضد كل ما هو قومي وطني حر؛ وجدت ذاتها أسيرة مصادر التمويل التي كانت ذات أفق ” قومي ” ضبابي، الأمر الذي جعلها تفقد الكثير من استقلاليتها وترتهن في كثير من المواقف لمصادر التمويل. وحينما اختفت تلك المصادر لجأت إلى مشاريع إقليمية أو شعوبية تتزود منها بالدعم وطاقة الاستمرار بعد أن تحولت إلى مجرد أحزاب وقوى سياسية قليلة الفاعلية محدودة الأثر. فأضاف هذا سلبيات أكثر على المسألة القومية بمزيد من التشويش. ثم زاد التشويش بوقوف كثير من أولئك إلى جانب أنظمة استبدادية عربية تتبنى الدفاع عنها بشراسة دونما أي تمحيص أو حتى موقف إنساني تقتضيه دوافع أخلاقية قبل أن تكون سياسية…مثال على ذلك الموقف من تدمير المدن والحواضر ثم تهجير السكان وقصف المدنيين الأبرياء دون أن يرتفع صوت منهم يدين مثل هذه الممارسات …ليس فقط لم تستنكرها وإنما كانت ولا تزال تبررها بحجج واهية تنسبها زورا إلى الموقف القومي المقاوم…تماما كما تنسب داعش والنصرة إجرامها لدين الإسلام الذي لا تعرفه ولم تتعرف إليه أصلا.
وهكذا وجدت القومية العربية ذاتها يتيمة مجردة من أية قوة تتبناها أو تنشر وعيا بها لازما لاستعادة حيويتها.. وصارت الوحدة مثار سخرية في أوساط كثيرين ممن يقدمون واجبات الطاعة والولاء إلى قوى الانعزالية الإقليمية.
والأمر كذلك؛ يجد الشباب العربي الحالي ذاته أمام مشهد غريب مليء بالتناقض والإسفاف والمخادعة:
١ – واقع عربي مسرف في الضعف والتشرذم والتبعية.
٢ – النظام الرسمي مبعثر متفكك مرتهن مسلوب المقدرة على الحركة.
٣ – أحزاب تمثل ” القومية ” وترفع شعاراتها وكثيرها يمجد جمال عبدا لناصر ويعلي شأن قضية فلسطين فيما تؤيد أنظمة رجعية هنا واستبدادية مجرمة هناك فتعطي أسوء مثال عن الفكرة القومية والدعوة الوحدوية.
٤ – قوى انعزالية إقليمية عربية – رسمية وشعبية تتمحور حول مصالحها – تعادي الوحدة وتحاربها بشراسة.
٥ – غياب مراكز صناعة الوعي الحر فيما تزييف الوعي بالتاريخ والدين وحتى بالجغرافيا، على أعلى مستوى ووتيرة.
٦ – ارتكاس المعايير وانتكاسها وارتدادها مقلوبة على رأسها.. فبعد أن كانت بين وحدويين وانفصاليين؛ اصبحت ليبراليين علمانيين وإسلاميين محافظين.. وهذا بحد ذاته استبعاد للفكرة الوحدوية من دائرة البحث والاهتمام بل من دائرة الوجود. فيما لم يقدم أحد – ممن قاتلوا الوحدة – من أصحاب الطروحات الدينية واليسارية بأي اعتذار للأمة على عدم اعترافهم بها ولا حتى تراجعوا عن أطروحاتهم ” الرجعية ” تلك…إلا قلة منهم فعلت فنبذوها.
٧ – القوميون الوحدويون الشرفاء منقسمون مشتتون لا يملكون فعالية مؤثرة في مجريات الحياة والأحداث؛ مغلوبون مهمشون محاصرون.
ويحدثونه عن الوحدة وأهميتها وضرورتها وهم منقسمون …فلا يزداد الشباب إلا حيرة وتشتتا وهو يخضع يوميا لكل مؤثرات العولمة الرأسمالية وإغراءاتها الغرائزية الغنية المبهرة
من جهة.. ومن الجهة الأخرى يقع تحت تأثير تعذيب انظمة القهر وعذاب الحياة ومتطلبات المعيشة التي يراد منها إرهاقه وإنهاك قواه بغية الاستسلام…فتكون تلك هي النهاية المرادة.
-7 ما العمل ؟؟
أمام هكذا واقع يذهل العقول في بشاعته ونذالته؛ وأمام استنكاف القوة الرسمية عن ممارسة دور إيجابي؛ ووسط انكفاء وتراجع الأحزاب والنقابات والتنظيمات الحركية؛ لم يبق من مصدر محتمل للقوة إلا الحركة الشعبية…عودة إلى حقيقة أن الشعب هو القائد والمعلم. الشعب هو صاحب المصلحة في الوحدة فلا بد أن يكون هو صانعها وحاميها.
وما على الوحدويين الأحرار إلا الالتحام بالقوة الشعبية: تفجير طاقاتها ومواردها وبلورتها ومنهجة عملها في إطار منظم محدد الأهداف واضح البرامج المرحلية والإستراتيجية.. وإنهم لو يدركون مدى فعالية القوة الشعبية إذا ما تفجرت وتقننت ووجدت من يعبر عنها بصدق وإخلاص فيقودها إلى أهدافها بجسارة وشجاعة وأمانة واستقامة؛ لفعلوا المستحيل لتوحيد صفوفهم وبرمجة حركتهم وقيادة شعبهم بعد التعبير عن تطلعاته وآماله.
فهل يفعلون؟؟ أم سيبقون مشتتين أضعف من جسارة الموقف الوحدوي ومتطلباته.
لو يدركون أن معركة الامة من أجل الوحدة هي ذاتها معركتهم لتحقيق الحرية والديمقراطية والنهضة والتحديث والمشاركة الحقيقية والعدالة وحرية التعبير وسلامة الدين و الأسرة والأخلاق وحقوق الوطن والمواطن.
معركة الوحدة هي ذاتها معركة المشردين والمهجرين وسكان الخيم والمخيمات.
معركة الوحدة هي معركة المعتقلين والمختطفين الذين يقتلون بالتعذيب في السجون.
معركة الوحدة هي ذاتها معركة تحرير فلسطين وكل أرض عربية محتلة.
بل هي الوعاء الجامع لكل هذه المعارك معا… لأنها ببساطة هي معركة الوجود العربي ذاته.
فمن ليس وحدويا موحدا لن يكون نهضويا محررا، ولن يقدر على دفع تبعات التقدم إلا من كان وحدويا يأبى الحياة بغير العزة والكرامة الإنسانية العربية.
فماذا نحن فاعلون؟؟؟