ابتلاع سورية البطيء

إبراهيم الجبين

بعد سلسلة من 13 مقالاً ضمن ملف “لحظات سوريا الفارقة…قبل الأسد”، هنا الحلقة الرابعة عشرة عن سوريا الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، والتي خرجت من مرحلة الانتداب الفرنسي لتتعثر بالانقلابات العسكرية في طريق بناء استقلالها المستجد.

أرسل السفير الأميركي في دمشق جيمس مووس برقية إلى وزارة الخارجية الأميركية في14 تشرين الأول/أكتوبر 1955 بيّن فيها أنه إذا لم تستطع الحكومة الأميركية إيقاف “سقوط سوريا” تحت الهيمنة الشيوعية فإنه ينبغي عليها أن تدعم اتحاداً بين سوريا والعراق، وإلا فإنه سيتعين على ألولايات المتحدة اتخاذ إجراءات أكثر شدة في حالة سقوطها تحت النفوذ الشيوعي. حينها نصح السفير مووس وزارة الخارجية بأن تقوم بدراسة اقتراح تقدم به نوري باشا السعيد، رئيس الوزراء العراقي حول التدخل في سوريا لقلب نظام الحكم.

في لندن بدا القلق البريطاني أكثر حدة، فقد حذر سلوين لويد وزير الخارجية البريطانية بأنه ما لم ُيتخذ عمل حاسم تجاه سوريا في المستقبل القريب، فإن هناك خطراً من تحوّل الأخيرة إلى المعسكر الشيوعي، ومن هذا المنطلق أصدر أنطوني أيدن أوامره إلى وزارة الخارجية البريطانية والاستخبارات السرية البريطانية MI6 من أجل العمل على تغيير نظام الحكم في دمشق.

أعطت الحكومة البريطانية الإذن بشن عملية سرية في سوريا لتغيير الأوضاع فيها لصالح الغرب أطلق عليها الاسم “ستراغل” Straggle بهدف إقامة حكومة في سوريا تكون أكثر صداقة مع الغرب. وكانت أهداف العملية “ستراغل” تتركز على الإطاحة بالنظام السوري الذي اعتبر وقتها ذا توجهات يسارية، وتنصيب حكومة موالية لبريطانيا والولايات المتحدة، ومن ثم قطع التعاون السوري مع الاتحاد السوفييتي.

دُعمت “ستراغل” بمبلغ 500 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل حوالى 167,000 دولار أميركي. وعلى الرغم من معارضة وزير الخارجية الأميركي فوستر دالاس للانقلاب علنًا، إلا أنه شاور وكالة المخابرات المركزية ورفع توصيته إلى الرئيس آيزنهاور بتنفيذ الخطة.

تم تأجيل التنفيذ خمسة أيام، وخلال تلك الفترة تفجرت أزمة السويس، واتخذ القرار بأن مشروع إطاحة الحكومة السورية لن ينجح خلال الحرب، وفي 31 تشرين الأول/أكتوبر 1955، أبلغ الوزير دالاس ابن شقيقه ألان دالاس، مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية بما يلي: “في ما يتعلق بـ(ستراغل)، يشعر أصحابنا أن الظروف الحالية تظهر أنه من الخطأ محاولة تنفيذها الآن”.

أميركا ترصد انقسام الرأي العام السوري
في 18 آذار/مارس 1955 ورد في برقية أرسلتها وزارة الخارجية الأميركية من واشنطن إلى السفارة في دمشق ما يلي: تعتقد الوزارة أن سياستها بشأن التطورات الدفاعية في الشرق الأوسط يجب أن تستمر في التعبير عنها من خلال: استمرار الدعم الثابت للحلف التركي العراقي، وعدم الرغبة الواضحة في دعم التحالف المتوقع بين مصر وسوريا والسعودية كما هو مُتصوّر ومُوجّه حاليًا. بالإضافة إلى تثبيط أي إجراءات من جانب الدول العربية تُضرّ بترتيبات الدفاع المقبولة في نهاية المطاف. مع تجنب الصدام المفتوح مع مصر الذي قد يُضرّ بالتعاون المصري طويل الأمد في مجال الدفاع والتعاون قصير الأمد في مسائل أخرى، بما في ذلك المؤتمر الأفروآسيوي.

