
مع إنحدار نفوذ الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية وفشل العدوان الثلاثي على مصر 1956 ؛ إنتقلت قيادة العالم الإستعماري إلى الولايات المتحدة الأميركية..فكان أن سلمتها ملفاتها الإستعمارية وأدواتها في ميادين العمل المتنوعة مع ما فيها من تفاصيل وأسماء وما تتضمن من خبرات وكيفيات ووسائل في الفتنة والهيمنة والتخريب والسلب والنهب..وكان من ضمنها المشروع الصهيوني الذي أريد له أن يكون أداة الغرب الإستعماري المباشرة في تمزيق وطن العرب وأمتهم وتحويل خطوط سايكس بيكو الوهمية المرسومة على الخرائط إلى وقائع ميدانية وحقائق إجتماعية نافذة وغير قابلة للتراجع..كانت وظيفة الكيان الصهيوني الأساسية منع العرب من التحرر والوحدة والتقدم..مع ما يتضمن هذا من سيطرة على مواردهم وما يقتضيه من مصادرة حريتهم وقرارهم في الشؤون الأساسية والتوجهات الأستراتيجية..أستدعى هذا العمل في صفوف العرب لتخريبها وبلورة قوى ترتبط مصلحيا ووجوديا بالهيمنة الأستعمارية..على أساس أن يكون كل ذلك برعاية مباشرة من الغرب ورعاية غير مباشرة من دولة الكيان..
ومع إنكفاء حركة التحرر العربية وبعد آجتياح بيروت وبعد سقوط بغداد وإحتلال العراق ؛ إرتفعت أصوات عربية تتحدث ليس فقط عن تطبيع علاقات مع العدو بل راحت تنشر ما يسمى ثقافة السلام وحديث السلام ومصالح السلام وضرورة السلام مع ” إسرائيل “..
وقد تجاوزت هذه الدعوة التي تحظى بتشجيع غربي تام ؛ فكرة التطبيع بما تعنيه من إعتراف بالكيان وإقامة علاقات ديبلوماسية معها ؛ إلى حديث عن سلام ضروري ولا بديل عنه متضمنا تعاونا تاما في كافة المجالات بما فيها التنسيق الأمني والتوافق الثقافي والديني وتبادل المعرفة والخبرات والإستثمارات..ولما كان الصهاينة أكثر خبرة في كل هذه المجالات العلمية والتقنية والإقتصادية ؛ كان من الطبيعي أن يكون السلام لمصلحتهم أولا وضمان لتفوقهم بما يعني تسيدهم على القرار السياسي للمنطقة..
وكان لإتفاق كامب ديفيد بين السادات وإسرائيل بما تضمنه من إعتراف وتطبيع ؛ دورا أساسيا في دفع النظام الرسمي العربي في ذات الإتجاه..
إلا أن العامل الأبرز الذي فتح الطريق واسعا ممهدا أمام ما يتجاوز التطبيع إلى حديث السلام الكامل ؛ كان إتفاق أوسلو بين عرفات والعدو الصهيوني ..هذا الإتفاق الذي كان الأخطر بين كل تلك الإتفاقيات التي أبرمت مع دولة الصهاينة..وحتى أخطر من أية إتفاقية أخرى من المحتمل أن تعقد لاحقا..لسبب أساسي وهو أن الفلسطيني هو الطرف العربي الموقع..ولما كانت فلسطين هي القاعدة والأساس في تكوين دولة ” إسرائيل ” ومنطلقها لتأسيس مملكة أسرائيل الكبرى الممتدة من النيل إلى الفرات ؛ فإن إعتراف الفلسطيني ذات نفسه بها كان بمثابة التوقيع على قبول فنائه أوتهجيره التام بعد أن يصبح خاضعا تماما للسيادة الإسرائيلية..ثم أنه هو الذي فتح الأبواب مشرعة لما هو أبعد من التطبيع وصولا إلى السلام والذي لا معنى له سوى التسليم بالسيادة الصهيونية على المنطقة..وعلى الرغم من كل التبريرات التي سوقها أنصار أوسلو في الوسط الفلسطيني لتمرير توقيعهم عليها ، ولا سيما حجة الضغوط التي مارسها النظام الرسمي العربي على منظمة التحرير ومحاصرته لها مما أجبرها على الذهاب إلى إتفاق أوسلو..وهو تبرير مخادع وجاهل ..مخادع لذاته وجماهيره وجاهل بمعرفة عدوه وطبيعته وخلفياته العقائدية المتغطية بالدين..
