
ينذرنا “مرصد بغداد الأخضر”، المعني بالتغييرات المناخية، بأن شهر يوليو/ تموز الحالي سوف يشكل بداية صيف لاهب على العراق، قد يكون الأخطر في تاريخه الحديث، ما يستدعي تحرّكاً عاجلاً للحد مما قد تتركه التغييرات المناخية من آثار على أحوال العراقيين، وعلى حياة أجيالهم القادمة.
وواضحٌ أن العراقيين الذين تحمّلوا أكلافاً باهظة في محنتهم المديدة لم يعودوا في وارد الاهتمام بإنذار كهذا، فلديهم ما يكفيهم من مشكلات اقتصادية ووجودية، تتناسل على مدار الساعة، وهم بتجربتهم، عبر السنين، يتطيّرون مما قد يحصل لهم كلما حل شهر تموز، بعدما شهدوا فيه على مدار سنوات سابقة انقلاباتٍ وتحوّلاتٍ حادّة عصفت ببلادهم، منذ قدّر لها أن تسقط في قبضة العسكر والأحزاب الشمولية، وصولاً إلى طور حكومات الفساد التي شرعنها الاحتلال الأميركي، وباركتها إيران. والمثير هذا العام أن يقترن مجيء تموز بسخونةٍ عاليةٍ غشيت الأجواء السياسية على خلفية حرب إسرائيل وإيران، وما نشأ عنها من تداعيات، وكذلك موضوعة الانتخابات البرلمانية المقبلة التي ربما لن تجري في موعدها المحدّد في نوفمبر/ تشرين الثاني لسبب أو لآخر، كل هذا تدعمه مفارقات لافتة تنذر بشر مستطير ليس أقلها هذه الموجة الطائفية الجديدة التي طغت على منابر عاشوراء، ومواقع التواصل، ومنصّات الخطاب العام، وهدفها إحلال القهر والتمييز محلّ الأمان والوحدة المجتمعية.
وبشيء من المراجعة والتأمل، ندرك أن ساسة الحكم أنفسهم الذين صنعوا الخراب المهول في العراق لن يلقوا بالاً لإنذار “المرصد الأخضر”، وهمّهم، في المقام الأول، احتمال خسارتهم مواقعهم الرسمية وثرواتهم المليارية التي جنوها من المال العام في حال حدوث أي تغيير في السلطة، سواء جاء هذا التغيير عبر الانتخابات المقبلة، أو جراء سياسات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي تؤكد مصادر واشنطن أنه أبلغهم بوجوب فكّ الارتباط مع إيران، وحل المليشيات، بما فيها الحشد الشعبي، وقيام حكومة وازنة تلتزم بالنظام الديمقراطي، وبعلاقة ثابتة مع الغرب، ومنذراً من عقوبات ستطاولهم إذا ما تردّدوا في تلبية تلك الشروط، وقد وقعت عليهم هذه الرسالة وقع الصاعقة، إلى درجة أنها دفعت بعض قادة “الإطار التنسيقي” الى مخاطبته، والتعهد له بتطبيق الإصلاحات المطلوبة، وبعضهم عزف عن الترشيح في الانتخابات، ليضع نفسه في زاوية تنقذه من أي عقوبات محتملة، وتعينه على النزول من السفينة التي توشك أن تغرق!
الحذر قائماً من احتمال أن تتحول خطوة التغيير إلى مجرّد إعادة إنتاج ما هو قائم
وواضحٌ أيضاً أنهم يحاولون، في ضوء ذلك، أن يداروا فشلهم في إدارة البلاد طوال السنين السالفة، ويسعون إلى تبرئة أنفسهم مما ارتكبوه، لكن الأمور لا تجري دائماً وفق ما يريدونه، إذ قد لا يوفر لهم الرئيس الأميركي حتى فرصة النجاة بجلودهم!
وما هو معلوم، في هذا السياق، أنهم كانوا، إلى ما قبل شهور، يمنّون أنفسهم بالوصول إلى العملية الانتخابية، والخروج منها بسلام، وراهنوا، ومن ورائهم إيران، على احتمال عودة الصدريين إلى “العملية السياسية”، ومشاركتهم في الانتخابات على نحو يعزّز وحدة القوى الشيعية في مواجهة التداعيات التي أفرزتها الحرب أخيراً، إلا أنهم فوجئوا بدعوة مقتدى الصدر جمهوره إلى مقاطعة الانتخابات، وما يعنيه ذلك من ازدياد عزلة الحكم وخذلانه، وزاد في الطين بلّة تأكيده أن إصلاح النظام الحالي لن يتم إلا بتسليم السلاح المنفلت إلى الدولة، وحل المليشيات، وعدم تبعية العراق (لإيران)، ومحاسبة الفاسدين، وجاءت خطوته هذه معطوفة على بيانٍ منسوبٍ لمرجعية علي السيستاني يتضمّن الخطوط العريضة نفسها التي تبنّاها الصدر، وقد ردّت المليشيات الولائية على هذه الطروحات بما يفيد بأنها ماضية في “الجهاد” ضمن “محور المقاومة” الذي أصبح في خبر كان، وأنها لن تسلم السلاح إلا بيد الإمام المهدي، ولن تتلقى الأوامر إلا من “الولي الفقيه”!
إلى ذلك، لا يمكن للمرء أن يخمّن الى أين ستنتهي هذه المفارقات، وما هي الأكلاف الجديدة التي سوف يتحمّلها العراقيون جرّاءها، لكن ما يعزّيهم أن المخاض الذي تعيشه الأجواء السياسية في هذا الصيف اللاهب قد يحمل البشارة في أن ثمّة تغييراً وارداً فعلاً، وقد تكتنف تحقيقه بعض الصعوبات، أو قد يستوجب جراحة قيصرية لاستيلاده، بأمل أن يكون مطابقاً لأحلامهم. ومع ذلك، يظل الحذر قائماً من احتمال أن تتحول خطوة التغيير إلى مجرّد إعادة إنتاج ما هو قائم، وفي هذه الحالة ما على العراقيين سوى اعتناق الصبر الجميل، وتحمّل مشقّة الانتظار من جديد.
المصدر: العربي الجديد