كما جاء في تلك البرقية أيضاً “نظراً للانقسام الحاد في الرأي العام السوري حول جدوى اتباع النهج المصري المعادي للعراق، نعتقد أن توضيحات السفارة في دمشق لآرائنا للحكومة السورية وغيرها كانت مفيدة وفعالة. ونظراً لطبيعة السلطة المركزية وطبيعة المواقف، ترغب الحكومة المصرية ووزارة الدفاع البريطانية في منح السفير بيرود كامل الحرية في التعامل مع هذه القضية مع ناصر والسفير وادزورث مع وزارة الدفاع البريطانية”. وفي برقية أخرى أشار السفير مووس إلى أن تبني اقتراح السفارة في القاهرة من شأنه أن يقوض جهود السفارة الرامية إلى تشجيع موقف موالٍ للغرب في سوريا.

وأتى توقيع الميثاق العسكري المصري السوري ظهر يوم الخميس 20 تشرين الأول/أكتوبر ليزيد من مخاوف إسرائيل من جانب، ومن قلق الذين يرون سوريا وهي تلتحم بالتدريج مع مصر ومواقفها من جانب آخر. ولتختبر جدية ذلك الاتفاق شنّت إسرائيل غارة على سوريا في كانون الأول/ديسمبر عام 1955 تسببت بمقتل 49 سورياً بين مدني وعسكري وأسر 30، وأطلق على الغارة حينها اسم “أوراق الزيتون”.

أصدر مجلس الأمن  القرار 111، دان فيه خرق الإسرائيليين لاتفاقية الهدنة، غير أنه اتهم السوريين، في الوقت ذاته، بالتدخل في الشؤون الإسرائيلية وأنشطتها في بحيرة طبريا، مع أن الأحزاب السورية كانت حينها بعيدة كل البعد عن التفكير في الجبهة، فقد كانت تتسابق في ما بينها على حكم سوريا، ويطرح كل منها نفسه كبديل للوضع القائم، ولم يكن الحزب السوري القومي الاجتماعي أقل طموحاً من غيره، فقد دفعت صفقة الأسلحة السورية السوفيتية الأميركيين للبحث وبجدية هذه المرة، عمن يمكن أن يعتمد عليه لإنشاء نظام الحكم السوري المناسب للغرب، وفي برقية من وزارة الخارجية الأميركية إلى السفارة في دمشق بتاريخ الرابع من كانون الثاني/يناير 1956، تم الكشف عن مناقشات جدية جرت في واشنطن بشأن الوضع في سوريا وحضر تلك المناقشات أعضاء من وزارة الخارجية الأميركية ووزارة الدفاع وأعضاء من السي آي إيه، ناقشوا خلالها موضوع تقرب عدد من أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي من السفارة في دمشق بصدد استطلاع رأي الحكومة الأميركية بشأن محاولة انقلابية يخطط الحزب للقيام بها.

كان قد تم جذب سوريا والسعودية نحو مشروع دول عدم الانحياز بقوة، وتجسّد ذلك في القمة التي جمعت القوتلي مع عبد الناصر والملك سعود في القاهرة، وتوقيع الثلاثة على بيان يعكس تمسكهم بمبادئ مؤتمر الدول الإفريقية الآسيوية، وأعلن صبري العسلي في 5 حزيران/يونيو عام 1956 تشكيل لجنة وزارية لدراسة قيام اتحاد فيدرالي يجمع كلاً من مصر وسوريا، وهي الفكرة التي أطلقها صلاح سالم، عضو مجلس قيادة ثورة 23 يوليو ووزير الإرشاد القومي المصري، قبل سنة من ذلك التاريخ خلال زيارته إلى دمشق.

بعث السفير مووس ناصحاً وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن بضرورة دراسة مقترح الحزب القومي السوري الاجتماعي. وبعد ثلاثة أيام بعث مووس برقية أخرى إلى رؤسائه في ضمنّها طلباً من شخص وصفه بأنه “موثوق”، بأن تقوم الحكومة الأميركية بمساعدة الحزب القومي السوري الاجتماعي على تنفيذ انقلاب في سوريا، ولم يطلب ذلك الشخص سوى اعتراف الحكومة الأميركية بالانقلاب.