ولربما كان شعار ” القرار الفلسطيني المستقل ” هو المدخل التمهيدي لأوسلو بعد أن سلك نوعا من الإنعزال الفلسطيني الذي أوقع قراره في شرك الإقليمية التي كانت تتربص به وبثورته تمهيدا للإنقضاض عليها..
إن الإعتراف الفلسطيني بالعدو وحقه في السيطرة على معظم أرض فلسطين كان هو المسار الذي أوصل إلى نتيجتين أساسيتين
#الأولى : أوصل النظام الرسمي العربي إلى ما هو عليه من تقبل وإستعداد لما هو أكثر من التطبيع أي إلى السلام والتسليم..لا يعني هذا أن هذا النظام كان بعيدا تماما عن أفكار ” السلام ” لكنه إنطلق فيها بكل ثقة وعلنية وشجاعة بعد أوسلو..
# الثانية : أعاد ترسيخ حقيقة المشروع الصهيوني في عقول من كادت تلك الحقيقة تغيب عنهم فيصدقون كلاما تسويقيا بشعارات السلام المزعوم..المؤسف أن الفلسطيني هو الذي كاد أن ينخدع بحقيقة الصهيونية..بل أن جزءا واسعا من أبنائه ذوي التاريخ النضالي الممتد قد إنخدعوا فعلا أو أرادوا خداع أنفسهم لأسباب غير مفهومة وغير مبررة حتى الآن..
وهاتان النتيجتان ؛ الأولى والثانية ؛ هما من أثبتا – لمن يريد أن يتحقق ويعرف – إستحالة أي نوع من ” السلام ” مع العدو الصهيوني..
ففضلا عن أن هذا السلام الموهوم يحمل إعترافا واقعيا بشرعية الإحتلال وإغتصاب أرض فلسطين العربية ؛ إلا أنه قد حمل أدلة عملية واقعية أيضا بإستحالة مثل هذا السلام لأن الصهيوني لا يتقبله ولأن عقيدته الصهيونية بذاتها لا تسمح له بذلك حتى وإن أراد..
فالنظام الرسمي العربي الذي طرح – مجتمعا – ما سمي بمبادرة السلام العربية سنة 2002 ؛ إلا أن الإسرائيلي بقي على تعنته ورفضه وعدم إعترافه بأية وقائع لا تمكنه من السيادة التامة وإمساك قرار المنطقة والتحكم بمصيرها..يتضمن هذا تهجير وقتل أكبر عدد من الفلسطينيين بكل وسائل القوة والتدمير والإبادة.. وبغيره لا تتحقق له سيادة ولا يطمئن إلى سلام أو مستقبل وتطبيع..
كانت الدول العربية مجتمعة مستعدة للإعتراف والتطبيع وهي تظن أنها سوف تحصل على سلام ؛ ومع ذلك رفضها الجانب المقابل لأنها لا تلبي مطامعه الكاملة..رغم أنها كانت فرصة ذهبية لمنطق الإعتراف والتطبيع والسلام ..
أما في الجانب الفلسطيني فكانت الحقائق أكثر تحديدا وتوثيقا وتوكيدا على عدم قابلية الكيان الصهيوني لتقبل السلام ؛ حتى رغما عمن حاول إقناع نفسه بإمكانية ذلك السلام..لقد أعطاه طرف فلسطيني أساسي كل ما أراده في أوسلو فما أستطاع أن يعطي شيئا مما تعهد به بالمقابل ؛ على الرغم من أن بعض أطرافه حاول ذلك ففشل..لسببين :
الأول : لأنه لم يكن راغبا ومقتنعا بما يكفي.