كان السوفيات يتبعون سياسة بطيئة أيضاً لابتلاع سوريا، في سياق تخطيطهم الاستراتيجي لبناء “اتحاد عالمي للجمهوريات الاشتراكية السوفيتية”، ولذلك نشطت السفارتان السوفيتية والتشيكوسلوفاكية في دمشق وكانتا تعملان على دعم نظام سوري مناهض للغرب. تطور ذلك الجنوح ليصل ذروته في خريف العام 1956 حين وقعت سوريا رسمياً، أسوة بمصر، على صفقة الأسلحة مع الاتحاد السوفيتي عبر تشيكوسلوفاكيا، وتم التعاقد على شراء خمسة عشر ألف بندقية أوتوماتيكية ودبابات وطائرات ومدفعية وشاحنات ومعدات طبية، وتم تزويد سوريا بعشرين طائرة نوع ميغ MIG وستين دبابة نوع 34-T، وفقاً لبرقيتي السفارة الأميركية في دمشق واللتين ضمهما أرشيف وزارة الخارجية، الملفات المركزية (682.87/3 –1255 سرية).

بعد شهر واحد أعلن عبد الحميد السراج نبأ محاولة انقلابية من إذاعة دمشق. وبعد شهر واحد نشرت الحكومة السورية قائمة الاتهام وتضمنت أسماء 47 متهماً كان أبرزهم العقيد أديب الشيشكلي الذي عاد إلى المنطقة طامحاً للعودة إلى تولي السلطة بعد تنحيه.

وبين بث الخبر وإعلان تفاصيل محاولة الانقلاب كان القوتلي يقوم بأول زيارة لرئيس سوري إلى موسكو، وكان العدوان الثلاثي على مصر قد بدأ. حينها طلب القوتلي من نيكيتا خروتشوف إرسال الجيش الأحمر للدفاع عن مصر، قائلاً “أرسلوا الجيش الأحمر إلى مصر.. ذلك الجيش العظيم الذي هزم هتلر”، وأعلن خليل كلاس وزير الاقتصاد السوري بأن سوريا ستوقف ضخ النفط في أنابيب كركوك – بانياس إلى أن يتوقف العدوان على مصر”.

سوريا في مواجهة مبدأ آيزنهاور
ما تجدر ملاحظته أن فترة رئاسة القوتلي الثالثة كانت قد شهدت توسعاً هائلاً لسلطة المكتب الثاني بقيادة السراج، وتم تدشين العلاقات الدبلوماسية مع المزيد من دول المعسكر الشرقي، رومانيا والصين وتشيكوسلوفاكيا، وكي يرضي القوتلي المعسكر الغربي عيّن اللواء عفيف البزرة، المقرّب مما سمي الجناح اليساري في الجيش والذي سيرد ذكره تاليا، رئيساً لأركان الجيش الذي بلغت ميزانيته في ذلك الوقت 68 بالمئة من الميزانية السنوية العامة للدولة.

وأعلنت للمرّة الأولى أرقام التبادل التجاري والصفقات المشتركة بين دمشق وموسكو وكان من بينها صفقة سلاح بقيمة 570 مليون دولار تعهدت سوريا بتسديدها على مدى اثني عشر عاماً من عائدات القمح، وكان بطل هذه الاتفاقيات خالد العظم الذي تولى حقيبة الدفاع، كما جرى توقيع صفقة أخرى للقطن والزيت مع بولندا. وأسهم المشهد الدراماتيكي لتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر بفتح الساحة السورية أمام تمدّد التعاطف السوري مع عبد الناصر، وقد طغت العبارات المتحدية في خطاب الزعيم الصاعد وقتها والتي أعلن فيها التأميم على تصريحاتٍ أخرى مهمة تضمنها الخطاب كانت موجهة إلى السوريين، ولم يرصدها كثيرون.

قال عبد الناصر: “أنا اليوم، أيها المواطنون، أتجه إلى إخوان لكم فى سوريا.. سوريا العزيزة.. سوريا الشقيقة، وقد قرروا.. قرروا وأعلنوا أن يتحدوا معكم اتحاداً حراً سليماً عزيزاً كريماً؛ لندعم سوياً مبادئ الحرية، ولندعم سوياً مبادئ العزة، ولندعم سوياً مبادئ الكرامة، ولنرسي سوياً القومية العربية، ولنرسي سوياً الوحدة العربية. إننى اليوم أقول لإخوانكم في سوريا باسمكم: إننا نرحب بكم أيها الإخوة؛ فقد قلتم فى دستوركم: إنكم جزء من الأمة العربية، وقلنا في دستورنا: إننا جزء من الأمة العربية، وسنسير معاً، أيها الإخوة، متحدين.. يد واحدة.. قلب واحد.. رجل واحد؛ لنرسي مبادئ العزة الحقيقية، ولنرسي مبادئ الكرامة الحقيقية، ولنقيم بين ربوع الوطن العربي وبين ربوع الأمة العربية استقلالاً سياسياً حقيقياً، واستقلالاً اقتصادياً حقيقياً”.

وأخذ عبد الحميد السراج يحضّر لتفخيخ ونسف خط أنابيب النفط الذي يمر من سوريا قادماً من حقل كركوك نحو بانياس، ويعود إلى شركة بترول العراق المملوكة من قبل شركات غربية تدار من لندن، وجرى حينها تفجير ثلاث محطات ضخ على طول الأنبوب، دون أي تنسيق مع الحكومة أو رئيس الجمهورية.

وكان ذلك يجري بينما واصلت وزارة الخارجية الأميركية تصميم أفكارها حول سوريا، مقتربة أكثر من التفكير البريطاني، ما دفع الوزير دالاس لعقد سلسلة من الاجتماعات مع ممثلين من السي آي إيه كانت نتيجتها صوغ عدد من التوصيات النهائية تم رفعها إلى الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور.

أشارت التوصيات بوضوح إلى ضرورة إقامة نظام حكم في سوريا “مناسب للغرب”، بالتعاون مع العملية “ستراغل” البريطانية. ووُضعت خطة أميركية أعطيت الاسم الرمزي “مشروع أوميغا” Omega Project اشترك فيها من الاستخبارات المركزية، ألان دالاس، وخبراء شؤون الشرق الأوسط كيرمت وآرشيبالد روزفلت وويلبر ايفلاند، وعيّن رايموند هير السفير الأميركي في لبنان رئيساً للعملية.

حظي “مشروع أوميغا” بموافقة ومباركة الرئيس آيزنهاور الذي أعلن استراتيجيته آنذاك في 5 من كانون الثاني/يناير عام 1957 والتي عرفت بـ”مبدأ آيزنهاور”. ووفقاً لذلك المبدأ فإن الوجود الأميركي يعتبر “ضرورة حتمية لملء الفراغ المترتب على غياب فرنسا وبريطانيا في الشرق الأوسط”. وقد منح “مبدأ آيزنهاور” تفويضاً واسعاً للرئيس الأميركي بتقديم برامج ومساعدات بالصورة التي يراها لمنع التمدد الشيوعي، بالإضافة إلى استعمال القوة العسكرية إن اقتضت الحال. ولاعتقاده أن سوريا باتت على وشك الوقوع كلياً تحت السيطرة الشيوعية، ولخشيته من أن يؤدي ذلك إلى خسارة منطقة الشرق الأوسط برمّتها، دعم آيزنهاور “مشروع أوميغا” للبحث عن نظام حليف في سوريا.

لماذا البعث؟
بدأت عملية البحث عن حلفاء سوريين يمكن الاعتماد عليهم، وأرسل دالاس ايفلاند إلى سوريا للعثور عن أصدقاء داخليين قادرين على تدبير انقلاب في دمشق، فتحدّث مع الدبلوماسيين الأميركيين وعملاء CIA هناك، واقترح أن حزب البعث العربي الاشتراكي قد يكون مستقلّ الرأي إلى درجة تكفي لتكليفه بهذه المهمة، لكن السفير مووس عبّر عن بعض التحفظات بسبب ما سماه باختراق الفكر الشيوعي لحزب البعث.