الثاني : أنه لم يستطع تخطي قناعاته العقيدية فتراطع عن كل إلتزاماته فلم يعط الفلسطيني شيئا بعد أن أخذ منه كل شيء..
يكفي هذا للتأكيد على إستحالة أي سلام ولو كان مجتزأ ..لأن العقل الصهيوني الذي يحكم ويتحكم بالقرار الإسرائيلي لا يمكنه أن يتقبل هذا فضلا عن أنه لا يريد..
كان أمام فرصتين تاريخيتين :
الأولى عندما قبل به الفلسطيني فخدعه وسلبه كل شيء..
الثانية عند إجتمع النظام العربي ومد يده إليه فرفضها وأعادها خائبة..
كل هذا يؤكد أن الصهيونية عقيدة مستحيلة..فلا هي تقبل بالسلام ولا هي تتقبل الآخر الفلسطيني أو العربي لأن حدود معاييرها ” الدينية ” التي تمثل أساس بنيانها الفكري والسياسي والأمني ؛ لا تتنازل ولا تتراجع ولا تحتمل أي شيء من هذا..فهي تريد كل شيء دون أن تعطي مقابلا..
كان هذا فيما قبل طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 ، أما ما كان بعده فيجعل الحقائق أشد وضوحا وأعمق رسوخا بدليل الوقائع الميدانية..ولقد كان من فضائل تلك الوقائع أنها بينت إلى غير رجعة ودون الحاجة إلى أية إضافة توضيحية ، إستحالة التوافق مع عقل الصهيونية لأنها ببساطة عقيدة مستحيلة لا تقبل التجزئة ولا تقبل النزول ألى الواقع فلا ترى في الآخر ؛ الفلسطيني والعربي ؛ إلا حيوانا بشريا ما خلقه الله إلا لخدمته هو..فيحق له قتله وسلخه وتعذيبه لأنها إرادة الله وهي التي تبيح له مثل هذا بل تأمره به أمرا لا راد له..فهو يقتل المدنيين والأطفال والنساء وهم غير محاربين..بل يتلذذ بالقتل ويمارسه كهواية صيد الطيور الجميلة..
ليست الوقائع وحدها ما ينبىء بهذا ، بل تصريحات كل المسؤولين الصهاينة فيؤكدون عقيدتهم الصهيونية التي ليس فيها إلا قتل الآخر أيا كان..
إن الطرف الحاكم الأقوى الآن في دولة الكيان هم أصحاب عقيدة الصهيونية الدينية الذين يبررون كل جرائمهم الوحشية وما فيها من إبادة جماعية وتدمير شامل ؛ بما يحملون في رؤوسهم من إدعاءات تلمودية تجعلهم فوق البشر بل فوق جماجم البشر..
جاء في سفر التثنية : 6 -7 ( التوراة – العهد القديم ) :
” لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك ، إياك قد إختار الرب لكي تكون له شعبا خاصا فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض “
أما في سفر التكوين 18- 15 :
” في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقا قائلا : لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير ، نهر الفرات “..
وفي سفر الخروج : -6-19-5
” فألآن إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي ، تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب …وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة “..
ومن التلمود : ” غير اليهود ليسوا بشرا بحق ” و ” فقط اليهود يعدون بشرا ، أما باقي الأمم فهم كالحمير “..
و ” أرض أسرائيل لليهود فقط ..من يعيش في أرض إسرائيل كأنه له إله ، ومن يعيش خارجها كأنه بلا إله “..
إذا كانت هذه عقيدتهم المقدسة التي يتمسكون بها بكل فخر وإعتزاز ؛ فكيف يمكن إقامة أي نوع من ” السلام ” معهم ؟؟
إنها العقيدة المستحيلة .فلا هم يتنازلون عنها ولا الشعب الفلسطيني والعربي بوارد التخلي عن تحرير أرضه مهما طال الزمن أو كانت إغراءات السلام الموهوم..
المصدر: كل العرب