وتشير وثائق تلك الفترة، ومن بينها ما أورده ماثيو جونز أستاذ التاريخ الدولي في كلية لندن في بحثه “بريطانيا والخليج الفارسي”، وكذلك آفي شلايم أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد في كتابه “الحائط الحديدي” الصادر عن مؤسسة روز اليوسف بترجمة ناصر عفيفي، إلى أن العملية واجهت الإخفاق بسبب اكتشاف السوريين لبعض تفاصيلها، وارتباك وتضارب المصالح آنذاك بين لندن وواشنطن. والدقيق أن أميركا كانت حينها تعمل على إزاحة البريطانيين والفرنسيين للحلول محلهم ولذلك كان المشاريع الاستخبارية المشتركة تعاني من عسر في التنفيذ.

أعدت الولايات المتحدة فوق ذلك مشروعاً آخر لتأسيس نظام قريب من الغرب في سوريا منحته الاسم Operation Wappen وكان ممولاً بمبلغ 3 ملايين دولار، هذه المرة. وكان ينص على تمويل ضباط داخل الجيش السوري، وتنفيذ اغتيالات تستهدف كلاً من عبد الحميد السراج، عفيف البزرة، وخالد بكداش، بالإضافة إلى افتعال حوادث حدودية تتسبب بتوجيه الاتهام إلى سوريا، كذريعة لغزو يمكن أن ينطلق من العراق والأردن وتغطي ذلك كله حملة إعلامية أميركية تحريضيّة داخل سوريا، ولكن المشروع تعثر وأُلغي التنفيذ في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1957.

كان الشعب السوري في ذلك الوقت يفتقد القائد المؤثر الذي يستطيع جمع وجهات النظر في الجيش والحكومة والأحزاب في اتجاه واحد، مما جعل السوريين يجدون ذلك القائد في شخصية محمود رياض، السفير المصري في دمشق، حسب وصف إبراهيم محمد إبراهيم في كتابه “مقدمات الوحدة المصرية السورية” الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب عام 1998.

في يوم الأحد 2 حزيران/يونيو عام 1957 ظهرت أولى بوادر اشتداد عصب البعث داخل الجيش، وذلك في ما سمي وقتها بـ”تمرّد قطنا” في ريف دمشق، حين سيطرت مجموعة من الضباط في طليعتهم كلٌ من عبد الغني قنوت ومحمد عمران ومصطفى حمدون على قطعات الجيش، وسيكون الشخص الذي سيقف في وجه هذا التمرّد مفاجأة للسوريين هذه المرة، إذ لم يكن سوى أكرم الحوراني الذي رفض دعم التمرّد والانقضاض على السلطة. وأبرز تمرّد قطنا انقسام الجيش السوري الحاد، وقد بدأ هذا الانقسام حين أمر القوتلي ورئيس الحكومة صبري العسلي وخالد العظم وزير الدفاع بنقل عبد الحميد السراج إلى القاهرة بعد تعاظم نفوذه، فرفض الضباط البعثيون هذا القرار وأعلنوا العصيان في معسكر قطنا وكان هذا المعسكر يضم نخبة القوات المسلحة عدة وعتاداً.

ولتلافي الصدام تدخل السفير المصري محمود رياض لدى الحكومة السورية للتراجع عن قرارها بنقل السراج، غير أن الضباط البعثيين في قطنا أرادوا تحويل العصيان إلى “انقلاب”، وظهر جناحان في الجيش السوري جناح سمي باليميني وجناح آخر يساري مثله البعثيون، وكان تراجع القوتلي والعسلي والعظم عن قرارهم نقطة البداية لتصفية الجناح اليميني في الجيش، تلته خطوة عزل رئيس الأركان، توفيق نظام الدين وتعيين اليساري عفيف البزرة في منصبه، كما ذكرت سابقاً.

أعيد تشكيل القيادة العسكرية منذ تلك اللحظة، وعُين مجلس قيادة مكون من 24 ضابطاً، من بينهم أمين الحافظ، أحمد حنيدي، جاسم علوان، عبد الغني قنوت، مصطفى حمدون، وبالطبع عبدالحميد السراج.

بدأ هذا المجلس بممارسة الحكم المباشر للبلاد، لستة أشهر، وعادت الحكومة السورية وأعلنت صيف العام 1957 عن مؤامرة جديدة لقلب نظام الحكم بتمويل أميركي، واتهمت البعثة الدبلوماسية الأميركية بتدبيرها، وأصدرت أوامر بطرد السفير جيمس مووس، وقطعت واشنطن علاقاتها بسوريا بعد طرد السفير السوري بالمقابل.

أعلن القوتلي الأحكام العرفية تضامناً مع مصر، وضجّ الشارع وتمت مهاجمة المصالح العراقية في سوريا، وتسارعت حدّة الانجراف السوري نحو الكتلة الشرقية، لدرجة أن تركيا هددت باجتياح الشمال السوري وضمّ حلب، فأعلن السوريون والمصريون عن قدوم قوات عسكرية مصرية للمرابضة في اللاذقية لردع أي عدوان تركي.

في واقع الحال، لم يكن الحوراني رافضاً لهيمنة عسكر البعث على السلطة، لكن ولأنه كان بحاجة إلى إبقائهم تحت جناح القيادة السياسية المدنية، فقد خطط لإتاحة المجال لنظامين اثنين يحكمان سوريا في الوقت ذاته، نظام ديمقراطي يمثله القوتلي وجمهوريته وحكومته، ونظام آخر مواز يمثله المجلس العسكري والجيش ومن خلفه البعث.

باسم الاندفاع القومي اتجه مجلس القيادة العسكري السوري إلى قناعة نهائية بالاتحاد مع مصر، أما الوحيد الذي حاول أن يبدو متردداً بشأن الوحدة بين البلدين، كان عبد الناصر نفسه، فاضطر لإرسال رئيس الأركان المشتركة، إسماعيل حافظ، إلى دمشق لمحاولة إقناع المجلس العسكري السوري بالتريّث والانتقال التدريجي، وأنه إن وافق على الوحدة فلن يكون للجيش مكان في سدة القرار السياسي.

بعد ذلك بأسابيع، وفي ما وصفه المؤرخون بالصدمة رغم المقدمات سالفة الذِّكر، انطلقت طائرة، مطلع العام 1958، تقلّ ضباطاً سوريين على رأسهم رئيس الأركان عفيف البزرة والملحق العسكري المصري بدمشق، وحطّت في القاهرة، لمناشدة عبد الناصر الإعلان الفوري للوحدة بين مصر وسوريا، ولم يُحط هؤلاء الضباط رئيس الجمهورية القوتلي أو وزير دفاعه العظم علماً بهذه الرحلة، بل اتخذوا القرار بأنفسهم.

وعلى عكس ما كان متوقعاً منه، لم يغضب الرئيس القوتلي من تجاوز هؤلاء الضباط له وللدولة كلها، بل أرسل وزير خارجيته صلاح البيطار لدعم الوفد في القاهرة للتحدّث باسم الدولة السورية رسمياً. وكان لدى عبد الناصر شروطه التي شملت إجراء استفتاء شعبي في البلدين حول قيام الوحدة، وأن يتخلى الجيش السوري عن النشاط السياسي، ويتحوّل العسكريون الذين مارسوا السياسية إلى الحياة المدنية، إلى جانب تشكيل مجلس نيابي يضم تنظيماً سياسياً موحّداً، وأن يكون للدولة الجديدة سياسة خارجية موحّدة وسياسة اقتصادية موحدة، وأخيراً حلّ التنظيمات والأحزاب السياسية القائمة في سوريا آنذاك.

وافق صلاح البيطار على شروط عبد الناصر، من دون مشاورة تلك الأحزاب، ومن دون معرفة قرارها حول مستقبلها السياسي أو مستقبل سوريا. وقال عبد الناصر للوفد السوري: “فلنقرأ الفاتحة ونتوكل على الله”. ولا يمكن الجزم في ما إذا كانت المرحلة التي مهّدت للوحدة السورية مع مصر، رفضاً جذرياً لمبدأ آيزنهاور، كما أعلن من حكموا سوريا وقتها، أم تطبيقاً حرفيّاً له؟

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى